ما هي تداعيات مقتل محمد رضا زاهدي على إيران؟
إيران أمام كارثة، لا تقل في حجمها وأضرارها عن حادثة اغتيال قاسم سليماني قبل سنوات في العراق على يد القوات الأمريكية. على الرغم من هذا، لا يبدو أن إيران ستتخذ إجراءات رد مباشرة على إسرائيل في المدى القريب أو حتى في المستقبل البعيد
أخبرني أحد الباحثين الإيرانيين، المقربيين من الحرس الثوري الإيراني، عن استيائه من النقد العربي الموجه إلى إيران. تمحور غضبه حول اتهام إيران بتخاذلها تجاه المقاومة في فلسطين وعدم مشاركتها الفعّالة في النزاع ضد إسرائيل، لا سيما عقب الهجوم الهمجي على قطاع غزة، والذي أسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين وإجبار مئات الآلاف على ترك منازلهم، في مشهد شديد البشاعة لم تشهده العيون منذ سنوات.
كان ذلك الباحث يرفض فكرة أن إيران قد “باعت” المقاومة لحماية مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط. فمن وجهة نظره، إيران وعت منذ البداية خطط بنيامين نتنياهو الرامية إلى جر طهران إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط، والتي كانت ستؤدي بالتبعية إلى دخول واشنطن في النزاع كطرف داعم وراعٍ له. ويرى أن هذا السيناريو لو تحقق، كان سيضع إيران في وضع حرج، محاصرة بالحروب من كل الجهات، مما كان سيعرض للخطر ما أنجزته على مدى السنوات الماضية من نفوذ جيوسياسي وتأثير في المنطقة.
ولذلك، وفقاً لقناعة الباحث الإيراني التي أطرحها أمام القارئ ليقوم بتقييمها كما يراه مناسباً، رأت إيران اتباع استراتيجية حرب استنزاف، كما وصفها، ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجبهة الشمالية، من خلال حزب الله اللبناني الذي ينفذ عمليات سريعة ضد إسرائيل في الجبهة الشمالية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب دعم حركة الجهاد وحركة حماس وبعض الفصائل المسلحة المرتبطة بحركة فتح في قطاع غزة، مثل حركة المجاهدين، بكل ما تستطيع من معونات وأسلحة وأموال، بهدف ضمان عدم انتصار إسرائيل على المقاومة في غزة.
وجهة النظر تلك، ربما تفسر قناعات إيران في الصراع بالشرق الأوسط بشكل عام. فالبلاد، المنهكة اقتصادياً والتي تواجه معارضة إقليمية بسبب مشروعها التوسعي في العالم السني، لا تستطيع الانخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل في الشرق الأوسط نظراً للتهديدات التي تشكلها هذه الحرب على مشروعها التوسعي الإقليمي وعلى استقرار “نظامها السلطوي” داخلياً. هذا الموقف، الذي يمكن وصفه “العلكة” بالحجة الدائمة الذي يروجه “النظام الملالي” لشعبه بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقاوم الإمبريالية الأمريكية والمشروع الصهيوني، وبالتالي في حال هزيمتها أمام إسرائيل في حرب شاملة في الشرق الأوسط، ستكون هذه الهزيمة هي بوابة الخروج لنظام الملالي من حكم إيران وإلى الأبد.
مقتل محمد رضا زاهدي القيادي في الحرس الثوري الإيراني
استرجعت وجهة نظر ذلك الباحث الإيراني، الذي يحظى بعلاقات وثيقة مع الحرس الثوري، في أعقاب الهجوم الذي استهدف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، وأسفر عن مقتل قائدين من الحرس الثوري و5 مستشارين عسكريين آخرين. فكما أفاد الحرس الثوري الإيراني، أودى الهجوم بحياة العميد محمد رضا زاهدي، أحد قادة فيلق القدس، ومساعده العميد محمد هادي حاج رحيمي، إلى جانب 5 مستشارين عسكريين آخرين في الحرس الثوري، وهم حسين أمان اللهي، مهدي جلالتي، شهيد صدقات، علي بابائي، وعلي روزبهاني.
وكالعادة، وتعقيباً على الحادث، علق المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي، بعد بيانات وزارة الخارجية الإيرانية، مؤكداً أن إسرائيل “ستندم” على استهداف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق. ولم ينسَ أن يشير إلى أنه ستتم معاقبة إسرائيل على يد رجاله الأبطال. هذه التصريحات أصبحت تُعتبر جزءاً من النهج البروتوكولي المتبع في التعامل مع العمليات التي تنفذها إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة ضد أهداف إيرانية.
بينما توعد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بالرد على الهجوم الصاروخي الإسرائيلي على القسم القنصلي بالسفارة، واصفاً إياه بأنه “جريمة إرهابية وانتهاك خطير للقانون الدولي”.
من ناحيتها، أدانت وزارة الخارجية الإيرانية الهجوم بشدة، حيث صرح وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، بأن استهداف المبنى القنصلي يمثل خرقاً لكافة المعايير والأعراف الدولية، مؤكداً أن على إسرائيل تتحمل تبعات هذه الخطوة. وأضاف عبد اللهيان أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، “فقد توازنه العقلي” نتيجةً للخسائر المستمرة في غزة وعدم قدرته على تحقيق أهداف الحرب، على حد تعبيره. كما دعا المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم ضد الهجوم.
لم تقتصر ردود الفعل الإيرانية على التصريحات الرسمية فحسب، بل سيرت السلطات في العاصمة طهران ومدن إيرانية أخرى مظاهرات ضمت مئات المواطنين الإيرانيين، تنديداً بالهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق. خلال هذه المظاهرات، أطلق المتظاهرون هتافات تدين إسرائيل والولايات المتحدة، مطالبين برد قاسٍ والثأر للقتلى. كما رفعوا لافتات تحث المجتمع الدولي على الضغط على إسرائيل لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
تكشف هذه الهتافات عن تناقض لافت، فطالما لم ترَ إيران أي قيمة أو دور للمجتمع الدولي، ولا ترى أي دور حيوي لأي منظمة دولية في أي صراع في الشرق الأوسط، حتى إنها لا تهتم بهكذا أدوار، فهي نمت وجودها العسكري في المنطقة دون الالتفات إلى القوانين الدولية أو دور تلك المنظمات. ومع ذلك، تلجأ طهران إلى استدعاء هذه الأدوار عند الحاجة، كما في حالة القصف الذي استهدف القنصلية الإيرانية في سوريا.
رغم عدم إقرار إسرائيل رسمياً بمسؤوليتها عن الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، فإنها سعت، عبر إذاعة جيش الاحتلال، إلى ترك بصمتها على الحادث بتصريح يفيد بأن الهدف لم يكن السفارة الإيرانية نفسها، بل مبنى مجاور يُستخدم كمقر عسكري للحرس الثوري. وأضافت الإذاعة أن العملية استندت إلى معلومات دقيقة بشأن الأنشطة العسكرية المُفترضة هناك، وذلك على الرغم من تحفظ جيش الاحتلال على التعليق المباشر على الحادث.
يأتي عدم الاعتراف الرسمي من قبل إسرائيل بمسؤوليتها عن الهجوم كجزء من نمط معتاد في الصراع غير المباشر الذي يدور بينها وبين إيران على مر السنين، حيث تعتمد إسرائيل سياسة الضربات الموجهة ضد أهداف إيرانية ثم تتباطأ في الإعلان رسمياً عن ذلك، حتى تهدأ الأمور.
لكن خطورة الخطوة الإسرائيلية هذه المرة في دمشق تتمثل في أمرين أساسين، أولاً: أن القصف جاء هذه المرة لمقر قنصلية، وهو مقر دبلوماسي، ووفقاً للقانون الدولي فإن القنصلية تمثل أراضي مستقلة للدولة التابعة لها، ومن ثم فإن خطوة إسرائيل ووفقاً للقانون الدولي، هي قصف الأراضي الإيرانية بشكل مباشر و إعلان ضمنياً للحرب ضد إيران.
ثانياً، تبرز الأهمية الخاصة للشخصية التي تم استهدافها في مقر القنصلية، محمد رضا زاهدي، الذي يعد قائداً بارزاً في الحرس الثوري، حيث شغل عدة مناصب هامة ضمن “فيلق القدس” بما في ذلك منصب قائد الفيلق اللبناني ونائب قائد “فيلق القدس”، كان يعمل كحلقة وصل بين الفيلق والاستخبارات السورية لتسهيل إمدادات الذخيرة والعتاد.
بالإضافة إلى ذلك، بحسب تقرير صادر عن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن “زاهدي” كان مدرجاً ضمن قائمة العقوبات الأمريكية منذ العام 2010 بموجب الأمر التنفيذي رقم 13224، والذي يهدف إلى “تجميد أصول الإرهابيين وعزلهم عن الأنظمة المالية والتجارية الأمريكية”. وقد بررت وزارة الخارجية الأمريكية سبب إدراجه في القائمة إلى كونه قائداً لـ”فيلق القدس” في لبنان ولدوره الكبير في دعم “حزب الله”.
إذاً، إيران أمام كارثة، لا تقل في حجمها وأضرارها عن حادثة اغتيال قاسم سليماني قبل سنوات في العراق على يد القوات الأمريكية. على الرغم من هذا، لا يبدو أن إيران ستتخذ إجراءات رد مباشرة على إسرائيل في المدى القريب أو حتى في المستقبل البعيد. بل من المتوقع بدلاً من ذلك أن سوف تلجأ طهران للاستعانة بأذرعها المسلحة أو ما يمكن تسميته بـ”الفاعلين المسلحين غير الدوليين” التي تعمل تحت إمرتها في العراق، اليمن، أو سوريا، في محاولة للرد على اغتيال زاهدي.
ترى إيران أن الامتناع عن الرد المباشر على الاغتيال هو “عين الصواب”، إذ تؤمن بأن التزام الصمت يهدف إلى حرمان نتنياهو من فرصة إشعال فتيل حرب مدمرة في الشرق الأوسط، والتي لن تلحق تكبد خسارة لنتنياهو أكثر مما مما خسر، بينما ستكون الخسارة الأكبر لإيران. ومع ذلك، يبدو أن حادثة الاغتيال هذه لن تكون الأخيرة، وأن فواعل إيران المسلحة في الشرق الأوسط سيصبحون هدفاً متكرراً للاغتيالات الإسرائيلية. وبمرور الوقت، قد يؤدي ذلك إلى انفصال بعض الأذرع العسكرية الإيرانية عن “حظيرة الولاء” لطهران، ليظهروا كمنافسين أشداء في مواجهة إسرائيل، خاصةً أنهم لا يخضعون للحسابات الجيوسياسية كما هو الحال مع طهران.