ما قبل الحرب بيومين..
يوم الخميس أي قبل الحرب بيومين بدت علي أعراض غريبة، والحقيقة ان ما حدث معي ربما يشبه ما يسمى بالتعشيش، وهي ظاهرة طبية معروفة لدى النساء اللواتي يقتربن من الولادة والمخاض، فهن يشعرن بطاقة ونشاط غريبين، ويبدأن في تنظيف البيت وترتيبه وإزالة الغبار الوهمي لأنهن يعكفن أساساً على تنظيف بيوتهن باستمرار، وقد حدث معي صبيحة يوم الخميس أمر غريب
عندما تضيق بك لحظات الحرب وتشعر أن روحك على وشك ان تغادر جسدك، تحاول ان تصمد او أن تقاوم من اجل مَن حولك وليس من أجلك، لذلك فأنت تفعل امراً غريباً، وهو أنك تحاول ان تستذكر ما حدث قبل الحرب بيوم او بيومين مثلاً، تطلق العنان لخيالك وتطرد حشرة غريبة استقرت فوق أنفك اللزج، وتتنهد وتنظر بعيداً فيما لا يرتطم مدى بصرك سوى بأعمدة وحبال الخيال حتى آخر ما قد يصل إليه امتداد حدود رؤيتك.
يوم الخميس أي قبل الحرب بيومين بدت علي أعراض غريبة، والحقيقة ان ما حدث معي ربما يشبه ما يسمى بالتعشيش، وهي ظاهرة طبية معروفة لدى النساء اللواتي يقتربن من الولادة والمخاض، فهن يشعرن بطاقة ونشاط غريبين، ويبدأن في تنظيف البيت وترتيبه وإزالة الغبار الوهمي لأنهن يعكفن أساساً على تنظيف بيوتهن باستمرار، وقد حدث معي صبيحة يوم الخميس امر غريب، فعلى غير موعد قررت أن أرتّب حاجياتي في غرفتي، ففتحت خزانتي العملاقة ورفعت الملابس الصيفية للرفوف العليا وأدنيت الملابس الشتوية.
ولأن خزانتي ضخمة فهي تعد خزانة مشتركة لي ولابنتي، لذلك فقد قمت بفصل ملابسي الشتوية عن ملابس البنات ووضعتها في رف مستقل، ونظرت إليها وضحكت من هذه الفكرة، ويبدو ان إحساساً او هاجساً غريباً او ظاهرة معينة كانت تسيطر علي تلك اللحظة، لأني وقفت أمام الخزانة المفتوحة ونظرت لملابسي الشتوية التي تكدست في رف واحد وحدثني صوت بداخلي: سوف يكون من السهل ان تجمعيها في حقيبة واحدة عند الهرب، لكني استعذت بالله من الشيطان الذي يأتي بهذه الأفكار السيئة والغريبة، وحمدت الله في سري أن وقتاً طويلاً قد مر دون ان يحدث شيء مثل حملات التصعيد والمواجهات بين الاحتلال والفصائل في غزة وتعرضنا للخطر، ولكن في كل مرة وبسبب موقع بيتنا لم نكن نضطر لمغادرة البيت، وأكثر شيء كنا نفعله لكي نحمي أنفسنا أننا كنا نحتمي بالطابق السفلي من البناية وتحديداً في “بيت الدرج”.
لذلك، فقد طردت هذا الخاطر سريعاً وانشغلت ببرنامجي اليومي المعتاد، وخُضت عراكاً بسيطاً مع الساكن في الطابق السفلي من البناية، حين اتهمني ان قطتي قد قامت بقضاء حاجتها أمام باب شقته، وأمام عادتي المسالمة واحتجاج أولادي فقد نزلتُ لتنظيف المكان رغم أنني واثقة من أن قطتي لم ترتكب هذه الجريمة، فهي لا تغادر البيت اطلاقاً بل تشعر بالخوف حين يفتح احدهم باب البيت فتختفي تحت أحد الأسرة.
وهكذا انقضى اليوم حتى حل المساء وعادت ابنتاي من التسوّق وقد ذهبتا لأحد المحال الشهيرة التي تعلن عن عروض وتنزيلات للأدوات المنزلية، وقد عادتا محملتين ببعض الأدوات والمفارش التي ابتعنها بثمن زهيد مقارنة بالأسعار في الأيام العادية، وقد بدت السعادة على وجهيهما لأنهما قد ظفرتا بهذه البضاعة، وفيما بدأت ابنتي الكبرى بافراغ الاكياس من محتوياتها ووضعها فوق طاولة الطعام وهي تردد عبارات الاستحسان، شعرت بانقباضة في قلبي ولم أعلق بحرف واحد حول جودة وجمال الأدوات والتي كنا بحاجة لها في البيت خصوصاً للمطبخ، وسألتني ابنتي مستغربة ومستهجنة: ألم تعجبك الأغراض يا أمي؟ فرددت عليها بسرعة: بالعكس فهي رائعة و”لقطة” ولكني متعبة.
هكذا حدث معي موقفان في يوم الخميس، حتى جاء يوم السبت وبدأت الحرب، وما ان شعرنا بأن هذه الحرب مختلفة حتى حزمنا حقائب ظهرظ
كان من السهل أن أجمع بعض ثيابي الشتوية التي كدستها سابقاً في الحقيبة استعداداً للهروب، وفي اليوم الرابع تحديداً قصفت البناية المجاورة للبناية التي نقطن فيها، فتضررت بنايتنا بشكل بالغ وانهار كل شيء في شقتنا الصغيرة التي كنا نحاول ان نجعلها افضل، ونحاول ان نبدو بوضع جيد مثلما تفعل كل العائلات العربية المتوسطة والتي تهتم بمظهر غرفة الضيوف والطعام تحسباً لاستقبال زائرين او خاطبين، فيما ان كان هناك بنات في سن الزواج بالبيت.
في اليوم الرابع من الحرب كانت الأشياء التي ابتاعتها ابنتاي قد تناثرت على أرضية الشارع المقابل لبنايتنا بفعل القصف الشديد، وكنا نحمل حقائب ظهر ونهرب إلى مكان آخر كنا نحسبه آمناً في مدينة غزة نفسها، قبل ان تبدأ رحلتنا مع النزوح في الجمعة الأولى من الحرب.
وهكذا تركت كل شيء وأولها الذكريات، وما زلت حتى اللحظة أتمنى لو خضت عراكاً مع جاري في الطابق السفلي ولم أعلن استسلامي ومسالمتي أمام فعلٍ قبيح لم ترتكبه قطتي.