لم تكد إيران تفيق من صدمة إزاحة نفوذها في لبنان لتتلقى أخرى بالبدء في سيناريو شبيه بسوريا بعد سيطرة فصائل مسلحة على حلب وانتزاعها قواعد الحرس الثوري في غرب وجنوبي المحافظة الإستراتيجية، وفي ظل عجزها عن التصرف وارتيابها في موقف حلفاء تقليديين مثل روسيا لجأت إلى الإنكار، متوهمة العثور على منطقة رمادية مشتركة مع تركيا وقطر، كما لو كانتا لا دخل لهما في هجمات هيئة تحرير الشام الأخيرة.
عكس تعلق طهران بقشة “أنقرة – الدوحة” المتوهمة شعورها بالعجز حيال تطورات متسارعة تقصيها من المشهد الإقليمي وتنزع أذرعها وكل ما بنته خلال سنوات من ساحة تلو أخرى، خاصة أنها تلمس أن ما جرى وسيجري يحصل عبر تفهامات دولية وإقليمية وبرضا روسي وبضلوع تركي – قطري لاستبدال نفوذها بآخر ولتكريس واقع مختلف في سوريا والشرق الأوسط عموما.
اقرأ أيضا.. لماذا تلعب تركيا دورًا رئيسيًا وراء هجوم المتمردين في سوريا؟
ينبغي التنبه لطبيعة استثمار التطورات والتحولات الكبرى في الشرق الأوسط منذ بدء هجوم طوفان الأقصى في أكتوبر العام الماضي وتداعياته المعروفة، في ما يتعلق بالقوى الإقليمية الفاعلة والمنخرطة في مشاريع النفوذ، حيث اتسمت تحركاتها بالسرعة والبراغماتية مع مراكمة ما تتمكن من خلاله من ملء الفراغ الإقليمي المرتقب في اللحظة المواتية.
من الواضح أن تركيا بالتنسيق مع قطر قد خططت جيدا للعودة للعب جولة إضافية بعد استراحة قصيرة لتعويض ما فات وما خسرته ليحل نفوذها (السني) محل نفوذ إيران (الشيعي) عبر جهود أذرع سنية موالية لها والبدء في تحريك فصائل إسلامية متطرفة داخل سوريا، وخلق معادل إسلامي في الموازنات الدولية عقب تقزيم معادل إسلامي آخر، يحقق مصالح القوى صاحبة امتياز توظيف الإسلام السياسي (تركيا وقطر)، فلا تُهمش بعد تفكيك حماس وما سبقه من انهزام ساحق لجماعة الإخوان، ولا تصيبها ارتدادات زلازل التحولات الجارية مجهولة النهايات.
تقدمت تركيا للدفع بحالة إسلامية بديلة تحرص على ألا تُقارن بحالة أذرع إيران المهزومة لتصبح الرقم الأول في معادلة الإقليم، مستندة إلى علاقاتها الدولية وقدرتها على المزاوجة بين اللعب بالوكلاء والمناورة السياسية وعقد تفاهمات مع مختلف القوى والقدرة على اللعب تحت سقف المصالح الدولية، ما يجعل منحها أدورا وفرصا لملء الفراغ مقبولا بالمقارنة برفض أدوار إيران.
وسبق التحرك في سوريا الترويج دعائيا لفرضية تشكيل “جيش إسلامي من أجل فلسطين” على لسان مدير شركة “سادات” المقرب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاستكمال الصورة المطلوبة لمحور إسلامي سني بديل ومكافئ لمحور المقاومة الذي شكلته إيران، وهو ليس بالضرورة جيشا يتصدى على الأرض لهجمات إسرائيل بقدر ما هو إشارة دعائية تُوهم الفضاء الإسلامي بالتأثير في الملف الديني الرئيسي، وبالاستعداد بأوراق وأدوات مختلفة للانتشار في كامل الفراغ الذي تركه وراءه محور إيران.
وذلك في سياق رؤية توظف سمعة تيار العثمانيين الجدد الذي لم يفقد كامل بريقه في الأوساط الإسلامية وداخل الجماعات الدينية، للاشتباك مع إشكالات الإقليم والإمساك بملفاته من سوريا إلى فلسطين لتعظيم النفوذ.
شكلت تركيا بالتنسيق مع قطر تحالفا لوراثة الحالة الإيرانية المتراجعة، ولقطع الطريق أمام دور عربي يدمج سوريا في المجتمع الدولي بمعزل عن نفوذ المحاور الإقليمية غير العربية، ما يمكن تسميته بمحور مقاومة سني مُدجَن بأذرع مسلحة، تفاديا للفشل الذي سبق ومُنيت به عندما رعت وتحالفت مع الإخوان في السلطة.
وإذا كانت جماعة الإخوان قد سقطت سريعا جراء ثورة شعبية حرسها الجيش فإن تيار الإسلام السياسي المسلح ممثلا في الفصائل السورية المعارضة وفي القلب منها هيئة تحرير الشام قادر بسلاحه على التصدي لحراكات جماهيرية مماثلة في المستقبل عبر فرض الأمر الواقع بالقوة على غرار نموذج حركة طالبان، كما يضمن استمراريته توجيهه وفق مسارات الدبلوماسية التركية التي تدور في فلك الولايات المتحدة، والتنسيق مع روسيا، مراعية الحاجة إلى إنهاء نفوذ إيران وعدم تهديد أمن إسرائيل.
يصعب إغفال مراحل التطور التي مرت بها شخصية أبومحمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام (كمعادل ووارث لدور زعيم الميليشيا الشيعية)، مجسدا مستوى التطور في خطاب وأداء فصيله، فهذا الأمر غريب جدا على الفصائل الجهادية التقليدية وليس من السهل أن يتحقق باجتهادات ذاتية، ولا بد أنه خضع لدورات تدريب وتأهيل استخباراتي لينفصل عن ماضي الإرهاب المعولم وإظهار العداء للغرب والتعامل بقسوة وإقصاء مع المكونات الداخلية والمختلفين في العقيدة والمذهب، ليصبح هذا النموذج الذي نراه جامعا بين حمل السلاح لتحقيق الأهداف والحماية بالقوة وبين أداء وخطاب المواءمات والموازنات.
ووضح ذلك في رسائل الجولاني وهيئته لروسيا بهدف تحييدها معتبرا إياها شريكا محتملا في (بناء مستقبل مشرق لسوريا) بعد أن اعتبرها قوة احتلال، فضلا عن خطاب ضمان حماية القنصليات وسلامة المدنيين والبعثات الدبلوماسية ومنع الاستهداف على أساس مذهبي وعرقي والرفق بالسكان تحت عنوان ما أسماه الجولاني “يوم المرحمة” بالتزامن مع دخول قواته حلب، لإثبات أنه قائد كيان معتدل ومسؤول يسعى للحفاظ على الأمن والاستقرار وأنه طرف يمكن التعامل معه في المستقبل، ما يفيد الجهود السياسية التركية التي تحرص على نجاح عمليتي “ردع العدوان” و”فجر الحرية” وتثبيت الوجود الميداني بلا انتهاكات لحقوق الإنسان.
تواجه هذه الحقائق التي تثبت وقوف تركيا وقطر وراء سقوط حلب تحت سيطرة هيئة تحرير الشام بما تمثله المدينة جغرافيا وثقافيا وإستراتيجيا من أهمية قصوى حيث تعتبر نقطة ارتكاز تحدد مواقع القوى المتصارعة في البلاد ومن يسيطر عليها يملك مفتاح إعادة تشكيل المشهد السوري باعتراف قادة الحرس الثوري أنفسهم، حالة إنكار من قبل الإيرانيين الذين لم يلمسوا جدية من الروس لدعم هجوم معاكس ولعدم امتلاك تصور وآلية بشأن كيفية دعم النظام السوري ومنع المزيد من التدهور.
فهم من جهة غير قادرين بشكل مباشر على نقل آليات وخبراء وضباط من الحرس الثوري إلى سوريا حيث يضر ذلك بنظام الرئيس السوري بشار الأسد وقد يتسبب في إسقاطه بضوء أخضر أميركي وغطاء دولي، ومن جهة أخرى باتت القوى الشيعية في الإقليم تستشعر حجم تراجع قوة إيران والرغبة الدولية بتحجيم نفوذها ولا ترغب في أن تكون هدفا يوميا للاستهداف الإسرائيلي ما يعني محدودية القدرة على الاستعانة بميليشيات شيعية عراقية تجد في الانتكاسات الإيرانية عبئا ثقيلا عليها.
تعاملت أنقرة مع الحالة الإيرانية التي يُرثى لها أولا بعنجهية وبدا أنها تثأر لكرامتها عندما تراجع نفوذها الإقليمي بسقوط فروع الإسلام السياسي السني وجماعة الإخوان فيما صعد محور طهران على أنقاضه، وهو ما وضح في شروط التفاوض التي ساقها وزير الخارجية هاكان فيدان، وكيف لا ووكلاؤه قد حققوا إنجازا نوعيا بالسيطرة على حلب وأريافها وهي ليست العاصمة الثانية فقط إنما ترمز لسيطرة النظام على مفاصل الدولة، ومن غير المستبعد أن تجعلها المعارضة مركزا لحكم انفصالي ودولة سورية رديفة وفقا لبرامجها وتصوراتها وتحالفاتها، وثانيا تعاملت بوقاحة واستخفاف.
ويكفي أن يقول فيدان إنه لا وجود لتدخل خارجي وهي نكتة بحد ذاتها، وإلا كيف نفسر قول أردوغان قبل العملية بأن بلاده ستطهر الحدود الجنوبية لتركيا من البحر المتوسط حتى حدود إيران، وكيف نفهم تهديدات فيدان نفسه للأسد قبلها بأربعة أيام بزعم أنه غير راغب في تحقيق السلام في سوريا وأن بلاده لن تنسحب إلا بعد قبول دستور جديد وإجراء انتخابات حرة.
صبت المكاسب التي حققتها الفصائل في مصلحتها. فما تحقق لم يكن في أحلامها لكنه تحقق بتطوير لقدراتها وخبراتها ومعلوماتها الاستخباراتية وتسليحها ومواردها وحتى غذاء مقاتليها من قبل تركيا وقطر اللتين منعتا إلى الآن سوريا من الانتقال إلى المجال العربي بعد مفارقة ظل إيران، ومنعتا الإسلام السياسي السني مجددا من الانحدار والحرق بعد كارثة جديدة وانتكاسة أخرى ساحقة عقب طوفان الأقصى، ومنعتا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وقوات حماية الشعب الكردية من أن تكون هي المستفيد الأول في المشهد السوري والإقليمي من تقليص نفوذ إيران وأن تملأ هي الفراغ الذي خلفه انسحاب وتقويض الميليشيات الإيرانية في سوريا.