مثل سوناك وماكرون، نتنياهو سيحلّ الكنيست ويدعو لانتخابات مبكرة
ما الذي يمنع نتنياهو من أن يتصرّف بالمثل ويحلّ الكنيست، ثم يذهب إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل؟ لا شيء بالطبع، لكن هذا ليس احتمالاً نظرياً وحسب، بل إن الوقائع على الأرض وحسابات السياسة تدعمه بشدة.
الانتخابات المبكرة هي العنوان الأبرز في العام 2024، وتحديداً في الأيام الأخيرة. فلقد تابع المهتمّون، على مدار ساعات، ثلاث عمليات انتخابية مهمة في ثلاث دول مهمة، هي على التوالي، إيران، إنجلترا وفرنسا.
ليس هدف هذا المقال هو تحليل نتائج هذه الانتخابات في الدول الثلاث أو انعكاسها على وضعنا الفلسطيني، أو على مسار الحرب في غزة، بقدر ما هو الإشارة إلى بعض السمات المشتركة، ومحاولة القياس على هذه السمات، وليس على النتائج، من أجل فهم، أو على الأقل توقع، ما قد يحدث في منطقتنا الملتهبة. بلغة أخرى: محاولة التنبؤ بتصرّفات نتنياهو مثلاً وليس حصراً، قياساً على تصرّف إيمانويل ماكرون أو ريشي سوناك، وليس قياساً على ما أفرزته هذه الانتخابات من أحزاب أو مجموعات أو حتى قيادات جديدة لا تروقه بالضرورة.
الوضع في إيران ليس مطابقاً تماماً، في المقدّمات على الأقل، لما حصل في إنجلترا وفرنسا، ولذا فهو بحاجة إلى بعض الاسترسال في المعالجة، وذلك من أجل رسم صورة عامة لما ستؤول إليه الأمور، فيما لو تحققت التوقعات أو السيناريوهات المحتملة.
إذن، فلنبدأ من إيران، ومن قدرة هذا النظام على المراوغة، سواء بفرض شروطه أو بقبول شروط الآخرين.
لقد جاء “مقتل” الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته عبد اللهيان، في مصلحة النظام، لذا فإن استخدام كلمة مقتل، هنا، ليس جزافاً، إذا اتفقنا أن السياسة، فضلاً عن كونها “فن الممكن”، هي أيضاً فنون المستفيد.
لقد أدت إيران دورها كاملاً فيما يخصّ الحرب على غزة، ومن أجل أن يفهم القارئ كيف تم ذلك، علينا أن نعيد تسمية هذه الحرب بـ “الحرب في المنطقة”. مع هذا التعريف، فإن إيران أحرجت العالم في البحر الأحمر وتسبّبت له بأزمة اقتصادية، وهي أحرجت النظام العربي القائم بالتشكّل بقيادة الخليج، وذلك في لبنان والعراق وسوريا، كما أنها أحرجت إسرائيل بهجومها الشهير عليها بالمسيّرات والصواريخ. ما الذي يمكنها أن تقوم به أكثر من ذلك، ودون أن يتسبب لها بتحالف عالمي ضدها يؤدي إلى حرب شاملة عليها، كما حصل في العراق خلال حرب الخليج الثانية؟
إذن هناك حرب في المنطقة بين إيران وأمريكا، وهي تدور على هامش الحرب الغاشمة على المدنيين في غزة. للصراحة لا أستطيع الجزم أي منهما تدور على هامش الأخرى، لكن الأولى أدّت أغراضها إيرانياً، وحان وقت قطاف النتائج.
والنتائج باختصار شديد هي قبول إيران كلاعب إقليمي في المنطقة، وإعادة فتح مفاوضات ملفها النووي والوصول إلى اتفاق مع الغرب بخصوصه. هذه النتائج لا يمكن الوصول إليها بالأدوات القديمة ذاتها وما يرافقها من خطاب قائم على الحرب ومعاداة الغرب. لذلك لا بد من واجهة سياسية جديدة، وذات خطاب معتدل، حتى لو ظلّ أسيراً للسياسة العامة للدولة ونهجها، أو تحت رحمة هذا النهج على الأقل. أقصد أن الخطاب الجديد ضروري لإقناع العالم أن إيران تغيّرت، وهي قابلة للانخراط في حلول مع الغرب، أما النهج القديم فهو ليس أكثر من “خط رجعة” فيما لو لم تنجح الأمور.
من هذا المنطلق، إن ما حصل في إيران ليس انتخابات بقدر ما هو ترتيبات انتخابية مدروسة وموجّهة، تؤدي في النهاية إلى وصول الإصلاحي مسعود بزكشيان، إلى سدّة الحكم. فمع هذا الإصلاحي تتخلّص إيران من خطاب المعاداة للغرب، و تنكفئ إلى مصالحها الخاصّة، دون أن تُغضب حلفائها وتشكيلاتها في المحيط العربي، أو على الأقل تترك لهم تصريحات لفظية من الدعم على لسان المرشد العام ورموز الدولة العميقة، وحتى على لسان الرئيس بزكشيان نفسه، كما حصل أمس في الرسالة الموجهة منه إلى زعيم حزب الله حسن نصرالله، والتي يؤكّد فيها عدم تخلي إيران عن الحزب واستمرارها بدعمه. سيستمرّ ذلك إلى حين الوصول إلى التفاهمات النهائية في المنطقة، طبعاً دون أن نغفل أن هذا السيناريو سيظل قائماً ويكتسب مبرّرات نجاحه على افتراض دورة ثانية للديمقراطيين في البيت الأبيض.
هذا ما يخصّ الانتخابات في إيران، أما ما حصل في إنجلترا، فهو أن ريشي سوناك دعا إلى انتخابات مبكرة بسبب مشاكل اقتصادية بالأساس، لم يستطع حزب المحافظين التعامل معها منذ حكومة ديفيد كاميرون، مروراً بتيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تراس، وصولاً إلى ريشي سوناك وحكومته. أما فيما يخصّ إيمانويل ماكرون، فقد كان الدافع لحل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة هو دافع ثقافي، يتعلق بهوية فرنسا، وذلك بعد النتائج التي حققها اليمين المتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي.
ما الذي يمنع نتنياهو من أن يتصرّف بالمثل ويحلّ الكنيست، ثم يذهب إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل؟ لا شيء بالطبع، لكن هذا ليس احتمالاً نظرياً وحسب، بل إن الوقائع على الأرض وحسابات السياسة تدعمه بشدة.
لقد صمد نتنياهو وحكومته في مواجهة تظاهرات أهالي المحتجزين شهوراً طويلة، وصمد هو وحكومته في مواجهة التصريحات اليومية للمعارضة برئاسة لابيد، بضرورة تنحيته والذهاب إلى انتخابات، وصمد أمام انسحاب غانتس وأيزنكوت من مجلس الحرب، وأمام تململ وانتقادات المستوى العسكري.
كل ذلك لأنه يعلم أن لا معارضة الشارع ولا المعارضة البرلمانية بإمكانهما إسقاطه، وأن الحالة الوحيدة التي يمكنها ذلك هي انفراط عقد الحلفاء في الحكومة نفسها. هل سيحدث ذلك قريباً؟ على الأغلب. لكن نتنياهو سيقوم بخطوة استباقية ليؤكّد مجدداً، للحلفاء والخصوم، أنه هو من يتحكّم بخيوط اللعبة. هذه الخطوة ستضعه في صدارة المؤهلين لتشكيل حكومة جديدة، خصوصاً وأن لا أحد من معارضيه سيستطيع تحقيق أغلبية برلمانية تمكنه من إجراء تحالفات لخلق كتلة متماسكة في الكنيست، للخروج بحكومة تختلف سياساتها عن سياسات نتنياهو.
إذن الخيارات في المدى المنظور هي إما استمرار هذه الحكومة بقيادة نتنياهو، وذلك بإرضاءات سياسية لهذا الحليف، ورشوات أيديولوجية لذاك الحليف، بالتوازي مع استمرار الحرب، وإما الذهاب لانتخابات بطلب من نتنياهو نفسه، للوصول إلى حالة من الشلل الحكومي وانتخابات تتلوها انتخابات كما حصل قبل سنوات قليلة، وذلك أيضاً بالموازاة مع استمرار الحرب.
ما يعنينا هنا أن الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، وعلى المشروع الوطني عموماً، مستمرّة، وكل محاولات تصوير نتنياهو كمهزوم أو كمأزوم حتى، ولو كانت صحيحة، هي محاولات لتقزيم مطالبنا وأهدافنا، واختصارها في الانتصار عليه. ومع ذلك فإن هذا الهدف السخيف نفسه ليس في وارد التحقّق في المدى المنظور، رغم كل ما قيل فيه، ورغم كل ما تم من تضخيم له من طرف ناشطينا والمتحدثين باسمنا.
الحرب القائمة هي حرب مصالح كبيرة في المنطقة، وعلينا أن نعيد ترتيب أوراقنا واصطفافاتنا، كي لا تكون الرصاصة الأخيرة فيها نحونا.