ما بعد فوز قيس سعيّد بولاية ثانية
ليس خافياً أن مرحلة ما بعد فوز سعيّد بانتخابات رئاسية فُصّلت على مقاسه، لن تحمل تغييرات في المشهد السياسي التونسي، ولن تتمكّن منظومة الحكم في المدى المنظور من إيجاد أي مخرج من الأزمة المتفاقمة على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن أزمة الحكم
لم يكُن مفاجئاً أن يفوز الرئيس التونسي قيس سيعّد بالانتخابات الرئاسية التي جرت في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، كما لم تكن مفاجئة النسبة العالية المعلنة لفوزه، ولعل نسبة التصويت المتدنية (27.7%) تشي بأن معظم التونسيين قاطعوها، لأنهم لم يقتنعوا بجدواها ونزاهتها، خاصة أن سعيّد قام بكل ما يملكه من إجراءات كي يحوّلها إلى ما يشبه مبايعة له، بغرض تثبيت استفراده في كرسي الرئاسة خمس سنوات أخرى، ومواصلة ما أسماها “مسيرة النضال في معركة التحرير الوطنية”، التي يفسّرها كثيرون من التوانسة بأنها معركة تصفية ما تبقى من المعارضة، واستكمال عملية الانفراد بالسلطة، التي سبق وأن بدأها بإجراءات استثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021، واعتبرتها قوى سياسية تونسية انقلاباً على المنظومة السياسية في البلاد.
لعل السؤال المطروح بعد فوز سعيّد: ماذا بعد؟ فالرجل اتخذ إجراءات أفضت إلى قتل السياسة في تونس، ولم يتوقف منذ وصوله إلى الرئاسة عن ضرب أي إمكانية للممكن السياسي، وعلى مختلف المستويات، والمرجّح أن إجراءاته لن تتوقف عند ما قام به البرلمان التونسي، حين صوت على قرار تعديل القانون الانتخابي قبل موعد إجراء الانتخابات الرئاسية بأيام، وجرى بموجبه تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها بالفصل في النزاعات الانتخابية، ومنحها إلى محكمة الاستئناف، لكن توقيت القرار كشف عن عدم رغبة النظام التونسي في إجراء انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة، خاصة أنه استهدف القضاء الإداري، فضلاً عن أنه يشكّل خطوة إضافية للقضاء على ما تبقّى من المؤسّسات القضائية المستقلة، ويأتي استكمالاً لمعركة التحرير الرئاسية مع القضاء التونسي التي أسفرت عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وعزل عشرات القضاة من مناصبهم، إضافة إلى أن الرئيس سعيّد سبق وحلّ الهيئة المستقلّة للانتخابات، وعيّن رئيساً جديداً لها وأعضاء آخرين، الأمر الذي أفقدها استقلاليتها التي تميزت بها بعد الثورة.
يبدو أن الرئيس نسي، أو بالأحرى تناسى، ما صرّح به في عام 2019، بأن “وضع القانون الانتخابي أو التغيير فيه قبل أربعة أشهر من الانتخابات هو اغتيال للديمقراطية وللجمهورية”، الأمر الذي ينسف الحجج التي تذرّع بها أعضاء البرلمان التونسي الذين صادقوا على التعديلات، وحاولوا تسويق خطوتهم بأنها تعالج الثغرات السابقة، حيث يفنّد ما قاله سعيّد بنفسه قبل خمسة أعوام خلت كل الحجج والذرائع التي حاولوا تسويقها.
ليس خافياً أن مرحلة ما بعد فوز سعيّد بانتخابات رئاسية فُصّلت على مقاسه، لن تحمل تغييرات في المشهد السياسي التونسي، ولن تتمكّن منظومة الحكم في المدى المنظور من إيجاد أي مخرج من الأزمة المتفاقمة على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن أزمة الحكم، وذلك بعد ما أفضت ممارسات النظام الحاكم إلى نزع السياسة من المجتمع، عبر منع جميع مظاهر العمل السياسي الحزبي، والتضييق على الفعاليات المدنية والشعبية، ووقف الحوارات والنقاشات التي تتناول قضايا السياسة والمجتمع، وبالتالي، ستتواصل حالة انسداد الأفق السياسي والمجتمعي التي تسبّب بها سعيّد ومحيطه المستفيد من سلطته، إضافة إلى أن التضييق الشديد على أحزاب المعارضة ومنظمّات المجتمع المدني في تونس أفضى إلى ضعفها الشديد، وحدّ كثيراً من قدرتها على المبادرة والتحشيد، خاصة بعد أن رُمي أغلب قيادتها في السجون، فضلاً عن حالات من اللامبالاة واليأس التي انتشرت بين غالبية التونسيين، الذين يحاولون تدبر أمورهم الحياتية، في ظل التدهور المتزايد في أوضاعهم المعيشية.
إقرأ أيضا : مدارس لبنان تتحول لمراكز إيواء للنازحين
تفيد معطيات كثيرة بأن ممارسات سعيّد وإجراءاته، منذ وصوله إلى الرئاسة في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تهدف إلى قتل السياسة من خلال اغتيال الممارسات والسبل الديمقراطية، التي بدأت بالنمو بعد أن أنهت الثورة التونسية حكم زين العابدين بن علي في بداية عام 2011، وتنحصر غايتها الأساسية في إغلاق الباب نهائياً أمام ممكنات التغيير السياسي عبر صناديق الاقتراع، إضافة إلى أنها تأتي كي تستكمل عملية احتكار القرار، وتحويل الهيئات المستقلة إلى مجرّد ذراع تنفيذية لمنظومة الحكم، تنحصر وظيفتها في تمرير سياسات السلطة، واتّباع أوامرها وتعليماتها، بعد تجريدها من الاستقلالية، وبما يتماشى مع منطق الاستفراد بالسلطة، الذي باتت تنهض عليه فلسفة المؤسّسة الحاكمة في تونس.
من جهة أخرى، تضع ممارسات منظومة الحكم في تونس قوى المعارضة وأحزابها في زاوية ضيقة، وتدفعها باتجاه اتخاذ خيارات صعبة، خاصة أن هذه المنظومة لا تتوقّف عن محاصرة الأحزاب والتضييق على مؤسّسات المجتمع المدني، وسط أجواء سياسية خانقة، يسودها الانقسام والتجاذبات، وعدم ثقة الأطراف السياسية ببعضها البعض، فضلاً عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لمعظم التونسيين، وبما يزيد من مستوى التوتّر السياسي في المشهد السياسي في البلاد. ولعل عودة الاحتجاجات التي شهدتها شوارع العاصمة تونس أخيراً تقدم دليلاً على تطلع غالبية التونسيين إلى تغيير حقيقي في اتجاه استكمال مسار الانتقال الديمقراطي، ورفضهم محاولة السلطة تأبيد نفسها، وإقصاء كل أطراف المعارضة ومنعها من ممارسة حقها في تقديم نفسها بديلاً عن المنظومة الحاكمة. وليس هناك طريق سوى السعي إلى تجاوز حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، التي قسّمت صفوف المعارضة التونسية، والتوافق على ضرورة التحالف من أجل التصدّي لما تحمله مرحلة ما بعد فوز سعيّد.