محددات الرد الإيراني على مقتل هنية
تتمنى طهران لو أن يأتي الصباح بخبر التوصل إلى هدنة في غزة لتقول إنها حصلت على حقها ولم تعد معنية بالرد، وتتخلص بالتالي من كابوس الرد وتداعياته المحتملة وما قد يجره عليها من تورط في حرب لا تريدها
ينشغل الإقليم والعالم كله بالرد الموعود، حيث يطرح الخبراء في الشؤون العسكرية، وبشكل يومي، سيناريوهات عديدة لشكل الرد الإيراني ونمطه، وكذلك التداعيات المحتملة، وخاصة إذا كان الرد الإيراني مؤلما لإسرائيل، حسبما تتوعد إيران على لسان مسؤوليها.
الواضح أن تأخر الرد جلب لإيران فوائد قد تكون عوائدها أكبر من الرد نفسه، فقد وضعت إسرائيل في حال من القلق والتوتر، لدرجة أن حكومة إسرائيل باتت تتمنى لو يحصل الرد وتخرج من حالة القلق والتوتر التي تؤثر بكل كبير على الإسرائيليين، ومن جهة أخرى أدى تأخير الرد إلى وضع إيران في دائرة الاهتمام الدبلوماسي العالمي، وخاصة الأطراف الغربية التي تدعم إسرائيل وتظهر كأنها تتوسل إيران كي تلغي فكرة الرد، أو على الأقل ألا يكون الرد مؤذيا لإسرائيل.
لكن بعيدا عن هذه التفاعلات الحاصلة، ألا يشي تأخر الرد بوجود إشكاليات لدى الجانب الإيراني؟ لمعرفة دقة هذه الفرضية يتوجب نقاش ظروف البيئة الاستراتيجية ومعطياتها التي تشكّل خلفية للموقف الإيراني، وذلك في بعديها التقني والسياسي.
تقنيا: تظهر المعطيات العسكرية ضعف الفعالية الإيرانية، وعدم قدرة إيران على إنتاج رد خارج صندوق أدواتها، التي أصبحت مكشوفة ومعروف حدود فعاليتها، فإيران عمليا لم تطور تكتيكاتها واستراتيجياتها العسكرية، وجيشها متخلف بدرجة كبيرة وعلى جميع المستويات، رغم تصنيفه في المركز الرابع عشر على مستوى أفضل جيوش العالم، ولا ندري دقة المعايير التي تم على أساسها إعطاؤها هذه المرتبة، ذلك أن درة قوتها العسكرية تكمن في فيلق القدس الذي لا يختلف عن أي مليشيا يقودها، حتى أن حزب الله مثلا، العامل في نطاق القوى التي يديرها الفيلق، متقدم بدرجة أكبر في تكتيكاته وأساليبه عن فيلق القدس، وقد أثبتت معارك الفيلق في سوريا أنه لولا قيادة حزب الله لما كانت للقوة الإيرانية أي فعالية تذكر.
من جهة أخرى، تعتمد العقيدة العسكرية الإيرانية على تكتيك الكثافة البشرية في الهجوم، كما تم ممارستها في الحرب مع العراق، وفي الحرب السورية ضد الفصائل، وهذا غير ممكن استخدامه في الرد على إسرائيل، بالإضافة الى عدم خبرة الإيرانيين في الحروب الكلاسيكية، إذ أنهم لم يخوضوا منذ أكثر من ثلاث عقود سوى حروب مليشيات، ويزعمون أنهم يقدمون الاستشارة في سوريا واليمن، فضلا عن ذلك، فإن التقدم الذي حققوه في مواجهة فصائل المعارضة السورية وداعش في العراق، اعتمد بدرجة كبيرة على غطاء جوي روسي أو أمريكي حرق البشر والحجر، وهذا لن يكون متوفرا في ردهم على إسرائيل، حيث سيقتصر الأمر على بضع مسيّرات وصواريخ، وهذا أقصى ما تملكه إيران، سيتم إسقاطها فوق الأردن.
سياسيا: سيكون الرد الإيراني محكوما باعتبارين مهمين، لا بد أن صانع القرار الإيراني يضعهما في حساباته مسبقا ويحاول صياغة رد يتناسب معهما إلى أبعد الحدود:
الاعتبار الأول: الحراك الدائر في المنطقة وانعكاسه على الوضع الجيوسياسي الإيراني، فالمنطقة تتحضّر لما تمكن تسميته إعادة تشكيل في المرحلة المقبلة، وقد تتشكل هياكل تحالفات فعلية، وربما يعاد تصميم منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ولا تريد إيران أن تخسر أوراقها، أو تعرض قوتها للاستنزاف في هذه المرحلة، وبالتالي تصبح خارج المعادلات الإقليمية، وهو ما تحاذر منه إيران وتحاول الهرب منه. وهذا الأمر يفرض محدودية أي تحرك إيراني تجاه إسرائيل في هذه المرحلة، مع إدراكها أن بنيامين نتنياهو يتمنى تورط إيران في الحرب لينتهي من الوجع الذي تشكله له مرة واحدة وإلى الأبد.
الاعتبار الثاني: عدم إضعاف موقف الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتقديم الفرصة على طبق من ذهب لترامب الذي لا يخفي عداؤه لإيران وتوعده لها بالويل والثبور حال وصوله للبيت الأبيض، فأي تصعيد ضد إسرائيل في الوقت الحالي سيشكل إحراجا لإدارة بايدن والمرشحة كامالا هاريس، وقد يؤثر على قنوات التواصل المفتوحة بين الطرفين للتفاوض حول الملف النووي.
ثمة حقيقة ظهرت في أجواء المنطقة مؤخرا تبدو مربكة لإيران، تتمثل بوجود ميل لدى بعض وكلائها الإقليميين للتفلت من ربقة السيطرة الإيرانية، في سوريا، وفي العراق إلى حد ما، وظهور لاعبين إقليميين ودوليين، يطمحون بالاستيلاء على نفوذ إيران، التي قد تتحول إلى “رجل المنطقة المريض” في حال تصعيد وتيرة صراعاتها مع إسرائيل التي ستساندها أمريكا حتما، بغض النظر عن الإدارة التي تحكمها.
من قال إن إيران لا تتمنى لو أن يأتي الصباح بخبر التوصل إلى هدنة في غزة لتقول إنها حصلت على حقها ولم تعد معنية بالرد، وتتخلص بالتالي من كابوس الرد وتداعياته المحتملة وما قد يجره عليها من تورط في حرب لا تريدها؟