تحدثت تقارير صحفية خلال الأيام الماضية عن طلب تقدمت به إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتخصيص مبلغ 57.2 مليون دولار من موازنة العام 2025 لتمويل وجود دبلوماسي أكبر في ليبيا، بما يشكل تكاليف الممتلكات والسفر والأمن للمنشأة المتواجدة التي ستكون في ضواحي طرابلس. يأتي ذلك بعد أن تم الكشف عن وجود شركة “أمنتوم” الأمنية الأميركية الخاصة في العاصمة الليبية بهدف توفير التدريب العسكري للجماعات المسلحة من أجل دمجها في القوات الرسمية هناك، كما سبق أن قدمته لقوات الأمن في دول مثل العراق وأفغانستان، وهو ما كان رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة هيأ له الرأي العام، عندما تحدث عن الاتجاه نحو دمج الجماعات المسلحة في مؤسسات الدولة، واعتبرها جزءا من أمن البلاد.
المتابعون للشأن الليبي يدركون جيدا أن التحرك الأميركي الأخير لم يكن مفاجئا وإنما جاء في سياقات صراع النفوذ مع روسيا في المنطقتين الشرقية والجنوبية، وسيؤدي خلال الفترة القادمة إلى تشكيل ملامح حالة التقسيم العملي للبلد الذي لا يزال يعيش وضعا غير مستقر منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي في العام 2011، بتدخل عسكري أجنبي مباشر شاركت فيه 40 دولة واستمر لمدة ستة أشهر.
سنلاحظ لاحقا، أن الولايات المتحدة تعمل على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه في ليبيا إلى أن تنتهي من توسعة حضورها الدبلوماسي وتكريس وجودها الأمني والعسكري في المنطقة الغربية، وتشكيل ما يمكن وصفه بـ“المنطقة الخضراء” في طرابلس، وبالتالي فإنها ستكون أهم داعم لسلطة الدبيبة خلال الفترة القادمة، وإن تظاهرت بعكس ذلك، وهي تجد فيه وفي فريقه السياسي أفضل من يمكن أن يساعدها على تنفيذ مشروعها في البلاد.
المشكلة الأساسية، أن التقسيم أو الفوضى كانا في أغلب الحالات مصير أي بلد يتصارع حوله ومن داخله الأميركان مع الروس، وهو ما يدركه الليبيون جيدا، لاسيما في ظل حالة الانقسام السياسي والحكومي وانقسام المؤسسة العسكرية بين طرابلس وبنغازي، وظهور بوادر العودة إلى ما قبل تأسيس دولة الاستقلال في العام 1951.
في الثالث من ديسمبر القادم، يكون قد مر 90 عاما على استحداث اسم ليبيا، وإطلاقه على المساحة الجغرافية الموجودة في شمال أفريقيا بحدودها الحالية وبمكانتها المتميزة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط وفي شمال أفريقيا، وكبوابة رئيسة لمنطقة الصحراء الكبرى.
ففي 3 ديسمبر من عام 1934، صدر من العاصمة الإيطالية روما المرسوم الملكي التشريعي رقم 2012 بأن تحمل المستعمرة الواقعة في شمال أفريقيا رسميا اسم ليبيا، لتصبح بذلك مستعمرة واحدة مقرّها الرئيسي طرابلس، توحد من الناحية الإدارية إقليمي طرابلس وبرقة اللذين كانا يعتبران سابقا مفرزتين إيطاليتين منفردتين.
عندما وصل إيتالو بالبو، حاكم طرابلس وبرقة الجديد في يناير 1934، بدأت تتكشف متغيرات جديدة حول موضوع إدارة المستعمرة، مثل قضايا التعاون والتكامل بين السكان المحليين والمستوطنين الإيطاليين، وبينهم وبين “الوطن الأمّ إيطاليا”. وذلك بعد عامين من القمع الذي تمّ به سحق المقاومة الليبية في برقة على يد غراتسياني في عام 1932، ولاسيما بعد أن تم في سبتمبر 1931 إعدام الزعيم الشيخ عمر المختار الذي لم يكتب له أن يسمع اسم ليبيا في حياته.
أما عن سر التسمية، فيعود إلى الصيغة الإغريقية للاسم الذي أطلقه المستوطنون الإغريق على المنطقة الواقعة من غربي وادي النيل إلى الأطلسي، والذي كان بحسب الأساطير اسما لزوجة الإله بوسيدون إله البحار، ولكنه مأخوذ في الحقيقة من اسم قبيلة ليبو المذكورة في المصادر المصرية والتي كانت تقيم في منطقة برقة، ثم أطلق اليونانيون والكتّاب القدماء هذه التسمية على شمال القارة الأفريقية.
اتجه بالبو إلى اتباع سياسة المصالحة مع الليبيين، وحاول توحيد النسيج الاجتماعي للمستعمرة، وكان يعتقد أنه من الممكن إقناع السكان المحليين بأنهم يستطيعون التحول إلى إيطاليين، وهو ما سعى إليه المرسوم الملكي الصادر في 9 يناير من عام 1939، بإقراره ضم محافظات ليبيا الأربع طرابلس ومصراتة وبنغازي ودرنة إلى مملكة إيطاليا. وهم بذلك لم يعودوا رعايا استعماريين، وإنما أصبحوا مواطنين ليبيين – إيطاليين، يحق لهم الانضمام إلى الجيش الإيطالي وتولي مناصب في الإدارات المحلية وغيرها. حتى إن موسيليني أطلق عليهم اسم “المسلمين الإيطاليين على الشاطئ الرابع لإيطاليا”.
نهاية إيتالو بالبو كانت مأساوية، حدث ذلك قرب طبرق يوم 28 يونيو 1940 أثناء عودته من جولة تفقدية على متن طائرة إيطالية من نوع سافوا ماركيتي أس.أم 79. صادف أن شهد ذلك اليوم تعرض القاعدة العسكرية الإيطالية لقصف جوي بريطاني تسبب في سقوط العديد من القتلى. وبعد رحيل الطائرات البريطانية عن الموقع، حلّت طائرة إيتالو بالبو بالقرب من مدرج الهبوط بالمنطقة العسكرية الإيطالية، ودون قصد، شكك العاملون على بطاريات الدفاع الجوية الإيطالية في هوية الطائرة وظنوا أنها قاذفة قنابل بريطانية. وعلى الفور، فتحوا عليها النار ما تسبب في سقوطها ومقتله على عين المكان.
رغم بشاعة الاستعمار الاستيطاني الإيطالي، من الضروري الاعتراف بأنه كان وراء تهيئة الظروف لقيام دولة ليبيا بحدودها التي نراها اليوم، وحتى وراء اختيار اسمها الذي لا يزال يتردد على ألسنة مواطنيها، على الأقل منذ قيام المملكة المتحدة قبل 72 عاما، عندما تأسست الدولة رسميا بقرار من الأمم المتحدة.
هذه القصة الوافدة من حقائق، تثبت أن الوضع في ليبيا قد يكون مرشحا في أي وقت لإعادة تقسيم البلاد من جديد، سواء برغبة الزعماء السياسيين والعسكريين الممسكين بمقاليد السلطة حاليا، والذين يتعاملون معها بمنطق الغنيمة، أو بقرار من القوى الدولية النافذة التي تلفّ بدورها حول الغنيمة، وتحاول بكل قواها الاستفادة من موقعها الإستراتيجي المهم ومن ثرواتها ومقدراتها الواسعة تحت الأرض وفوقها وفي البحر الممتد على ساحل طوله 1770 كلم.
لن تأتي الولايات المتحدة لتوزيع هدايا عيد الميلاد على الليبيين، وإنما سيكون هدفها الأساس هو قطع الطريق أمام الروس الذين يعرف عنهم أنهم شديدو التمسك بمناطق نفوذهم، ويرفضون التنازل عن مصالحهم، والأهم من ذلك أن يعودوا إلى المنطقة بمشروع واسع النطاق في إطار سعيهم لفرض عالم متعدد الأقطاب بعد أن انفردت به الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991.