“لا إجماع اليوم على إرسال قوات رسمية ومعتمَدة على الأرض (في أوكرانيا). ولكن من حيث الديناميات، لا يمكن استبعاد أي شيء”. بذلك، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قنبلته في احتفال الذكرى الثانية للغزو الروسي لأوكرانيا. نجم عن هذه الكلمات الاحتمالية والإشكالية، تسونامي من التفاعلات، يعكس التحول العميق في قلب التحالف الغربي برمّته.
فسر وزير الخارجية تصريحات ماكرون للمشرعين الفرنسيين: “يتطلب الأمر تلبية احتياجات محددة، ولكن ليس للقتال في الحرب ضد روسيا”. “يجب أن ننظر في إجراءات جديدة لدعم أوكرانيا. يجب أن تستجيب هذه لاحتياجات محددة للغاية”، وقال: “قد تتطلب بعض أعمالها وجوداً على الأراضي الأوكرانية، من دون عبور عتبة القتال”. وقال أيضاً: “لا ينبغي استبعاد أي شيء. كان هذا ولا يزال موقف رئيس الجمهورية اليوم”. ليعلق وزير الخارجية الليتواني: “تتطلب مثل هذه الأوقات قيادة سياسية وطموحاً وشجاعة للتفكير خارج الصندوق. المبادرة وراء اجتماع باريس أمس تستحق الدراسة”.
في بعض المناسبات قد يضطر الرؤساء لإلقاء تصريحات حادة تحذيرية، والكثير منها لا ينفذ، لكن واقع الحال مختلف تماماً هذه المرة. ففي الرابع عشر من شباط (فبراير)، وقعت أوكرانيا اتفاقيات أمنية طويلة الأجل للدعم العسكري والتدريب مع ألمانيا وفرنسا (اعتبرهما ماكرون اتفاقين “متكاملين”)، ليستمرا “ما تطلّب الأمر ذلك”. والحبل في أوروبا على الجرار. ليقول زيلينسكي: “ستكون أوكرانيا قريباً في حلف شمال الأطلسي”.
لكن الأمور لن تقف هنا. إذ تأتي الوقائع لتثبت أن الرئيس ماكرون لم يكن في تصريحاته يطلق بالوناته المعتادة! وبالفعل، تشير التقارير منذ بضعة أسابيع إلى وجود قوات غربية، بريطانية، وفرنسية، تقوم بمهمات غير قتالية إلى جانب القوات الأوكرانية.
فما مغزى كلام ماكرون؟ وما خلفية هذا الانعطاف؟
بعدما سارت بعض دول أوروبا لفترة خطوة إلى الأمام، خطوتين إلى الوراء، في دعم أوكرانيا، تنخرط أوروبا بوعي كامل في مجابهة جموح بوتين الإمبراطوري. تفرغ الدنمارك مخازنها من الدبابات والذخيرة، وكذا تفعل تشيكيا، وغيرها… وغيرها الخ…
لم تشتر أوروبا يوماً ذرائع بوتين للغزو، لا بشأن توسع الأطلسي ولا الدفاع عن الناطقين بالروسية. فلو قبلت أوروبا بهذا المبدأ، فستنفجر في صراعات بين الناطقين بالألمانية، أو الفرنسية، أو… الإنكليزية. فهكذا فعل هتلر.
فما حقيقة المخاوف خلف هذا الانخراط الأوروبي الجديد؟
تفهم أوروبا الغزو الروسي لأوكرانيا كجزء من خطة روسية حثيثة لغزو محيطها! فبعكس الأمم الغربية البحرية، حيث تدفع المرابح والتجارة مشاريع الهيمنة، يقوم العقل الإمبراطوري الروسي على مركزية الأرض كدافع مبدئي.
وهكذا، من أبخازيا، إلى أوسيتيا، ثم القرم، ثم ترانسنيستريا في مولدافيا، ثم الدونباس، وصولاً إلى حروب القوقاز في كاراباخ، ليختمها بالغزوة الكبرى الأخيرة لأوكرانيا، وإنكار حقها في الوجود، ذلك أن ثمة خيطاً إمبراطورياً عتيقاً يحكم خطط بوتين، ويفسر استعجاله وافتعاله في فبركة عبثية للتاريخ وللجغرافيا.
جوهر الموضوع أن ثمة تسع ثغرات جيو-استراتيجية تحيط بروسيا. تمتد من البحر الأبيض في الشمال، وصولاً إلى القوقاز. في حينه سيطر الاتحاد السوفياتي عليها جميعاً. وبعد انهياره، لم يبق لروسيا منها إلا واحدة.
وفي كل من حروبه “الصغيرة”، حاول بوتين الاستيلاء على الثغرات واحدة تلو الأخرى. لكنّ ثغرتين رئيسيتين لا تزالان مفتوحتين في عقله البري: ثغرة “بست-أرابيا” المحصورة بين رومانيا ومولدافيا، وثغرة جبال كارباثيا التي تقسم وسط أوروبا. مصيبة أوكرانيا مع جارها الروسي الإمبراطوري، أنها مجرد معبر نحو كل من هذه الثغرات. فالأولى تقع في وسط بولندا، والثانية في رومانيا.
بل ثمة طامة أخطر تزحف بصمت في نسيج الأمة الروسية. إنها الديموغرافيا. وإذ ينخفض معدل حياة الذكور في روسيا إلى 64 بحسب البنك الدولي 2022، ويقلع الروس عن الإنجاب، وتهاجر الجوهرة العلمية والتقنية للنخب، وتنهار منذ 1989 البنية التعليمية التي عَمّرها الاتحاد السوفياتي انهياراً فادحاً، ويدخل أصغر كادر تخرج قبل الانهيار نهاية خمسينياته، تتبلور الكارثة الديموغرافية (بحسب الدراسات الروسية ذاتها)، إذ إن عدد الشباب القابلين لدخول سوق العمل والتجنيد، سينخفض إلى النصف في السنوات الخمس المقبلة. إنها حسبة باهظة بالمعايير الاستراتيجية.
كعادتها تفهم أوروبا، وربما متأخرة جداً، دوافع غزوة أوكرانيا. يزيد من وعيها للخطر، إدراكها ذبذبات الاعتلال الأميركي المعتاد.
فكما في السبعينات، تمر أميركا باضطرابات دورية عميقة، لتدخل مرحلة تحول تهز روحها وجسدها. في تحولها الراهن تسعى أميركا للتكيف مع تحولات العصر التقني الجديد وتحديات عالم ما بعد القطب الأوحد. ورغم القناعة الكاملة بأن أميركا لن تفوّت استراتيجياً فرصة لجم بوتين، إلا أن أي اختلاج تكتيكي في موقفها سيودي بأوكرانيا، لتضع روسيا مدفعها في رأس أوروبا بأسرها.
وكما مع هتلر، تستدرك أوروبا تلكؤها التقليدي، ليصير الرهان على الوقت، وعلى القدرة على ملء الفجوات! وبعدما بطرت أوروبا بأحلام السلام الوردي الأوروبي، وإذ تصر أميركا على أن تساهم أوروبا في حصتها من أمن العالم الغربي، ها هي أوروبا ترسل جنودها من جديد نحو الشرق، وتتدفق الأموال نحو الصناعات العسكرية والإلكترونية.
لم تعد الحروب المديدة تحسب بالدبابات والطائرات، الخ… فحين تتصارع الأمم المعاصرة، لا يكون الرهان على العتاد أو شطارات زعيم مؤبد، ولا جبروت الجغرافيا، بل على نموذج الدولة، والسلطة، والمجتمع، والجيش بالطبع. وهكذا جاءت قنبلة ماكرون بكل ما حملته من غموض استراتيجي إيجابي، لتشعل تهديدات روسيا بالويل والثبور.
ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لفرنسا؟
تضع التحولات الدولية العميقة أمام أوروبا تحديات وفرصاً لا مناص منها. لكنّ لفرنسا موقعاً خاصاً هنا. ففي زمن تتفكك فيه العولمة وسلاسل الإنتاج ومصادر التمويل، وتتحوصل فيه المنظومات الدفاعية والتحالفات، تعتبر فرنسا واحدة من الدول القليلة في العالم (منها تركيا واليابان والهند والأرجنتين) المؤهلة نظرياً لمواجهة هذه التحولات والاحتفاظ بتوازنها وكفايتها لتشكل ركيزة استراتيجية لإقليمها. أما ألمانيا وبريطانيا فتسعيان بدورهما لإعادة إعراب موقعهما في العالم وفي أوروبا ذاتها.
قد يكون ماكرون فهم مستوى التحدي الوجودي لفرنسا ولأوروبا ما بعد بوتين وترامب، وفهم الصفعة الروسية الأخيرة لفرنسا في أفريقيا. ويبدو أن ماكرون قد التقط كل ذلك، فقرر القفز واقتناص اللحظة؟ وحلال على الشاطر.
لا يعني ذلك، بأي حال، أن فرنسا ستنخرط قريباً في حرب أوروبية أو عالمية شاملة، لكن أوروبا، بل فرنسا، تتجه لإعادة موضعة ذاتها في عالم ما بعد القطب الواحد.