إن مطالعة الفكر الكولونيالي بمختلف مجالاته -منها الفلسفي والأنثروبولوجي- تكشف بوضوح أن السردية التي تأسّس عليها هذا الفكر هي “بربرية وهمجية الآخر”. بل إن الأصل التاريخ لكلمة “البربر” Berbère يحيل إلى دونية الآخرـ
بدافع هذه المُسلَّمة سوف تصبح عملية التّمدن المزعوم -ولو قهرًا- مهمّةَ الإنسان الأوروبي. ومن صور تلك العملية ما أورده “غوستاف لوبون” في كتابه “روح السياسة” مقتبسًا من منشور أحد حُكّام الفرنسيين في مستعمَراتها يأمر موظفيه بضرورة إخضاع السكان الأصليين للرؤية الفرنسية عن التقدم: “يجب أن يتقدّم سكان مستعمراتنا على رغم أنوفهم، وما عجز عنه الإقناع والدليل من التأثير فيهم؛ فالقوة تفعله، ألا فليغيِّر الزنوج مزاجهم النفسي ليفقهونا، فلا تعاملوهم بمقتضى العاطفة، ولنضرب برغباتهم عرض الحائط، ولنمضِ في عملنا غير وَجِلين حتى نصل إلى الغاية المنشودة، ولا نخشى نتائج عملنا وإن احتقرنا عاداتهم المنافية لكل رُقيّ”.
وبالمنطق نفسه دافع السياسي والمُنَظِّر الاستعماري الفرنسي جول فيري Jules ferry عن مشروع الاستعمار داخل قبة البرلمان الفرنسي سنة 1885م؛ حيث أعلن في خطابه بكل وثوقية أن الاستعمار واجب تاريخي على فرنسا تجاه الشعوب غير المتحضرة؛ إذ يقول: “أيها السادة، علينا أن نقول بصوت مُدَوٍّ، وبمزيد من الحق: يجب أن نُعلن بصراحة أن للشعوب العليا حقًّا تجاه الشعوب الدنيا […]، أكرر أن هناك حقًّا للأعراق الأفضل؛ لأن عليها واجب تمدين وتحضير الأعراق الأدنى […]، هناك مناسبات كثيرة تتراءى أمامي فكرة أنه على فرنسا العظيمة، بل من الشرف أن لا تترك شعبًا بربريًّا يُمْعِن في الجمود زمنًا طويلاً”.
في الواقع، يمكن سرد العديد من النماذج عن هيمنة هذه السردية على العقل الاستعماري، لتسويغ استباحة أراضي وأعراض “الآخر”، والآخر هنا دومًا “غير الأوروبي”.
فشل مشروع التقدم:
والمفارقة أن المستعمِر فشل في إنجاز المهمّة المزعومة التي تعهَّد بها، عوضًا عن ذلك خلّف دمارًا وخرابًا وإفقارًا… إلخ، فلا زالت القارة الإفريقية تعاني من تبعاتها، وعليه فإن ما حدث هو “استدمار” وتدمير بشع، أكثر من كونه “استعمارًا”. كما أن خروج المستعمِر من أراضي مستعمَراته لم يكن بإقرار منه بفشل مشروعه المزعوم؛ لأن “الآخر” غير قابل للتقدّم، وإنما كان لعوامل اقتصادية وعسكرية جراء ما لحق فرنسا من متاعب في الحرب العالمية الثانية من جهة، وضغوط الحركات التحررية من جهة أخرى، مما اضطرها لمنح مستعمراتها استقلالها بشكل تدريجي؛ وإذ ذاك اقتضى تغيير موازين السياسة الدولية، تغيير آليات سياستها الاستعمارية.
من استئصال الهمجية إلى سياسة التنمية:
ألزم استقلال الدول الإفريقية فرنسا ببلورة خطاب مغاير لمسايرة الوضع الجديد؛ للتمكُّن من البقاء في إفريقيا بشكل شرعي بعد خروجها منها شكليًّا، فكانت الوسيلة الأنسب لذلك: تغيير العلاقة الفرنسية-الإفريقية، من علاقة استعمارية، إلى علاقة رعوية، تضمن تبعية إفريقيا لفرنسا، وهكذا بدت فرنسا -منذ عهد الاستقلال-راعية ومسؤولة عن إعمار وتنمية إفريقيا، كما توحي إليه عبارة françafrique، عبر العمل على ثلاث مستويات أساسية:
1- المستوى الاقتصادي:
الذي يتجلى، من جهة، في الارتباط النقدي بين فرنسا وأربع عشرة دولة إفريقية بواسطة عملة الفرنك الإفريقي France CFA، وهي العملة الرسمية لتلك الدول، ويعود تاريخ اعتمادها إلى سنة 1945م. ومن الجدير بالإشارة إليه في هذا السياق: أن طباعة هذه العملة تُكلِّف دُولها تقديم خمسين في المائة تقريبًا من احتياطاتها النقدية من العملة الأجنبية للخزينة الفرنسية؛ لضمان استقرار قيمة العملة، أضف إلى ذلك إلزام تلك الدول بطباعة عملتها في فرنسا حصرًا.
ومن جهة أخرى، فإن فرنسا التزمت بتقديم مساعدات مالية إلى إفريقيا بشكل منتظم ضمن خطتها الإنمائية؛ إذ باشرت فرنسا بُعَيْد الاستقلال منح مساعدات نقدية للدول المستقلة حديثًا، وبالخصوص دول جنوب الصحراء، وكانت مهمة إدارة أغلب هذه المساعدات مسنَدة إلى وزارة التعاون القائمة آنذاك محل وزارة ما وراء البحار، وقد تفطَّنت فرنسا إلى أن تقديم المساعدات المالية يُعدّ أحد أهم نقاط قوتها في استمرار تبعية إفريقيا لها، وبناءً على ذلك ظلت تزيد حصة إفريقيا الفرنكوفونية من المساعدات كلما دعت الحاجة لذلك، على سبيل المثال قُدرت تلك المساعدة بـ3،7 مليار دولار في الفترة ما بين 1980 – 1982م بينما قُدِّرت بـ8،2 مليار دولار فيما بين 1990- 1992م، وفي عام 2021م تصدرت منطقة إفريقيا الغربية على الصعيد الإقليمي في قائمة دول المستفيدة من المساعدة الإنمائية الفرنسية، تتبعها أمريكا الجنوبية، ثم إفريقيا الشمالية. بحسب ما نُشر في موقع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية. وكخطوة لمواجهة المد الصيني في إفريقيا، تقدَّمت الحكومة الفرنسية عام 2021م إلى جمعيتها الوطنية بمشروع قانون يهدف إلى إصلاح سياستها التنموية برفع ميزانيتها مع زيادة على حصة دول إفريقيا جنوب الصحراء، وإعطاء الأولوية للمنح بدل القروض، ومما تضمن المشروع القانوني تخصيص 0،55 بالمائة من الناتج الوطني الخام.
بضاعة تُردّ إلى أهلها:
لا ينكر المرء المنصف التأثير الإيجابي للمساعدات المالية الفرنسية –رغم ضآلة هذه المساعدات-، غير أن ما يُشكّك في براءة تلك المساعدات هو حجم النهب واستغلال الموارد الطبيعة لتلك الدول الإفريقية من عصر الاستقلال إلى وقت قريب، لذلك ليس من باب العبث مطالبة دول الساحل الثائرة، بمراجعة اتفاقياتها مع فرنسا، وعليه فإن المساعدات المذكورة لا تعدو كونها فتاتًا مما تمَّ نَهْبه من ثروات الدول المستفيدة منها، ومازلنا نتذكر جميعًا تصريح رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني Matteo Salvini عند ما اشتده غضبه على فرنسا بخصوص ملف الهجرة واللاجئين سنة 2019م، متهمًا فرنسا باستغلال ثروات إفريقيا.
2- المستوى السياسي:
ذُكر آنفًا أن الاستقلال فرض نفسه على فرنسا، وبالتالي هي لم تكن راغبة في استقلال الدول الإفريقية عن حكمها، لذلك توصَّل شارل ديجول Charles de Gaulle إلى إستراتيجية جديدة تضمن تبعية إفريقيا لفرنسا في الجوهر بينما هي مستقلة في الشكل.
تمثل ذلك في العديد من الخطابات القيمية والإنسانية، مثل: التعددية الحزبية والديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى بدت دساتير وقوانين أغلب هذه الدول نسخةً من الدستور والقوانين الفرنسية، وهنا تكمن أهمية النظام الرئاسي في الدول الإفريقية بالنسبة لفرنسا؛ حيث إن رئيس الجهورية -في السياق الإفريقي- هو المتحكم الفعلي في زمام جميع الشؤون، وعلى ذلك فإن التحكم في شأن الدولة لا يُكلِّف فرنسا أكثر من التحكّم بشخص الرئيس صاحب السلطة، من هذا الواقع يُفهَم تواطؤ فرنسا مع بعض رؤساء إفريقيا في إفساد دولهم، بمقايضة السلطة مقابل الموارد. علاوةً على التكلفة الباهظة التي تدفعها دول الفرانك لفرنسا لطباعة عملتها.
جاك فوكار Jacques Foccart رجل المرحلة:
كلّف ديجول عام 1962م جاك فوكار -الذي كان يشغل منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية للشؤون الإفريقية والملغاشية- بإعداد خطة جديدة لعلاقة فرنسا مع مستعمراتها السابقة في إفريقيا.
تنفيذًا لمهمته أضحى فوكار فعلاً الحاكم الفرنسي في إفريقيا؛ إذ كان دوره حاسمًا في تعيين رؤساء والإطاحة بآخرين في إفريقيا وفق مصلحة بلده، فقد أبرم عقودًا مع رؤساء الأفارقة الذين استجابوا لإملاءاته، يُوفّر لهم الحماية من الانقلابات مقابل وصول الشركات الفرنسية لمواردها كالغاز واليورانيوم والنفط… وغيرها. فضلاً عن تمكين الأجهزة الأمنية والاستخبارية الفرنسية من التوغُّل في دوائر الحكم الإفريقية، وقد واصل تقديم خدمته بعد عهد ديجول إلى وفاته في عهد جاك شيراك Jacques Chirac عام 1997م، حيث مات ولكن لم يمت معه تأثير سياسته على إفريقيا، وإنما لا يزال ذلك التأثير جاريًا؛ إذ هو مهندس ما يسمى اليوم بـ “الاستعمار الجديد New colonialisme”.
الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوياتنا:
أدَّت نهاية الحرب الباردة وانتصار المعسكر الليبرالي -الذي تنتمي إليه فرنسا- إلى تركيز الأولوية الخطابية الفرنسية تجاه الأفارقة على القيم الإنسانية المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، لضمان تبعية إفريقيا الأيديولوجية لها، وبدت فرنسا في هذه اللحظة –وفق ما تعلنه- تصرف كل جهدها المتعلق بالشأن الإفريقي لتعزيز التنمية السياسية، بل جعلتها شرطًا للتنمية الاقتصادية.
في هذا السياق صرح الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران François Mitterrand في القمة الفرنسية الإفريقية عام 1990م لرؤساء الأفارقة المشاركين في القمة بأن التعددية الحزبية ستكون شرطًا للاستفادة من مساعدة دولته. وقد صادق الرئيس فرانسوا هولاند François Hollande على الخطاب نفسه في زيارته الأولى إلى إفريقيا بعد تنصيبه 2012م تحديدًا في السنغال؛ حيث أشار إلى أن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان سيكون لها الدور الحاسم في تطوير العلاقة الفرنسية الإفريقية، بل صرَّح في الخطاب نفسه بأنه لا وجود لتنمية اقتصادية حقيقية أو تقدُّم اجتماعي حقيقي دون التعددية الحزبية.
يتضح فيما سبق أن التنمية السياسية متمثلة في تعزيز الديمقراطية هي خطاب فرنسا لإفريقيا في هذه المرحلة، وألزم ذلك حُكّام إفريقيا بإجراء تغيير شكلي في أساليب حكمهم مسايرةً للمطلب الفرنسي، لكن هل فرنسا كانت جادة في دعوى تثبيت دعائم الديمقراطية في إفريقيا؟
الأفعال تناقض الأقوال:
إذا احتكمنا إلى محكمة الوقائع يتبيّن أن فرنسا لم تُبْدِ اهتمامًا ذا بال في ترسيخ الديمقراطية في إفريقيا، بل على العكس كانت تتصرف وفق المنطق البراغماتي بالوجه الذي يُمكِّنها من المحافظة على مصالحها في القارة، كما توحي بذلك العديد من الوقائع. ففي الوقت الذي تعهَّد فيه ميتران باشتراط التعددية الحزبية للاستفادة من الدعم الفرنسي، تفوقت حصة دول إفريقية ذات أنظمة تسلطية مثل الكاميرون وتوجو وزائير (الكونغو الديمقراطية) على دول إفريقية أخرى كانت تتوجه نحو الديمقراطية مثل مالي وبنين والنيجر. فضلاً عن دعمها لبعض الرؤساء الانقلابيين الذي شرّعوا الحكم الوراثي في دولهم.
3- المستوى الأمني:
طبعت العلاقة الأمنية الفرنسية الإفريقية بطابع التدخلات العسكرية الفرنسية في عدد من الدول الإفريقية بذريعة استعادة النظام تارة، ومكافحة الإرهاب تارة أخرى، ورصد البعض منها 37 تدخلاً في الفترة الواقعة بين 1961- 2017م، وتشمل تلك التدخلات التدخل في غابون 1964م، ورواندا بين 1990 و1994م وجزر القمر 1989م وساحل العاج 2002م. وقد تميزت التدخلات الفرنسية في القرن الحادي العشرين بادعاء محاربة الإرهاب لتبرير إبقاء القواعد العسكرية في إفريقيا.
وفي الواقع نفَّذت جيوش تلك القواعد مجموعة من العمليات العسكرية ضد الإرهابيين في عدد من دول الساحل مسرح الإرهابيين في المنطقة، مثل مالي وبوركينا فاسو. إلا أنه في لحظة تاريخية ما، محرجة لفرنسا، وضعت معظم دول المنطقة جدوى بقاء تلك القواعد في أراضيها موضع التساؤل، تمخَّض عنه انسحاب القوات الفرنسية وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في بعض تلك الدول كالدولتين المذكورتين آنفًا، فيما أعلنت أخرى عن قرار خروج القوات الفرنسية من ترابها مثل السنغال وساحل العاج.
وهكذا نصَّبت فرنسا نفسها راعيةً ومسؤولة عن تنمية إفريقيا عبر هذه المسوغات الثلاث المذكورة، ووفقًا لهذه الإستراتيجية نجحت فرنسا في المحافظة على هيمنتها على إفريقيا لأمد طويل، رغم ذلك -ولحسن الحظ- يعيش النفوذ الفرنسي في إفريقيا آخر أيامه، أو على الأصح أملي كبير أن يكون الأمر كذلك.
من خطاب التنمية إلى خطاب السيادة:
ماكرون والخطاب الاستفزازي:
منذ وصول إيمانويل ماكرون لسُدَّة الحكم في فرنسا عام 2017م ألقى خطابات ذات طابع شرائكي وأممي، بَيْد أن كل هذه الخطابات لم تُستقبَل بالطريقة نفسها؛ إذ البعض منها أثار ردود فعل ممتعضة كما الحال في خطابه عن “الانفصالية الإسلامية” عام 2020م الذي ورد فيه أن “الإسلام يعيش في أزمة في جميع أنحاء العالم”. ومنها كذلك تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي لها، قاله في سياق لقائه مع مجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية عام 2021م بباريس.
وكذلك كلمته بشأن جهود فرنسا في محاربة الإرهاب في دول الساحل؛ حيث قال: إن تلك الدول نسيت أن تشكر فرنسا على وقوفها بجانبها في محاربة الإرهاب، وأنه ما كانت لتصبح لتلك الدول ذات سيادة لولا تدخل الجيش الفرنسي. كلّ هذه التصريحات سببت تفاعلات استنكارية مِن قِبَل المهتمين، بل أثارت حفيظة جماعة من الناس المعنيين بها.
إفريقيا غير مؤهّلَة للسيادة:
لا يُفوِّت ماكرون فرصة إلا ويُذكِّر الدول الإفريقية، التي تعاني من هجمات الجماعات المسلحة، عن فضل فرنسا عليها في عدم سقوط أنظمتها أمام الإرهابيين، كما فعل في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس الكونغو الديموقراطية Félix tshisekedi أثناء جولته الإفريقية عام 2023م؛ حيث ذكر -جوابًا عن سؤال متعلق بموقف فرنسا من الصراع والحرب الأهلية في الكونغو الديموقراطية وعلاقتها بجارتها رواندا- أن الكونغو الديموقراطية كانت عاجزة سنة 1994م عن استعادة سيادتها عسكريًّا وأمنيًّا وإداريًّا.
وهكذا تكلم في مؤتمر صحفي آخر عُقد على هامش المؤتمر الأوروبي الإفريقي عام 2022م بباريس؛ معللًا تدخّل الجيش الفرنسي في مالي سنة 2013م بقوله: (ماذا كان سيحدث لو لم تتدخل فرنسا؟ كنا سنشهد بالتأكيد انهيارًا للدولة المالية)، وكان آخر هذا النوع من التصريحات -حتى الآن- قوله: “إن دول الساحل نسيت أن تشكر فرنسا على ما قامت به في محاربة الإرهاب في المنطقة. ولولا ذلك لما أصبح أي دولة منها ذات سيادة”… ألقاه في مؤتمر السفراء الفرنسيين المقام 6 يناير 2025م بباريس.
فكان من الطبيعي أن يثير هذا التصريح الأخير موجة غضب أكثر من سابقاته؛ حيث انبرى ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي وقادة حكومات للردّ عليه، وكانت أبرز تلك الردود، ما قدَّمه كلّ مِن رئيس الفترة الانتقالية لبوركينا فاسو إبراهيم تراوري، والوزير الأول السنغالي عثمان صونكو، وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله.
“الاستعجاز” هو بنية خطاب المتبوع:
لو يحلو لي استعارة مفاهيم المدرسة البنيوية Structuralisme في تحليلي لخطاب المتبوع/المستعمِر القديم، للتابع/المستعمَر القديم، لزعمتُ أن البنية القارية في خطاب المتبوع للتابع هي “الاستعجاز”، رغم اختلاف الإستراتيجيات، فلا فرق إذن -على مستوى البنية- بين السياسة الديجولية -نسبة إلى شارل ديجول- بُعيد الاستقلال، وما لاحقها من الخطط التنموية المذكورة في متن المقال، إلى التدخلات العسكرية بصنفيها، وختامًا بتصريحات ماكرون المستفزة، فجميعها ينتمي إلى النظام نفسه، تحتلّ فيه فرنسا موقع المتبوع وإفريقيا موقع التابع، والتابع كما هو معروف كَلٌّ على متبوعه لا يَقْدِر على شيء.
ولعل مما يدعم مذهبي هذا؛ ما قاله رئيس الكونغو الديموقراطية في المؤتمر الصحفي المذكور سلفًا لنظيره الفرنسي ماكرون عن ضرورة تغيير الأسلوب الذي يتعامل به الحكام الأوروبيون مع الأفارقة، عليهم أن يحترموا الأفارقة ويعتبروهم شركاء حقيقيين، وأن يتخلوا عن نظرتهم الأبوية تجاههم.
وأيضًا ما قاله رئيس بوركينا فاسو في ردّه على تصريح ماكرون بشأن عدم شكر الأفارقة لفرنسا؛ حيث ذكر أن ماكرون لا يعتبر الأفارقة بشرًا، وإذا أراد الأفارقة القطيعة مع هذه القوى الإمبريالية يجب عليها أن تلغي جميع اتفاقياتها معها… وعلى الأفارقة أن يعملوا من أجل استقلالهم.
ففي كلا الاستشهادين إحساس ضمني أن المستعمرات الإفريقية السابقة مازالت في حالة تبعية لفرنسا، فعليها إذن أن تعمل من أجل استقلاليتها التامة عنها. وما يحدث الآن من قطع العلاقات بين بعض الدول الإفريقية وفرنسا، ومراجعة بعضها الآخر لتلك العلاقات، وانسحاب القواعد العسكرية الفرنسية من المنطقة، لهو تأكيد على إرادة الاستقلال الحقيقي، وإذا كان الأمر كذلك ففرنسا اليوم مطالبة بتغيير قواعد الخطاب، من كونه خطابًا صادرًا من المتبوع متوجِّهًا إلى التابع، إلى خطاب الندية، قاعدته الشراكة والربح المتبادل لا الأحادية والاستغلالية.
إفريقيا جنوب الصحراء… والمهمة التاريخية السيادية:
ثمة جدل في تقليد فلسفة التاريخ حول دور ثنائية البطل والتاريخ في صناعة التاريخ، يتبلور بالصيغة الاستفهامية التالية: التاريخ والبطل أيهما يصنع الآخر؟
وبمعنى أوضح: هل التاريخ يسير على خطّ أفقي نحو هدف أسمى بمعزل عن إرادة الأفراد، أم أنه يسير وفق مخطط الأفراد وبالتالي فَهُم مَن يُوجّهونه إلى مقصدهم؟
ليس هدفي في هذه الجزئية معالجة الإشكالية على ضوء معطيات واقع المنطقة، وإنما أشير إلى أن مهمة المرحلة لقادة المنطقة تكميل المسار التحرري الذي قطع مسارًا معتبرًا في هذه الظرفية أكثر من غيرها بفضل عدة عوامل، منها: القيادة الشبابية، والوعي الشعبي، وتَغيُّر النظام الدولي، إضافة إلى الاهتمام الدولي المتزايد بالشراكة الإفريقية التي أصبح لها أهمية بالغة في الجيوسياسية.
وهي مهمة يستشعرها حكام المنطقة ومتابعو الشأن؛ يستشفّون ذلك في تصريحاتهم المتعلقة بالعلاقات مع فرنسا أو الدول الغربية والأوروبية بشكل عام، سواء تعلق الأمر بتصريحات قادة المجالس العسكرية في كلٍّ من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، كما يُستشفّ أيضًا في كلمة الرئيس السنغالي الحالي بمناسبة تنصيبه؛ حيث تكررت كلمةُ السيادة أكثر من مرة وفي سياقات مختلفة، والتصريحات المتعلقة بانسحاب القوات الفرنسية في دول المنطقة مثل تشاد.
ختامًا:
نعيش حاليًّا تحولات جديرة بالاهتمام في العلاقة الإفريقية الفرنسية، بعد أكثر من نصف القرن من الاستغلال والاستفادة من جانب واحد؛ كلّ ذلك بفضل الخطاب المتبنَّى من الحكومات الفرنسية المتعاقبة، وإن فرَّقت بينها الإستراتيجيات والخطط بحسب اقتضاء الظرفية، فإفريقيا اليوم منفتحة على إمكانات هائلة من التعدد الشرائكي الذي قوامه الندية والربح المتبادل.
إنها اللحظة الإفريقية التي تضع قادة القارة في مفترق الطرق بين السعي الحثيث للتخلص المطلق من التبعية الفرنسية، عبر شراكة مربحة مع أطراف متعددة، وتحفيز المشاريع المحلية الناهضة بالاقتصاد الوطني، وتحسين ظروف التعليم وارتباط مخرجاته بمتطلبات سوق العمل، خاصةً فيما يتعلق بالتكنولوجيا واستغلال الموارد الطبيعية، وبين الارتداد والتضحية بالمكتسب التحرُّري بالارتماء إلى حضن قوة خارجية ليست بالضرورة أن تكون فرنسا.