بنجاح الضغوط الأميركية على عبدالله باتيلي ودفعه إلى الاستقالة من رئاسة البعثة الأممية في ليبيا، وتنصيب واشنطن مواطنتها ستيفاني خوري، سجل أنطونيو غوتيريش هدفا بالمرمى الروسي الصيني، مباغتا أعضاء مجلس الأمن الدولي الذين لم يجدوا فرصة لاستعراض أسماء مرشحين لخلافة باتيلي.
تُضاف إلى ذلك عودة الهيمنة الأميركية المنفردة على البعثة، عبر إعادة استنساخ ذات اللعبة التي سبق لواشنطن أن لعبتها على الليبيين والمجتمع الدولي، بتنصيب ستيفاني ويليامز لمرتين متتاليتين.
نضيف إلى هذه التطورات تلميح موسكو فور تعيين غوتيريش للسيدة خوري بنظام التنصيب الانتهازي، إلى أنها لن تنظر إلى البعثة تحت قيادة خوري إلا باعتبارها قسما من أقسام السفارة الأميركية بطرابلس.
أيضا، نجاح موسكو بتنفيذ عملية مافيوزية كبيرة في ليبيا مكنتها من الحصول على أكثر من 200 مليون دولار هي ديون شركة فاغنر على قوات الرجمة، وتوجيه بوتين لهذه الأموال لتطوير قدرات قوته العسكرية في ليبيا وأفريقيا، التي أطلق عليها اسم الفيلق الروسي الذي يعده ليكون ندا منافسا لجيش أفريكوم الأميركي بالقارة.
ندرك خطورة الرد الأميركي على هذه العملية الروسية بتوجيه ضربتين قاسيتين مباشرتين إلى الليبيين، أهمهما إعلان الحرب الفورية على ورقة الخمسين دينار واتخاذ واشنطن إجراءات قادها سفيرها في طرابلس ريتشارد نورلاند، انتهت إلى تحقير قيمة الدينار الليبي، الذي تعتبره واشنطن إجراء وقائيا عاجلا لمنع موسكو من تحقيق أي مكاسب مالية جديدة.
كما أن واشنطن لم تطح بالدولة الليبية عام 2011 إلا لأجل العودة للاستيلاء على ثروات الليبيين وعلى قاعدة معيتيقة الإستراتيجية وتابعتها قاعدة الوطية.
تجلت مظاهر هذا الاستيلاء المبكر بتشييد البنتاغون منشآت عسكرية داخل قاعدة معيتيقة ومن بينها سور خرساني أحاط بالقاعدة وخرب حياة السكان المحيطين به، إلى جانب إكمال واشنطن لهذه الأطماع بانتهازها فرصة حرب الرجمة على الجماعات المسلحة بطرابلس، والتي خطط لها ودفع الرجمة إليها بالأصل دونالد ترامب وجون بولتون، بتفويض من وكيلهما التركي بالسيطرة على قاعدة الوطية منذ وقت مبكر من انتهاء حرب 2019.
وبتأثير من الضربة الدينارية الروسية التي كان من الواضح أنها أفقدت واشنطن صوابها، قررت هذه الأخيرة التخلي عن نهجها البطيء بالسيطرة على ليبيا واستبداله بنهج الزحف العسكري المتعجل، وذلك بتكليف البنتاغون لشركة “أمنتيوم” الأميركية الخاصة باجتياح كل المنشآت العسكرية الإستراتيجية غرب البلاد.
أولى عواقب الاجتياح إجبار حكومة الدبيبة على إغلاق معبر رأس اجدير، رغم ما يمثله هذا المعبر من شريان إستراتيجي حيوي لمصلحة قاعدة عريضة من الليبيين. بيد أن الطغيان الأميركي لا يملك كرم الالتفات إلى مثل هذه المصلحة أمام مصلحة ضمان سلامة مرتزقته، وقواته المطرودة من النيجر وتشاد التي تتوقع “النيويورك تايمز” زيادة أعدادهم بسبب المطرودين من دول أفريقية أخرى، والذين لا نعلم بعد ما إذا كانت واشنطن قد “ورّطت” بهم التراب الليبي فعلا، أم أنها ماتزال تنتظر انتهاء ترتيبات مرتزقة “أمنتيوم” اللوجيستية، وبينها تأمين رأس اجدير والحدود الغربية للبلاد.
جاءت أولى أخبار تعجيل واشنطن غزو البلاد بذيوع أخبار توجيه عبدالحميد الدبيبة أوامره للجماعات المسلحة الليبية المتمركزة بقاعدة معيتيقة وميناء طرابلس لمغادرتها فورا، كما صدرت أوامر موازية للتعجيل بإتمام الأعمال بمطار طرابلس لانتقال الحركة الجوية المدنية إليه بأسرع وقت. وإذا ما أضفنا إلى كل هذا وجود قوات للوكيل التركي بالمنافذ البحرية بمصراتة والخمس وسيطرة قوات أميركية سرية متحركة على قاعدة سيدي بلال البحرية، لم يبق أمام واشنطن لحماية قواتها التي نشرتها بغرب البلاد، إلا تحقيق السيطرة المحكمة وإن كانت غير مباشرة على معبر رأس اجدير.
بالانتهاء من تعداد كل هذه التداعيات بالغة الخطورة على ليبيا، نكون قد وقفنا على رأس حزمة مثالية من الوقائع، والتي جعلت ليبيا خالية عمليا من كل شيء له علاقة بأزمتها، إلا من ميغ بوتين وفانتوم بايدن، وتوريط الليبيين في واحد من ثلاثة مصائر مروعة، هي: إشغالهم بمواجهة روسية مباشرة على التراب الليبي، قد تكون امتدادا لأي تطور للمناورات التي يخطط الناتو لإجرائها على الحدود الروسية، والتي رد عليها بوتين فورا بتوجيه قادته العسكريين بإجراء مناورات نووية.
وثاني المصائر اتجاه المواجهة الأميركية – الروسية في ليبيا نحو نمط حروب الوكالة المتوحشة خاصة مع وجود راعية مهمة لهذا النوع من التوحش وهي ستيفاني خوري. بيد أن الخطورة الأشد لحروب الوكالة الليبية أنها لن تكون هذه المرة حروب وكالة تتواجه فيها الميليشيات الليبية وحدها، بل ستكون حروبا يختلط فيها بارود ودماء الميليشيات المحلية مع بارود ودماء أجناس من ألوان شتى من عصابات المرتزقة. وضمن ذات السياق والنوايا أمرت واشنطن حكومة الدبيبة بالانطلاق في حصر المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا وتأسيس قواعد بيانات دقيقة لهم، فقد سبق لواشنطن وأن استخدمت مهاجرين غير شرعيين في حربها ضد العراق مقابل منح من بقي حيا منهم الجنسية الأميركية ومنحها لأسر من قضى نحبه منهم.
وأما الاحتمال الثالث فهو إبقاء ليبيا في حالة “اللاحرب واللاسلم” وتمترس موسكو وواشنطن بطرفي البلاد.
إذا حاولنا تحليل الوضع الأمني بالبلاد المرتبط بالشبهات المليشياوية الملتصقة بكل كيان من الكيانات المسلحة، سواء الموجودة برأس اجدير أو المتحلقة حول الدبيبة أو عقيلة صالح، لا بد أن يعود بنا التحليل إلى جوهر أزمة السيادة الأمنية، التي تشكل أم الأزمات جميعا، بيد أن المحنة الأمنية البنيوية التي تعصف بالبلاد لا تخص قطعا القوة التي تدير رأس اجدير، أو غيرها من الكيانات المسلحة المتنافسة، بل تمس كل كيان من هذه الكيانات، بما فيها قوات الدبيبة، سواء التي هاجمت المعبر وانتهت إلى إغلاقه، أو التي تقوم على حمايته بالعاصمة.
السبب الرئيس لحالة فوضى السلاح وفوضى الهيكلية الأمنية الضاربة بالبلاد، يعود حصرا إلى تورط كلٍّ من واشنطن ولندن عام 2011 بتفكيك الجيش والشرطة، ومنع قادة الدولة الذين توالوا على حكمها منذ ذلك التاريخ من أي دور، وبنظام التهديد المباشر، وهو ما سمعته من اثنين منهم، من مغبة محاولتهم دعوة مؤسسات الأمن القومي من الجيش وحتى الحرس البلدي، إلى إعادتها من جديد لصورتها الهيكلية الأصلية التي كانت عليها، وذلك خلافا لما حدث في تونس ومصر.
وكنتيجة طبيعية لإضعاف واشنطن ولندن للدولة الرسمية في ليبيا كان من الطبيعي أن تقوم العلاقات بين قادة الكيانات المسلحة لا على التعاون والتكامل بل على التنافس والصراع، وأن تلجأ الحكومات وقادة القطاعات إلى التنافس من أجل التقرب من قادة الكيانات المسلحة، وأن يوزع هؤلاء القادة ولاءهم بين الدولة التي ينفذون لأجلها مقاولاتهم الأمنية، وبين حواضنهم الجهوية والقبلية والأيدلوجية، تحسبا للحظة انقلاب الدولة الرسمية عليهم.
ويعد هذا الواقع واحدا من أهم القرائن، التي تفيد أن الدبيبة ما قام بحملته على رأس اجدير إلا طاعة لأوامر أميركية مباشرة. وما زاد من تأكيد هذا هو ربط الدبيبة الهلامي إعادة فتح المعبر بمعرض رده المرتبك على سؤال حول متى سيكون هذا؟ بأن المعبر سيفتح عند تلبيته المعايير الدولية للمعابر.
الشواهد كلها تظهر أن ما جرى برأس اجدير لم يكن إلا فضيحة تنفيذ صاغر لأوامر أميركية بإغلاقه، وهو الإغلاق الذي سيستمر على الأغلب حتى انتهاء البنتاغون من وضع نظام الإجراءات والآليات والتأهيل، ونظام الرصد والمراقبة للمعبر وكامل الحدود الغربية.
ولعل ما يزيد من قوة الاجتياح الأميركي هو اقترانه بثلاثة أنباء من مصادر لها وزنها، وهي نبأ انكباب خبراء من البنتاغون على مراجعة بروتوكول مشاركته سابقا في تأمين رأس اجدير والحدود التونسية الجزائرية، بالإضافة إلى نبأ رصد مواقع رادارات أجنبية لوصول طائرات نقل عسكرية تابعة للقوات الأميركية وللوكيل التركي إلى قاعدة الوطية. أما النبأ الثالث فهو كشف مرافقين محليين عن قيام فريق فني أميركي عسكري بمعاينة وتقييم سلامة جانب واسع من الحدود الليبية الغربية.
وصلنا هنا إلى السؤال الجوهري، وهو ما طبيعة الأخطار التي يشكلها رأس اجدير والحدود الغربية على مرتزقة واشنطن ولماذا أضحت السيطرة على المعبر والحدود الغربية للبلاد، احتياجا حيويا لواشنطن؟
منذ عام 2017 تضاعفت الأخطار المرتبطة بالحركات الإسلامية المسلحة بإقليم الساحل والصحراء وخاصة بشمال مالي وبوركينا فاسو وغرب النيجر، ما جعل المنطقة الغنية باليورانيوم، والتي يتوقع أن تكون مسرحا لعبور خطوط إستراتيجية لنقل الطاقة إلى شمال القارة، قد تحولت إلى واحدة من أخطر بؤر التوتر في العالم، إلى جانب تحول الإقليم برمته إلى نقطة ساخنة جدا بالصراع والتنافس بين القوى الدولية الباحثة لنفسها عن موطئ قدم يقود إلى تمددها نحو القارة الأفريقية الواعدة.
الأمر المهم الذي بقي علينا إضافته هو أن هذه الجماعات تطمح لإراقة الدماء الأميركية، مع حقيقة أن أقرب خط لوصول هذه الجماعات إلى غرب ليبيا هو حدودها الغربية، سواء الولوج عبر معبر رأس اجدير، أو تسللا من النقاط الحدودية القريبة.
وما يزيد من الرعب الأميركي هو اتهام روسيا واشنطن برعاية الهجوم الإرهابي الذي وقع ضد مرتادي قاعة حفلات كركوس سيتي بموسكو، وراح ضحيته 144 قتيلا، حيث أن روسيا لا بد أنها أخذت على محمل الجد طبيعة العلاقة الحميمة مع التطرف التي بدأتها واشنطن بخلق تنظيم القاعدة بنية ضرب الوجود السوفييتي بأفغانستان، إلى جانب معرفة المخابرات الروسية بتفاصيل تهيئة الأميركيين للظروف المناسبة – وربما تكون قد فعلت ما هو أكثر – لتهيئة البيئات الملائمة لظهور واستقواء تنظيم داعش بسوريا والعراق قبل انتشارهما بليبيا قرين تنظيم أنصار الشريعة، كنتيجة مباشرة لإضعاف واشنطن وإسقاطها المتعمد بمعية حلفائها لأنظمة هذه الدول.
أشد ما تخشاه واشنطن اليوم هو احتمال فتح النسخة الحالية من الحرب الباردة لصفحة سوداء بين الطرفين تكتب فيها مخططات اللجوء إلى استخدام الجماعات المتطرفة بالانتقام وتصفية الحسابات. وعليه فإن جانبا من إجراءات واشنطن على حدود غرب ليبيا، إنما يعود إلى رعبها من احتمال تركيز موسكو على مساعدة جماعات متطرفة للوصول إلى قواتها غرب البلاد. بل ويبدو أن قرب إقليم الساحل والصحراء من ليبيا وحدودها الغربية، وشدة عناد جماعاته المتطرفة تجاه ملاحقة الأميركيين، قد تحولا إلى كابوس أميركي وصل حد تورطها بارتكاب جريمة كبيرة بحجم إغلاق معبر رأس اجدير أمام الملايين.
ولا بد أن يزيد من قلق وانشغال واشنطن حيال انتشار قواتها بغرب ليبيا، حقيقة تطور واحدة من أخطر عواقب تأجيج الأميركيين للصراعات بإقليمي دول المغرب والساحل والصحراء، وخاصة إسقاطها للدولة الليبية برمتها، وهي انفتاح الأبواب على مصراعيها أمام توسع علاقات عصابات الجريمة المنظمة بحسب تقرير بحثي لمجلة فورين بوليسي مع حركات الجماعات الإسلامية المسلحة.
والأخطر بحسب ذلك التقرير هو قدرة واستعداد بارونات الجريمة المنظمة على تنفيذ بنى تحتية عسكرية سرية لحساب هذه الجماعات.
وأمام كل هذا، كان من الطبيعي أن يكون رأس اجدير والآلاف من المرضي الليبيين ضحايا واشنطن طالما أن حكومتهم تقول لهم بأن معاناتهم هي لأجل السيادة الليبية التي تستحق التضحية لأجلها، وليس لأجل عيون وسلامة جند واشنطن.