في مقابلة له قبل أيام مع تلفزيون «فوكس نيوز»، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه تفاجأ من رفض مصر والأردن لمشروعه بترحيل الفلسطينيين من غزة إليهما، قائلاً: إنه كان مُجرد اقتراح من قبله، وإنه لا يتمسك به، مضيفاً: «إنه لا يفهم أصلاً لماذا تخلّت إسرائيل عن غزة؟ فشواطئها جميلة جداً وإنه سيدعم خيارات دولة الاحتلال.
لتفسير ما قصده ترامب في مشروع الترحيل، قال ستيف ويتكوف، في المؤتمر الاستثماري السعودي بمدينة «ميامي» الأميركية: إن الخطة بشأن غزة قد «أُسيء فهمها»، وإن «ترامب لم يقصد الإخلاء القسري للسكان، وإنما للتفكير خارج الصندوق لأنه وبكل بساطة لا يمكن إعادة إعمار غزة خلال خمس سنوات»، مضيفاً: لماذا «نستمر في تجربة حل فشل على مدار الخمسين عاماً الماضية؟ هذا لا يبدو منطقيّاً».
ويتكوف لم يقل إن الذي دمّر غزة وجعلها مكاناً غير صالح للحياة هي دولة الاحتلال، وإنها هي من رفضت وترفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، وهي بالتالي من تتحمل مسؤولية استمرار الصراع.
ترامب يتساءل عن سبب ترك إسرائيل غزة للفلسطينيين، ومبعوثه يتحدث عن حلول من خارج الصندوق ليس لغزة فقط، وإنما للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
هذا أكثر ما يثير الرعب في هذيان ترامب بشأن غزة
لا يخفى على أحد اليوم أن تأييد إدارة ترامب لدولة الاحتلال يأتي من عاملين: الأول هو أن هنالك قاعدة مسيحية عريضة تؤيد دولة الاحتلال قامت بانتخابه رئيساً للولايات المتحدة، والثاني هو شبكة علاقاته الشخصية مع عدد كبير من اليهود الأثرياء من أمثال والد جاريد كوشنر (شارلز كوشنر) الذي قام بتعيينه سفيراً لأميركا في فرنسا، ومتبرعين يهود أثرياء قاموا بتمويل حملته الرئاسية مثل ميريام أديلسون وهي أرملة شيلدون أديلسون صاحب مجموعة كازينوهات عملاقة، والتي قدمت له أكثر من 100 مليون دولار مقابل موافقته على ضم إسرائيل للضفة الغربية في حال نجاحه في الانتخابات.
هذا يعني أن ترامب سيقدم الدعم لإسرائيل في جميع أهدافها، وأن علينا أن نتوقع الأسوأ من إدارته خلال السنوات الأربع القادمة.
إذا تم استبعاد التهجير كهدف للإدارة الأميركية بعد أن تم التراجع عنه علناً، فإن الأقرب للمنطق هو أن مشروع التهجير كان لديه ثلاثة أهداف:
الأول، أن ترامب الذي يعتبر نفسه «مفاوضاً عقارياً جيداً» يرفع من سقف مطالبه للعرب حتى إذا تنازل عن بعضها يكون قد دفع ثمناً أقل بكثير مما يريده ممّن يتفاوض معهم. بكلمات أوضح، إذا كان العرب والفلسطينيون يأملون بدولة فلسطينية على كامل الضفة وغزة والقدس الشرقية مقابل علاقات سلام مع إسرائيل، فإن ترامب لن يفاوضهم على مطالبهم، ولكن سيقول لهم «أنا تنازلت لكم في موضوع ترحيل الفلسطينيين من غزة، ومقابل ذلك ستقومون أنتم بإقامة علاقات سلام مع إسرائيل». أي أنه سيعمل على إزالة مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة عن طاولة المفاوضات، والتي تطالب بها المملكة العربية السعودية مقابل علاقات السلام مع إسرائيل بذريعة أنه قدم تنازلاً مسبقاً بالامتناع عن ترحيل الفلسطينيين.
لقد فعل ترامب ذلك في السابق مع الإمارات العربية المتحدة. عندما رفض الفلسطينيون صفقة ترامب العام 2020، كانت دولة الاحتلال تنوي ضم 30% من مساحة الضفة، حينها قالت الإمارات: إنها ستقوم بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل لكن بشرط أن تتخلي عن قرار الضم وهو ما حدث. حيث حصل ترامب على ما يريده وهو التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، ولم تُقدم مقابل ذلك دولة الاحتلال أي شيء سوى الامتناع المؤقت عن ضم أجزاء من الضفة الغربية.
الثاني، هو الحفاظ على حكومة نتنياهو المُهددة بالانهيار إذا ما انسحب حزب «الصهيونية الدينية» منها. سموتريتش، زعيم الحزب، كان قد أعلن أن الذهاب للمرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تتضمن الانسحاب الكامل من غزة والإعلان عن وقف دائم لإطلاق النار، سيدفع حزبه للانسحاب من الائتلاف الحاكم، ما يعني أن حكومة نتنياهو ستخسر غالبيتها في الكنيست، ما سيؤدي إلى سقوطها وإلى انتخابات برلمانية جديدة لن يتمكن فيها نتنياهو من الفوز وفق استطلاعات الرأي.
من خلال دعم ترامب لخيارات دولة الاحتلال، بما فيها العودة للحرب، فإن سموتريتش لن تكون لديه ذريعة لانسحاب من الحكومة، وسيقبل بتنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق على الأقل؛ لأنه يعلم أن دولة الاحتلال تمتلك خيار العودة للحرب وبدعم أميركي بعد حصولها على أسراها.
الأهم من ذلك ربما هو أن المرحلة الثالثة من الاتفاق، مرحلة إعادة الإعمار، ستشهد ربما طرح الولايات المتحدة لمشاريع كبرى تسمح بمنع استمرار الحرب على غزة مقابل السماح لدولة الاحتلال بضم مناطق واسعة في الضفة الغربية ربما تتجاوز 30% من مساحتها (التجمعات الاستيطانية ومعها غور الأردن كاملاً)، ما سيدفع سموتريتش للبقاء في الحكومة.
الثالث، هو استباق مفاوضات المرحلة الثانية بين إسرائيل والفلسطينيين للضغط على المقاومة الفلسطينية في غزة؛ من أجل قبولها بالشروط الإسرائيلية لاستمرار وقف إطلاق النار. لقد أعلنت إسرائيل أنها تريد تحقيق «النصر المطلق في غزة»، ما يعني القضاء على المقاومة الفلسطينية فيها بتجريدها من سلاحها ونفي أو قتل قادتها، وتحويل غزة إلى ضفة غربية جديدة يُمكن للجيش الإسرائيلي أن يدخلها متى أراد ودون مقاومة من أي جهة، وأن تتحكم هي في تفاصيل حياة سكانها اليومية.
في نفس السياق، وإذا لم تقبل المقاومة الفلسطينية تسليم أسلحتها، فإن ترامب يأمل من «العرب»، أن يرسلوا قوات عسكرية لغزة لمحاربة المقاومة الفلسطينية بدلاً من دولة الاحتلال، وهي خطة سيرفضها العرب على الأغلب. لكن ترامب يأمل أنه بين خيار عودة دولة الاحتلال للحرب وبين خيار «إلقاء غزة» في حضن العرب للتعامل مع المقاومة الفلسطينية، قد تكون هنالك فسحة «لحلّ» يحقق فيها لدولة الاحتلال بعضاً من أهدافها.
هذه باختصار الأهداف السياسية التي قد تكون وراء إعلان ترامب عن نيّته ترحيل الفلسطينيين من غزة ثم التراجع عنه. المرحلة بلا شك خطيرة جداً، ودون موقف عربي حازم وداعم للحقوق الفلسطينية التاريخية، فإن احتمالات العودة للحرب على غزة عالية جداً، وهي حرب لا تستهدف المقاومة الفلسطينية في غزة فقط، بل تستهدف تقرير مستقبل القضية الفلسطينية لعقود قادمة.