ما وراء الدعوة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية
ندرك تمامًا أن إدارة جو بايدن لن تُقدم على مثل تلك الخطوة، خاصة في الموسم الانتخابي
تَجدد حديث الإدارة الأميركية عن إقامة دولة فلسطينية بصيغ مختلفة على حدّ وصفها، لكن ما الظروف السياسية التي دفعتها لإعادة إحياء مثل هذا الطرح في مثل هذا الوقت؟
طرحٌ يترافق مع دعم الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة دعمًا غير محدود عسكريًا وسياسيًا في حربها المدمّرة على غزة، ففي أي سياق سياسي تأتي تلك الدعوة الأميركية؟
لماذا الدعوة الأميركية لحلّ الدولتين الآن؟
مع الخلاف الظاهر القائم ما بين الإدارة الأميركية الحالية، ونتنياهو رئيس الحكومة اليمينية الإسرائيلية حول ما يُعرف باليوم التالي للحرب على غزة، لم تتأثر العلاقة بين الطرفين بخصوص الدعم السياسي والعسكري في الحرب على غزة، واتفاق الطرفين على ضرورة إنهاء حكم حماس، وإنهاء المقاومة الفلسطينية في غزة، والاتفاق على عدم توسيع إطار الحرب خارج فلسطين، والحفاظ على استقرار الأوضاع في الضفة والمنطقة.
جاءت الدعوة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية من باب التكتيك السياسي المرحلي، لا من باب الخطة الإستراتيجية؛ إذ جاءت هذه الدعوة محكومةً بعدة ظروف سياسية أميركية داخلية وخارجية، أهمها:
الخوف من تدحرج كرة ثلج التكلفة السياسية التي يمكن أن يدفعها الحزب الديمقراطي نتيجة دعمه الحربَ على غزة، فقد يكون هذا الدعم أحد الأسباب المؤثرة التي يمكن أن تُخرج الحزب الديمقراطي من البيت الأبيض، فجاءت الدعوة في سياق محاولة الإدارة الأميركية والحزب الديمقراطي تدوير الزوايا السياسية الحادة؛ لإيقاف الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي بين الأعضاء الأكبر سنًا المؤيدين لإسرائيل، والأعضاء الأصغر سنًا المتعاطفين مع الفلسطينيين، ولتنفيس حالة السخط السياسي لدى اليسار الأميركي، ولضمان أصوات الناخبين العرب التي يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الانتخابات الأميركية القادمة.
فقد أشار استطلاع للرأي إلى أن 56% من الشعب الأميركي يعارضون سياسة بايدن في الحرب على غزة، وأن 66% من الناخبين الأميركيين من أصل عربي يحملون نظرية سلبية تجاه إعادة انتخاب بايدن، وهم كانوا الأكثر انحيازًا لبايدن في الانتخابات الماضية.
تُقرأ دعوةُ الإدارة الأميركية لإقامة دولة فلسطينيّة في سياق محاولة إعادة دفع عجلة التطبيع العربية الإسرائيلية؛ لترتيب أوراق المنطقة بإقامة تحالف عربي- إسرائيلي في مواجهة المشروع الإيراني، أو حتى المشروع التركي في معرض التخطيط الأميركي لخفض وجودهما في المنطقة، والتفرغ لمواجهة المشروع الصيني بما يضمن استمرار حالة تفوّق أميركا وتربُعها على عرش الصدارة العالمية.
فالرغبة الأميركية في إعادة ترتيبات المنطقة لتكون على الحالة التي كانت عليها قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، جعلتها تحرص على منع توسيع الحرب خارج حدود غزة؛ خوفًا من اندلاع حرب شاملة في المنطقة يمكن أن تؤثر على المشروع الأميركي في هندسة المنطقة، بما يحقق مصالح أميركا، ويحقق تفرُّغها الهادئ للقوى الكبرى؛ أي الصين وروسيا.
تأتي الدعوة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية من باب الضغط على الحكومة اليمينية الإسرائيلية بعد أن فشلت المساعي الأميركية في استبدال تلك الحكومة من خلال الكنيست، وتماسك تحالف حكومة نتنياهو، إذ تسعى الإدارة الأميركية للتخلص من الحكومة الإسرائيليّة الحالية الرافضة لخُطتها المتمثلة في تسليم غزة بعد انتهاء الحرب للسلطة الفلسطينية، وإعادة الوضع في غزة إلى ما قبل 2007، قبل سيطرة حماس عليها؛ إذ تريد الحكومة الإسرائيلية السيطرة العسكرية على غزة، وإعادة الحال إلى ما قبل 2005، وفرض ما يُعرَف بـ “السلطة الجديدة” لتحكم غزة بعيدًا عن السلطة الفلسطينية الموجودة في الضفة؛ لتكريس حالة الانقسام الفلسطيني، وعدم السماح بخضوع غزة والضفة لسلطة فلسطينية واحدة.
الرفض الإسرائيلي
جاء الرفض الإسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية سريعًا على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي أعلن أنه أبلغ الإدارة الأميركية معارضته إقامةَ دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب على غزة، وتعهدَ في مؤتمره الصحفي بمواصلة الهجوم على غزة حتى يحقق النصر الكامل على حد وصفه، وقد يستغرق ذلك أشهرًا إضافية. وجاء الرفض الإسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية وفقًا للدعوة الأميركية نتيجةً لعدة أسباب:
بيّنت استطلاعات الرأي التي أُجريَت منذ عام 2017 حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي أن المعارضين من الشعب الإسرائيلي لحلّ الدولتين يشكّلون نسبة 48%، وأن الموافقين على خيار حل الدولتين يشكلون ما نسبته 52% من الشعب الإسرائيلي.
وتدرك الحكومة الإسرائيلية أن الموافقة على إقامة دولة فلسطينية تعني تفكيكَ المستوطنات التي تلتهم 43% من أراضي الضفة الغربية التي من المفترض أن تكون جزءًا من دولة فلسطين الموعودة، وترحيلَ 750 ألف مستوطن من المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية والغور الأردني، ما قد يؤدي إلى انفجار إسرائيلي داخلي يقود إلى حرب أهلية.
تتكون الحكومة الإسرائيلية الحالية من ائتلاف أحزاب اليمين الإسرائيلي التي لا تؤمن بإقامة دولة فلسطينية، وترى أنّ الحل الأمثل للقضية الفلسطينية هو بابتلاع إسرائيل كامل جغرافيا الضفة الغربية والغور الأردني وتهجير سكانهما، بينما يعني القبول بطرح حل الدولتين التنازلَ عن التوسع الجغرافي، وهذا ما أعلن نتنياهو رفضَه صراحةً؛ إذ يرى أن على إسرائيل أن تحتفظ بالسيطرة الأمنية على جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، ويقصد الغور الأردني والضفة الغربية.
يَمنع تحالف نتنياهو مع اليمين الإسرائيلي المتشدد، نتنياهو من التماهي مع ما تريده الولايات المتحدة، وإن كان من باب التكتيك المرحلي أو الإعلامي؛ لأن ذلك يعني انفراط عقد الحكومة الإسرائيلية، ما يعني بالنسبة إلى نتنياهو عدم عودته إلى السلطة وفقًا لاستطلاعات الرأي، ورفع الحصانة القضائية عنه، ومحاكمته بتهم الفساد التي قد تعرضه للحبس وتنهي حياته السياسية إلى الأبد.
يظن نتنياهو أن انتصاره في غزة- وإنهاء حكم حماس واستمراره في السلطة- سيساعده في التخلص من فكرة حل الدولتين، وسيقوده إلى رفع الحرج السياسي عنه في مخالفة الإدارة الأميركية حتى تُكشف نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة وما سوف تسفر عنه.
تنتظر الحكومة الإسرائيلية نتائج الانتخابات الأميركية، فإذا ما جاءت بالرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فستلقى إسرائيل دعمًا لا متناهيًا في إحكام سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، وابتلاع أراضي الضفة الغربية من خلال المستوطنات، وضمها إلى دولة إسرائيل وفق كان يُعرف بصفقة القرن.
يرى نتنياهو في هذا الرفض للدولة الفلسطينية، واستمرار الحرب على غزة، وتحقيق الانتصار على حماس، وانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، وفرض صفقة القرن بقدوم ترامب، الشيءَ الكفيلَ باستمرار حياته السياسية، والكفيل بمنحه فرصة العودة إلى السلطة، وإن كان نموذج ليكتمان للتنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية قد أعطى جو بايدن الفوز، وقد تحققت نتائج دراسة هذا النموذج 11 مرة سابقة على التوالي، كما يشير الدكتور وليد عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية الأردني.
متى تكون الخطوة الأميركية خطوة جدية؟
منذ أوسلو وجميع الخطوات والرعاية الأميركية التي اتخذت من أجل عقد سلام شامل ودائم ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين وإنهاء أزمة القضية الفلسطينية، قد باءت بالإخفاق، وكانت المحصلةُ حالةٌ من العدم السياسي نتيجة عدم جدية الجانب الإسرائيلي واتخاذه العملية السلمية تكتيكًا للمماطلة من أجل استكمال إحكام السيطرة على كل الجغرافيا الفلسطينية وقضمها وابتلاعها، وتلاشت فرصة أي سلام حقيقي وجادّ بصعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى السلطة بعد تراجع اليسار الإسرائيلي الأكثر براغماتيّة سياسيّة، الذي كان يطرح فكرة حلّ الدولتين.
تدرك الإدارة الأميركية أن كلًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية غارقون في التصورات اليمينية المتطرفة، وأنه ليس بإمكان هذه الحكومات أن تعقد أي اتفاقية سلام لأسباب نابعة من قناعاتها الأيديولوجية والفكرية، وأن الرهان عليها لعقد اتفاقية سلام رهانٌ خاسرٌ، وبذلك تكون الدعوة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية من خلال اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين نوعًا من شراء الوقت، ومحاولة تدوير الزوايا السياسية الحادة التي تواجهها على مستوى الداخل الأميركي في ظل الموسم الانتخابي، وذرًّا للرماد في عيون الجانب العربي لجرّه إلى مزيد من تطبيع العلاقات مع إسرائيل بالوعود.
إذا كانت الإدارة الأميركية جادةً فعليًا وتتصرف من قناعة سياسية حقيقية لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع في المنطقة، وفي ظل تركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية، وفي ظل غرق المجتمع الإسرائيلي وتحوله نحو الرواية اليمينية الإسرائيلية، لم يتبقَّ أمام الإدارة الأميركية سوى الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، يتبعها بعد ذلك الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى، وتتفق هذه الخطوة مع ما ورد على لسان وزير الخارجية البريطاني.
إن تم الاعتراف الأميركي الأحادي بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، سوف يُعترَف بعد ذلك بفلسطين عضوًا كاملًا في الأمم المتحدة، وستُعَد الأراضي الفلسطينية أراضي محتلة يجب إنهاء احتلالها بقرارات صادرة عن مجلس الأمن، وستُعد المستوطنات تجمعات غير مشروعة، وسيُدعى لتفكيكها وإخراج المستوطنين منها.
يمكن لمثل هذه الخطوة وحدها أن تبدل كل المشهد السياسي الفلسطيني، وتكون البداية الحقيقية لحل القضية الفلسطينية، وجعل الدعوة لإقامة دولة فلسطينية أسهل واقعيًا وأكثر جدية.
ندرك تمامًا أن إدارة جو بايدن لن تُقدم على مثل تلك الخطوة، خاصة في الموسم الانتخابي؛ لأنها تعني استفزاز اللوبي الصهيوني في أميركا، الذي سينعكس موقفه انعكاسًا كبيرًا على نتائج الانتخابات الأميركية.
وفي ظل هذه المعطيات، وظروف الإدارة الأميركية الحالية، ليست الدعوة الأميركية لإقامة دولة فلسطينية أكثر من قفزة استعراضية في الهواء لتمرير الموسم الانتخابي وعودتها إلى حكم البيت الأبيض، ومن ثم العودة إلى السياسة الأميركية السابقة في إدارة الصراع، لا حلّه، والاستفادة منه لتحقيق بعض المصالح الأميركية في المنطقة كلما اقتضى الأمر ذلك.