في مشهد سياسي معقد كخيوط العنكبوت، تتشابك المصالح وتختلف الرؤى بين الأطراف المتعددة في الصراع بين إسرائيل وحماس.
إحدى العقد الأساسية في هذه الشبكة المعقدة هي البند 14 من الصفقة المقترحة، الذي يمثّل حلقة حساسة وحرجة في سلسلة المفاوضات.
البند 14 لا يقتصر فقط على كونه جزءاً من وثيقة تفاوضية، بل يتجاوز ذلك ليكون رمزاً لتحديات الثقة والانعدام الذي يحكم علاقة الأطراف المتصارعة.
جوهر البند يتعلق بسقف المفاوضات للانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية، تحديداً طلب حماس الحصول على التزام مكتوب من الولايات المتحدة ومصر وقطر بشأن استمرار مفاوضات المرحلة الثانية دون قيود زمنية.
بالنسبة لحماس، هذا البند ليس مجرد مطلب تقني، بل هو صمام أمان يضمن لهم ألّا يُتركوا في منتصف الطريق بلا تعهدات واضحة، تعهدات تمنحهم الطمأنينة بأن تضحياتهم لن تذهب هباءً وأنهم لن يُخدَعوا مرة أخرى بمناورات سياسية تتلاعب بمصائرهم.
إنهم يرون في هذا الالتزام المكتوب حصناً ضد تقلبات السياسة وضماناً لاستمرارية المفاوضات حتى تحقيق الأهداف المرجوة، وعلى رأسها تحرير الأسرى.
من جانبها، تنظر إسرائيل إلى هذا البند بحذر وريبة، خشية أن يؤدي التزام مكتوب إلى تقييد حرية حركتها ويجعل من الصعب عليها استئناف القتال إذا تعثرت المفاوضات، تخشى أن يصبح الاتفاق عائقاً يحد من قدرتها على المناورة العسكرية والسياسية.
وتعتبر إسرائيل أن إعطاء مثل هذا الالتزام المكتوب يمكن أن يُستخدم كأداة ضغط عليها في المستقبل، قد تُلزمها بالاستمرار في المفاوضات حتى في ظروف غير ملائمة لها. هذا الصراع حول البند 14 يعكس بصورة جلية عمق الهوة بين الأطراف.
من جهة، هناك حماس التي تبحث عن ضمانات قوية تحول دون تكرار تجارب الخداع والغدر، ومن جهة أخرى، إسرائيل التي تتوجس من أي التزام قد يقيد يدها ويحد من حرية تحركها في ساحات المعركة السياسية والعسكرية.
هذا النزاع حول البند 14 ليس فقط نزاعاً على الورق، بل هو صراع بين رؤيتين مختلفتين للسلام والأمان.
بينما تسعى حماس إلى التزام مكتوب يفتح الأبواب لاستمرار المفاوضات دون سقف زمني، ترفض إسرائيل هذا البند خشية أن يقيد حركتها ويجعل من الصعب عليها التراجع أو تغيير المسار إذا ما استدعت الظروف.
الوسطاء من الولايات المتحدة ومصر وقطر يجدون أنفسهم في موقف صعب، يسعون جاهدين لتحقيق توازن دقيق بين مطالب حماس وشروط إسرائيل، إنهم مثل الحرفيين الذين يحاولون نسج قطعة قماش متجانسة من خيوط متنافرة.
اقترحوا استخدام تعبيرات مثل “تعهّد” بدلاً من “ضمان” أو “بذل كل جهد”، في محاولة للعثور على صيغة مقبولة للطرفين، صيغة تحفظ ماء الوجه وتمنح كلاً من حماس وإسرائيل مساحة للتراجع والتقدم.
في نهاية المطاف، يعكس هذا البند 14 وجهاً آخر من وجوه الحرب الطويلة والمعقدة، حرب لا تقتصر على الرصاص والقنابل، بل تمتد إلى الكلمات والوعود، حرب تتجلى في طاولات التفاوض كما في ساحات القتال، حيث تصبح الكلمات أسلحة والتعهدات حصوناً تحاول كل طرف السيطرة عليها وتحقيق مكاسب منها.
مآلات هذا النزاع حول البند 14 ستحدد إلى حد كبير مسار الحرب والسلام في غزة، إذا ما تم التوصل إلى صيغة تضمن استمرار المفاوضات دون قيود زمنية، فقد يكون هذا خطوة مهمة نحو إنهاء العنف وإيجاد تسوية دائمة، ولكن إذا استمرت الخلافات وتعمقت الهوة، فقد نشهد جولات جديدة من الصراع، تعيدنا إلى دوامة العنف والدمار.
في هذا السياق، تظل الأطراف المتصارعة أسيرة لحساباتها وتعقيداتها، فيما يبقى الناس العاديون، أولئك الذين يتحملون أعباء الحرب، في انتظار لحظة أمل تشرق من خلف غيوم السياسة المتلبدة.
وأفاد مصدر رفيع المستوى بأنه من المتوقع أن يتوجه رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) إلى القاهرة هذا الأسبوع للمشاركة في المفاوضات بشأن صفقة الأسرى وإنهاء الحرب المستمرة منذ 9 أشهر في قطاع غزة.
كما ذكر المصدر أن وفداً إسرائيلياً يضم مسؤولين من جميع الأجهزة المعنية بمفاوضات الأسرى من المتوقع وصوله إلى القاهرة خلال الساعات القادمة لاستئناف مفاوضات التهدئة في غزة.
من ناحية أخرى، أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع بأن حصيلة الحرب الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضي ارتفعت إلى أكثر من 38 ألف قتيل.
وأضافت الوزارة أن إجمالي عدد الجرحى منذ بدء المعارك بلغ 78,755 جريحاً، كما نوهت في تقريرها إلى أن هناك عدداً من الضحايا لا يزالون تحت الركام وفي الطرقات، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
تاريخ الهدنة بين حماس وإسرائيل
منذ نشأتها في أواخر الثمانينيات، ظلّت حركة حماس، بجناحيها السياسي والعسكري، في صراع مستمر مع إسرائيل، ما جعل الهدنات واتفاقات التهدئة موضوعات شائكة ومهمة في تاريخ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
عبر العقود، تكرر الحديث عن هدنة بين الطرفين، ولكن هذه الهدنات كانت في كثير من الأحيان هشّة ومؤقتة، يعقبها تجدد للعنف والتصعيد، وتعود أولى المحاولات الجدية لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل إلى عام 2008، حينما تم التوصل إلى هدنة غير مكتوبة بوساطة مصرية.
هذه الهدنة، التي استمرت لستة أشهر، انهارت في ديسمبر 2008 عندما شنت إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب” على قطاع غزة، مستهدفة بنية حماس التحتية رداً على إطلاق الصواريخ من القطاع.
في نوفمبر 2012، تم التوصل إلى اتفاق تهدئة آخر بوساطة مصرية بعد عملية “عمود السحاب” التي أطلقتها إسرائيل في غزة. استمرت هذه الهدنة لفترة، لكنها لم تحقق سلاماً دائماً، إذ تجددت الأعمال العدائية في صيف 2014، ما أدى إلى عملية “الجرف الصامد”.
هذا الصراع، الذي استمر 50 يوماً، انتهى بوساطة مصرية وقطرية وأممية، وأسفر عن اتفاق وقف إطلاق نار هش. توالت التصعيدات والتهدئات بشكل متكرر في السنوات التالية، كان آخرها في مايو 2021، حيث اندلعت مواجهات عنيفة استمرت 11 يوماً، وأدت إلى سقوط العديد من الضحايا وتدمير واسع النطاق في غزة، انتهت هذه الجولة من العنف بوساطة مصرية أيضًا، ولكن التوترات بقيت مستمرة، الملابسات حول هذه الهدنات غالباً ما تتشابك مع الأوضاع السياسية والعسكرية والإقليمية.
تلعب مصر وقطر والأمم المتحدة دورًا رئيسيًا في الوساطة بين الطرفين، لكن الضغوط الدولية والمصالح المتداخلة تجعل من تحقيق هدنة دائمة أمراً صعباً.
وتطالب حماس برفع الحصار عن غزة وتحسين الأوضاع الإنسانية كشرط أساسي لأي تهدئة طويلة الأمد، بينما تركز إسرائيل على نزع سلاح الفصائل المسلحة ووقف الهجمات الصاروخية.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الحديث عن هدنة طويلة الأمد، أو “هدنة لمدة 5 سنوات”، تم التفاوض عليها في عام 2019 بوساطة أممية ومصرية وقطرية، كانت تهدف إلى تحقيق هدوء طويل الأمد مقابل تحسينات اقتصادية وإنسانية في غزة، لكنها لم ترَ النور بشكل كامل، بسبب الخلافات المستمرة وعدم الثقة المتبادلة.
تاريخ الهدنة بين إسرائيل وحماس هو تاريخ من المحاولات المتكررة لتحقيق هدوء مؤقت، في ظل واقع معقد يتداخل فيه السياسي بالعسكري، والمحلي بالإقليمي.
مطلب مشروع لحماس
ومن منظور حقوقي، علق رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبدالكبير، بقوله، إن طلب حماس الحصول على ضمانات مكتوبة يعد مطلباً مشروعاً، فقد عانى سكان غزة من قتل وتدمير وحصار طويل الأمد وأوضاع إنسانية متردية على يد الإسرائيليين ووسط تغافل المجتمع الدولي، واستمرار المفاوضات دون قيود زمنية يمكن أن يفتح الباب أمام تحسينات جوهرية في حياتهم.
وتابع في تصريحاته لـ”جسور بوست”، الالتزام المكتوب من القوى الدولية يمكن أن يكون ضمانة إضافية لتحقيق هذه التحسينات، ويمنح الثقة للطرف الفلسطيني بأن مطالباته ستحظى بالاهتمام والمتابعة، إسرائيل من جانبها، ترفض هذا الطلب بحجة أن الالتزام غير المحدود زمنياً قد يمنح حماس فرصة للمماطلة واستغلال الهدنة لتعزيز قدراتها العسكرية، ترى إسرائيل أن مثل هذا الالتزام يمكن أن يعرقل قدرتها على التحرك عسكرياً إذا ما انتهكت حماس الاتفاق.
وأكد عبدالكبير أن هذا الموقف يعكس انعدام الثقة العميق بين الطرفين، ويجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق مستدام، توقف الهدنة بسبب هذا البند يعكس تعقيدات النزاع وأبعاده المتعددة، فهو ليس مجرد خلاف تقني حول تفاصيل الاتفاق، بل يعبر عن انعدام الثقة العميق بين الأطراف والفجوة الكبيرة في الأهداف والطموحات.
واستكمل، بالنسبة لسكان غزة، استمرار العنف يعني استمرار المعاناة الإنسانية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية والاجتماعية ومن جهة أخرى، يشعر الإسرائيليون بالقلق من استمرار تهديدات الهجمات الصاروخية والتصعيد العسكري.
ولحل هذا الخلاف قال الحقوقي التونسي، إنه ينبغي للأطراف الدولية الوسيطة أن تلعب دوراً أكبر في بناء جسور الثقة بين الطرفين، يمكن تقديم ضمانات إضافية لإسرائيل بشأن تطبيق الاتفاق بشكل يضمن أمنها، وفي الوقت نفسه الضغط لتحقيق تحسينات ملموسة وفورية في حياة سكان غزة، وكما يمكن اقتراح آليات مراقبة وتقييم دولية لضمان تنفيذ الاتفاقات بشفافية وفعالية.
وتابع، تحقيق هدنة مستدامة يتطلب من الأطراف كافة الالتزام الجاد بإيجاد حلول إنسانية وسياسية تتجاوز الحسابات الضيقة والمصالح الآنية، ويجب أن يكون الهدف الأسمى هو تحقيق السلام والعدالة لكلا الشعبين، وضمان حقوق الإنسان للجميع، فقط من خلال نهج شامل ومتكامل يمكن تحقيق هدنة حقيقية ومستدامة، تضع حداً لمعاناة المدنيين وتفتح الباب أمام مستقبل أفضل للجميع.
البند 14 مهلة أكبر لأمان غزة
وكمواطن فلسطيني وناشط حقوقي، علق محمود الحنفي على الأمر بقوله، إن توقف الهدنة بسبب البند 14 يشعرنا بالحزن والغضب تجاه الوضع الراهن، خاصة بعد الحرب الأخيرة التي بدأت في السابع من أكتوبر وأدت إلى مقتل الآلاف، إن معاناة الشعب الفلسطيني في غزة لم تعد قابلة للتحمل، وأي تأخير في تحقيق هدنة دائمة ومستدامة يزيد من الأعباء اليومية والمآسي الإنسانية التي يواجهها الناس.
وتابع في تصريحات لـ”جسور بوست”، البند 14 الذي يطلب التزاماً مكتوباً من الولايات المتحدة ومصر وقطر بشأن استمرار مفاوضات المرحلة الثانية دون قيود زمنية، يمثل بالنسبة لحماس ضمانة حيوية لأهدافها طويلة الأمد، من الناحية الحقوقية، هذا الطلب مشروع تماماً، نظراً للظروف الصعبة وغير الإنسانية التي يعيشها سكان غزة تحت الحصار والقصف المستمر، فضمان استمرارية المفاوضات دون سقف زمني يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة لتحسين الأوضاع الإنسانية والاقتصادية، والتي تُعتبر حقاً أساسياً لكل إنسان، ومع ذلك، فإن رفض إسرائيل لهذا الطلب يعكس انعدام الثقة العميق والفجوة الكبيرة في الطموحات والأهداف بين الطرفين.
وأوضح الحنفي أن إسرائيل تخشى من أن هذا الالتزام يمكن أن يُستغل لتعزيز قدرات حماس العسكرية، ما يعرض أمنها للخطر، ومع ذلك، فإن الاستمرار في استخدام هذا المبرر لعرقلة تحقيق هدنة دائمة يساهم في تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في غزة.
وأكد أن توقف الهدنة بسبب الخلاف على هذا البند يشكل فشلاً للمجتمع الدولي في التوسط بنجاح بين الطرفين والوصول إلى اتفاق يلبي احتياجات الجانبين، وأن الحاجة الملحة الآن هي لتحقيق هدنة تضع حداً للعنف المستمر وتوفر الأمل للمدنيين العالقين في دائرة الصراع، ويجب على المجتمع الدولي تكثيف جهوده لتقديم ضمانات لكلا الطرفين، ليتمكنوا من التوصل إلى اتفاق يُحقق التهدئة ويُعالج المخاوف الأمنية.
واختتم قائلا، يمكن أن تشمل هذه الجهود تقديم مراقبة دولية لضمان تنفيذ بنود الاتفاق بشفافية، وتوفير دعم اقتصادي وإنساني فوري لسكان غزة، وعلى الأطراف كافة أن تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة وتضع نصب أعينها مصلحة الناس الذين يعانون يومياً من ويلات الحرب.