في لحظة لم تعد مجرد تاريخ عابر، بل تحولت إلى محطة فاصلة في تاريخ سوريا الحديث، شهدت البلاد تحولات جذرية تجلت في سقوط نظام بشار الأسد، ليس فقط أخلاقيا وشرعيا أمام الشعب السوري الذي طالما انتظر التغيير، بل سياسيا وعسكريا في ظل واقع لم يعد يتحمل تأجيل الحسم أكثر، إذ إن كل من كان يعارض النظام أو يصمت عنه، سواء بمنطلق قناعاته أو بحساباته الشخصية، وجد نفسه مجبرا على مواجهة الوقائع التي رسمت مسار البلاد نحو مرحلة جديدة من الإشكالية والفرص في آن واحد.
لقد شكلت هذه اللحظة نهاية فصل من الصراع الداخلي والتحالفات الدولية المتشابكة، إذ لم يكن سقوط الأسد نتيجة قرار أحادي صادر من جهة واحدة، بل كان حصيلة تراكمات سياسية واقتصادية وعسكرية تراكمت عبر سنوات من الضغوط الداخلية وتداخل المصالح الإقليمية والدولية التي جعلت من سوريا ساحة لصراع قوى أكبر، حيث تنافست أطراف متعددة على النفوذ والمصالح من دون أن ينسى السوريون ذاك الحلم الثوري الذي بدأ في عام 2011، وهو حلم بتغيير المصير وبناء وطن يستوعب تطلعات شعب طالما ارتقب الفجر بعد ظلام دام عقودا.
وفي هذا السياق، برزت تناقضات واضحة بين القوى الدولية التي كانت تسعى إلى انتصار الثورة من جهة، وتلك التي لم تكن ترغب في إسقاط النظام بأي ثمن، وهو ما خلق فراغا سياسيا كان ينتظره الجميع، سواء من قبل الفصائل المعارضة أو حتى من بعض الأطراف التي ظلت مترددة في اتخاذ موقف واضح، مما أدى إلى وضع يُعيد ترتيب أوراق اللعبة السياسية على نحو لم يكن متوقعا، إذ أصبح السؤال لا يدور حول سقوط نظام الأسد فحسب، بل حول كيفية إعادة صياغة المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري بما يضمن حقوق السوريين في تقرير مصيرهم.
إقرأ أيضا : المحاسبة لا المسامحة: نحو عدالة شاملة في سوريا
وفي ظل هذا الواقع المتشابك، اجتمعت الفصائل السورية في مشهد اعتبره كثيرون بداية لمرحلة انتقالية جديدة، فقد تم خلال هذا التجمع تسمية السيد أحمد الشرع رئيسا انتقاليا، في خطوة جاءت لتؤكد أن العملية السياسية لن تقتصر على مجرد انهيار النظام بل ستتضمن إعادة تنظيم شاملة تعكس إرادة السوريين، إذ إن تشكيل قيادة انتقالية يستند إلى رغبة الشعب في بدء مرحلة جديدة ترتكز على العدالة والحرية والاستقلال الوطني، بعيدا عن التدخلات الخارجية والتنازلات التي كانت سائدة في السنوات الماضية.
ولم تقتصر التحولات الداخلية على ذلك فقط، فقد شهدت الساحة السورية سلسلة من الزيارات الدولية التي أكدت على الأهمية الاستراتيجية للبلاد في الإطار الإقليمي والدولي، حيث قام أمير قطر بزيارة رسمية إلى سوريا، ما أضفى بعدا جديدا على العلاقات الإقليمية وأسهم في تعزيز الحوار بين القوى المختلفة التي تسعى إلى رسم مستقبل البلاد، وفي نفس السياق، قام السيد أحمد الشرع، بصفته الرئيس الانتقالي، بزيارات إلى المملكة العربية السعودية وتركيا، مما يدل على استعداد الفصائل والجهات الانتقالية في سوريا للتواصل مع الأطراف المؤثرة ومحاولة بناء جسور تعاون وتفاهم تخدم مصالح السوريين وتضع الأسس لاستقرار سياسي جديد
إن هذه الزيارات والمبادرات الدولية لم تكن مجرد إيماءات رمزية، بل جاءت في وقت حاسم تتداخل فيه المصالح الدولية والإقليمية في مسعى لإعادة رسم معالم السياسة في منطقة الشرق الأوسط، إذ أدركت القوى الكبرى أن مستقبل سوريا لن يُشكل بمعزل عن التأثيرات الخارجية، بل يجب أن يكون نتاج تفاعل دبلوماسي حقيقي يضع مصالح الشعب السوري في المقدمة ، وهو ما جعل من التوازن بين هذه القوى محورا أساسيا في النقاشات والحوارات التي تجري على مستوى عالٍ، سواء في قاعات المؤتمرات الدولية أو في الاجتماعات الثنائية التي جمعت بين المسؤولين السوريين ونظرائهم من خارج البلاد.
من جهة أخرى، لم تكن هذه التحركات الدولية بمعزل عن التحديات الداخلية التي لا تزال تواجه سوريا، إذ إن عملية الانتقال السياسي تتطلب أكثر من مجرد إعلاء شعار الحرية أو تحديد ملامح المستقبل، فهي تحتاج إلى مشروع وطني شامل يستوعب جميع الأطياف والمكونات التي أسهمت في تشكيل معاناة الشعب السوري، ويتطلب ذلك حوارا حقيقيا بين القوى المعارضة وممثلي الشعب، وهو ما لم يتحقق بعد بالشكل الذي يضمن استمرار العملية السياسية وتحقيق العدالة والمحاسبة على ما فات، وفي ظل هذا السياق اتضح أن سقوط النظام لم يكن نهاية المطاف، بل هو بداية مرحلة قد تحمل في طياتها فرصا للتغيير وإعادة البناء، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والقدرة على تجاوز الخلافات القديمة.
وفي هذا المشهد المزدحم بالتحديات تتجلى أهمية تحديد آليات جديدة للتعامل مع الفصائل والقوى الإقليمية، إذ إن إعادة تنظيم سوريا على أسس ديمقراطية تتطلب تجاوز الانقسامات القديمة والتركيز على مصالح الشعب، وهو ما يستدعي تكاتف الجهود وتوحيد الصفوف تحت قيادة انتقالية يسعى إلى بناء دولة جديدة قائمة على العدالة والمساواة والحرية، بعيدا عن محاولات استغلال الأزمة لأهداف شخصية أو مصالح دولية لا تصب في خدمة السوريين، وإن الدور الذي تلعبه الزيارات الدولية في هذه المرحلة الانتقالية قد يكون بمثابة الحافز لتغيير النظرة التقليدية التي اعتادت عليها بعض الأطراف والتي اعتبرت أن استقرار البلاد مرتبط ببقاء النظام مهما كان عاريا من الشرعية والقدرة على التحكم في موازين القوة.
يظهر في هذا السياق أن التغيير السياسي الذي تشهده سوريا هو نتاج مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تداخلت على مدى سنوات طويلة، بدءا من الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في ٢٠١١ وانتهت بمرحلة من الصراع الطويل، وصولاً إلى التحولات الدولية التي جعلت من سوريا ساحة لصراع قوى إقليمية ودولية، وهو ما انعكس على طبيعة العملية الانتقالية التي بدأت مؤخراً، إذ أصبح واضحا أن المستقبل السياسي لسوريا لن يُحدد بمحض إرادة أحد الأطراف بل سيكون نتيجة لتوازن دقيق بين قوى داخلية تنشد تغييرا حقيقيا وبين قوى خارجية تسعى إلى استغلال الفراغ السياسي الذي خلفه سقوط النظام.
وبينما يتساءل كثيرون عما إذا كانت اللحظة التي شهدت سقوط النظام في الثامن من ديسمبر ٢٠٢٤ قد جاءت نتيجة صفقة دولية مدبرة أم كانت مجرد انعكاس لحتمية الأحداث التي تراكمت على مدى عقود طويلة، يبقى السؤال قائما حول كيفية إدارة ما بعد سقوط الأسد، إذ أن السوريين الذين لطالما انتظروا الفرصة لتحقيق طموحاتهم الوطنية يدركون تمام الإدراك أن المسيرة لن تكون سهلة وأن الطريق أمامهم محفوف بالتحديات التي تتطلب شجاعة وحكمة وسياسة تضمن تجاوز الانقسامات القديمة، إذ إن تشكيل القيادة الانتقالية وتعيين السيد أحمد الشرع رئيسا لها يمثل خطوة نحو إرساء أسس جديدة تعتمد على التوافق الوطني والحوار المفتوح، وهو ما يأمل فيه كثيرون بأن يكون الفجر الجديد لسوريا التي عانت طويلاً من وطأة الانقسامات والصراعات.
إن إعادة رسم ملامح السياسة السورية في هذه المرحلة يتطلب أيضا إعادة تقييم العلاقات الدولية والإقليمية التي أسهمت في تكريس بعض المواقف التي أدت إلى استمرار معاناة الشعب، إذ إن الزيارات الدولية التي شهدتها سوريا مؤخرا، سواء من أمير قطر أو من السيد أحمد الشرع الذي زار السعودية وتركيا، تُعد مؤشرات على أن الأطراف الفاعلة تدرك أن مستقبل البلاد لا يكمن في بقاء النظام السابق أو في استمرار الانقسامات، بل في إيجاد صيغة جديدة تُعيد إلى السوريين حقهم في تقرير مصيرهم وتضع نهاية لصراع طال أمده في استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بعيدة عن معاناة المواطن البسيط.
وفي خضم هذا التعقيد الذي يميز المرحلة الانتقالية، يبرز الدور الحيوي للحوار الوطني الذي يجب أن يتسم بالشفافية والمصداقية، إذ لا يمكن لأي جهة أن تفرض حلولها من دون أن تأخذ في الاعتبار إرادة الشعب الذي عانى طويلاً من الفساد والاستبداد، وهو ما يستدعي إعادة فتح قنوات التواصل بين جميع المكونات الوطنية بمشاركة كافة الفصائل التي طالما تشكلت حولها الأحلام والتطلعات في سوريا، وهو ما يمثل تحديا كبيرا لكنه أيضا فرصة لإرساء أسس دولة جديدة تقوم على مبادئ العدالة والمساواة والحرية.
إن المرحلة التي تلت سقوط نظام الأسد تحمل في طياتها آمالاً جديدة تتعلق بإمكانية بناء دولة حديثة تتجاوز الخلافات القديمة وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، إذ إن التحديات التي تواجه القيادة الانتقالية والدولية على حد سواء تتطلب جهدا مشتركا لتجاوز الصعوبات التي تعيق عملية الانتقال السياسي، وهذا ما يجب أن يكون بمثابة دعوة لكل الأطراف للتفكير بشكل استراتيجي بعيدا عن الانقسامات التقليدية والتركيز على مستقبل يُعطي لكل سوري فرصة للعيش بكرامة واستقرار، من دون أن يُستغل هذا التحول السياسي لتحقيق مكاسب شخصية أو ضمائر مشوهة.
وهكذا، وبينما تستمر الأحداث في سورية في رسم معالم مستقبل معقدة تتداخل فيها مصالح داخلية وخارجية، يبقى الأمل معقودًا على أن تكون القيادة الانتقالية، بمثابة البوصلة التي توجه البلاد نحو مرحلة جديدة من الوحدة الوطنية والإصلاح السياسي، وأن تكون الزيارات الدولية التي شهدتها البلاد بمثابة إشارات على رغبة الأطراف في دعم عملية التحول، مما يفتح آفاقًا لتحقيق السلام والاستقرار في وطن طالما عرف الألم والتشتت، فتظل سورية اليوم مشهدًا مفتوحًا للتغيير والتجديد، وأملًا في مستقبل يعيد للعالم صورة وطن يستطيع شعبه أن يعيش بكرامة ويحمل على عاتقه مسؤولية بناء مستقبل جديد يقوم على أسس الديمقراطية والحرية والعدالة للجميع.