مباراة بايدن وترمب.. وكرسي البيت الأبيض
ليس أكثر من الأخطار سوى الفرص في أميركا، لكن قوة عظمى مثل الولايات المتحدة لا تجد في مواجهة الأخطار واغتنام الفرص سوى عجوزين يتنافسان ثانية على البيت الأبيض.
معركة الرئاسة في أميركا تدور عادة بين مرشح جالس في البيت الأبيض ومرشح يطرح شعار الحاجة إلى فكر جديد ودم جديد. هذه المرة هي على طريقة الأندية الرياضية: مباراة ثانية بين رابح وخاسر في مباراة أولى: معركة بين مرشحين مجربين اختبرهما الناخبون في الرئاسة: دونالد ترمب وجو بايدن. ولا جديد لدى أي منهما منذ خاضا معركة عام 2020. بايدن الديمقراطي سياسي كلاسيكي تكونت أفكاره خلال الحرب الباردة، قضى سنوات طويلة كواحد من “الإستبلشمنت” عضواً في مجلس النواب ثم مجلس الشيوخ ورئيساً للجنة الشؤون الخارجية فيه، ونائباً للرئيس، ثم رئيساً. ومن السهل توقع ردود فعله لأنها محسوبة، “لائق وصادق ومخلص، لكنه قد يثير مشكلة كبيرة إذا أعتقد أنه لم يأخذ حقه من الاحترام”، كما كتب الرئيس باراك أوباما في مذكراته “أرض موعودة”.
ترمب الجمهوري قطب عقارات وظاهرة تلفزيونية بلا خبرة سياسية. تعلم من والده أن “العالم مباراة صفرية بين رابحين وخاسرين”، ويريد أن يكون الرابح دائماً، فإذا خسر ادعى أنه رابح مسروق. لم يعترف حتى اليوم بأنه خسر انتخابات 2020 أمام بايدن، ولا ندم على تحريض أنصاره من الغوغاء على اجتياح الكونغرس لمنع نائبه مايك بنس من إعلان فوز بايدن، ولا يزال يقول إن “الهجوم على الكونغرس كان واحداً من أعظم التحركات في التاريخ لإعادة عظمة أميركا”. خاضع لمحاكمات بـ91 تهمة، كذاب نصاب، محتال، مزاجي، سريع الغضب، لكن أنصاره يتكاثرون في ما يسميها حركة “ماغا” (اجعل أميركا عظيمة ثانية)، و”لا تستطيع منع الشعب من الإيمان بهراء مجنون”، كما يقول فرنسيس فوكوياما.
والمفارقات مذهلة في الاتجاهين، ومن الصعب وضع تحليل كامل لها. خلال ولاية بايدن الرئاسية خلقت 11 مليون وظيفة إنتاجية وتجديد البنية التحتية، غير أن النتائج السياسية مختلفة: الأكثرية ترى أن ترمب الدجال أفضل في الاقتصاد من بايدن. والواقع أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري تغيرا كثيراً. الحزب الديمقراطي الذي هو تقليدياً حزب الطبقة العاملة والملونين والناخبين الذين لا شهادات جامعية لهم، وهم يشكلون 60 في المئة من المقترعين، وبايدن واحد منهم، صار “حزب النخبة المتعلمة وغالبيته الأقليات”، كما يقول الخبراء. والحزب الجمهوري، حزب أبراهام لينكولن، خطفه ترمب، وادعى أنه الوحيد القادر على “إنقاذ الولايات المتحدة من الديمقراطيين ذوي النزعة الحربية، ومن الأغبياء في حزب جمهوري يديره وحوش ومحافظون جدد ومدافعون عن العولمة”.
وما فعله ترمب هو أن الحزب الجمهوري صار حزب الطبقة العاملة البيضاء والساخطين على النخب. لينكولن وحد أميركا خلال الحرب الأهلية مع الولايات الجنوبية الانفصالية، وحرر العبيد. وترمب أسهم في تعميق الانقسام الأميركي واللعب بحرب الهويات الخاصة بعدما توحدت الهوية الأميركية وتكرست بانتصار لينكولن في الحرب الأهلية، وانتصار وودرو ويلسون في الحرب العالمية الأولى، وفرانكلين روزفلت في الحرب العالمية الثانية، ورونالد ريغان وجورج بوش الأب في الحرب الباردة.
الشيء المؤكد مع بايدن هو العودة للقيادة والدبلوماسية والشراكة ضمن مبدأ القول للحلفاء في أوروبا والشركاء في الخليج وكل الشرق الأوسط: “لن نفعل أي شيء من وراء ظهوركم”، بحسب منسق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك. والشيء المؤكد مع ترمب هو اللامؤكد. تكرار الادعاء أنه “الوحيد القادر على إنهاء حرب أوكرانيا وحرب غزة خلال 24 ساعة”، وعلى مواجهة الصين في ميدان التجارة، و”إعادة أميركا عظيمة ثانية”.
وقمة البؤس الثقافي والسياسي الادعاء في “عالم اللايقين” معرفة كل الحلول والقدرة على صنعها، فضلاً عن سياسات التبسيط الشديد لتعقيدات عالم يبحث عن نظام عالمي بديل من النظام العالمي الذي صنعته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية من دون أن تتبلور صيغة حتى اليوم.
والأفظع هو تهديد ترمب بـ”حمام دم” في أميركا “إذا لم يتم انتخابي”، وكان “الهجوم على الكونغرس بروفة”. والأخطر هو قول ترمب، “إذا لم أفز فلست متأكداً من أن انتخابات أخرى ستجرى في البلاد”، لكن بايدن الذي يتهمه ترمب بأنه “خطر على الديمقراطية”، يرى أن ترمب “خطر وجودي على الديمقراطية”.
في كتاب “قيادة مكتب: الرئاسة الأميركية من تيودور روزفلت إلى جورج بوش الابن” يقول المؤلف ستيفن غروبارد، وهو مؤرخ من جامعة هارفرد، إنه “خلال 70 سنة تعاظمت أهمية المنصب، لكن نوعية الذين احتلوه تناقصت بصورة دراماتيكية”.
وقبله رأى مؤرخ آخر أن تدني نوعية الرؤساء في البيت الأبيض يوحي بأن نظرية داروين عن تطور المخلوقات من القرد إلى الإنسان هي نظرية خاطئة. أما جوناثان كيرشنر المتخصص في مجال العلوم السياسية والدراسات الدولية في كلية بوسطن، فإنه يسجل في كتاب “ظل ترمب الطويل ونهاية الصدقية الأميركية” أن أميركا دخلت “عصر اللاعقل” مع مجموعة واسعة تدعم نظريات المؤامرة المتهورة والمتطرفة. وهي اليوم “تشبه أثينا في الأيام الأخيرة لحرب البيلوبونيز، وفرنسا في الثلاثينيات: هبوط نحو الاسترخاء يجعلها قريباً دولة مستهلكة للصراعات الاجتماعية الداخلية وليست دولة قادرة على ممارسة سياسة خارجية بناءة يمكن التنبؤ بها وتستحق الثقة”. وانتخاب ترمب عام 2016، في رأيه، كان ضربة حظ وشيئاً بالصدفة، لأن فضائحه كانت كافية لإنهاء حياة أي سياسي أميركي، لكن ترمب لم يتأثر”. واللعبة تتكرر.
وليس أكثر من الأخطار سوى الفرص في أميركا، لكن قوة عظمى مثل الولايات المتحدة لا تجد في مواجهة الأخطار واغتنام الفرص سوى عجوزين يتنافسان ثانية على البيت الأبيض. واحد يخلط بين حيفا ورفح، وآخر يهاجم القضاة الذين يحاكمونه ومحاميه السابق وينعي العدالة، ويشتم أقرب حليف له هو السيناتور ليندسي غراهام لمجرد قوله إنه يخالفه في موقفه المستجد من موضوع الإجهاض. شيء من لعنة قدر.
رفيق خوري