أتعجب من تعجب بعض السياسيين والمحللين الفرنسيين في فوز حزب “التجمع الوطني” سليل حزب “الجبهة الوطنية” لجان ماري لوبان في الانتخابات الأوروبية الأخيرة وتماديهم في وصم هذا الحزب الذي بات المعارض الأول في فرنسا بالحزب اليميني المتطرف! من أجل تغليط الرأي العام الفرنسي وتجاهلوا التغيير الكبير الذي وقع في أيديولوجية الحزب بعد ما افتكته مارين لوبان من والدها إلى درجة أصبح القوة الثانية في البرلمان الفرنسي.
بحله للبرلمان الفرنسي ربما يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد ارتكب خطيئة حياته السياسية. يعتقد ككثير من الذين لا يريدون الاعتراف بالواقع السياسي الجديد اعتبار تصويت الفرنسيين لصالح “التجمع الوطني” مجرد تصويت احتجاجي غاضب. ولكن على عكس ما يقول الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك، فما يسمى بــ“الأحزاب اليمينية المتطرفة” ليست “بنوك غضب” بل في رأيي هي “بنوك هوية” إذ يتم التصويت لصالحها من طرف فئات شعبية مختلفة بناء على اقتناع ووعي بالأخطار الثقافية التي تهدد مجتمعها وليس مجرد تعبير احتجاجي عابر.
ينبغي البحث عن أسباب هذا التوجه الانتخابي في المشاكل التي تخلقها الجاليات المسلمة في أوروبا بتحريض مستتر من جمعيات الإخوان المسلمين المتكاثرة في كل المدن الأوروبية الكبرى، فضلا عن تلك الصورة الكئيبة التي يقدمها المسلمون أنفسهم في أغلب بلدانهم. كيف يتصرف الفرنسي حينما يلتقي خيما متحركة ويجد نفسه مضطرا إلى تهدئة روع أبنائه الصغار من هول ما يرون وليشرح لهم أن هذا الشيء المتحرك ليس زورو أو دراكولا وإنما هو لباس آت من بلاد المسلمين يسمى “البوركة”، تختفي تحته امرأة مسلمة كي لا تغري الرجال!
كيف لا يخاف الفرنسي حينما يرى الطرق تغلق في وجهه في مدنه لتقام فيها مظاهرات مؤيدة لحركة حماس ومعادية للسامية؟ كيف لا يشك هذا المواطن الفرنسي في نية أناس لا يريدون التزاوج معه ولا أكل ما يأكل ولا حتى أن يدفنوا معه؟ كيف لا يتذمر من أناس لا يترددون في القول علنا إنهم هم الذين يملكون الدين الصحيح وبقية الإنسانية كلها على ضلال كأنها ما كان لها ينبغي أن تكون إطلاقا؟ فهل الوعي بالخطر خوف مرضي، إسلاموفوبيا كما يدعي البعض، أم هو خوف واع ومشروع سرعان ما يتحول إلى اختيار سياسي في صناديق الاقتراع؟
بعيدا عن الكسل التحليلي الواضح والفهم الاقتصادي للظاهرة لدى الأغلبية الإعلامية والسياسية ألا يجدر القول بأن هناك استفاقة للفرنسيين والغربيين عموما لما يتربص بهم من خطر أصولي حقيقي. وقد تفطن الساسة لصعود هذا الوعي الشعبي ومن أجل المحافظة على مقاليد الحكم يناورون بأساليب ذكية وخبيثة عبر اتهامات جاهزة أولها العنصرية وشيطنة الوطنيين المتشبثين بالهوية الفرنسية والعلمانية. بمباركة الأصوليين وعرابيهم الممولين فرضت النخب السياسية والثقافية الأوروبية، عن طريق آلتها الإعلامية المهولة تحت عنوان “الإسلاموفوبيا”، جوا موبوءا، جو ريبة واشتباه وأصبح كل من ينتقد سلوكيات المسلمين والأجانب عموما مهما كانت طائشة ومنافية للقوانين وأعراف البلد، معاديا للإسلام وعنصريا. وهكذا تجنب الناس التعبير عن آرائهم في دين الأجانب وسلوكياتهم خوفا من “تهمة العنصرية” المعلقة فوق رؤوسهم كسيف ديموقليدس. وها هم اليوم يعبرون عن تلك الآراء عبر صناديق الاقتراع بالتصويت على كل من يقول بأنه من خارج هذا النظام الذي حرمهم التعبير في الفضاء العام و أغرق بلدهم باللاجئين.
لقد تناسى بعض المثقفين اليساريين وبعض السياسيين المرتشين الحائرين اليوم أنهم هم الذين دفعوا الناس إلى الكبت مدة طويلة بدل أن يفتحوا لهم المجال لمناقشة الإسلام والثقافات الوافدة بحرية كما تناقش كل الأمور الأخرى في فرنسا. في انتخابات 09 يونيو الماضي جنا ماكرون واليسار واليمين في صناديق الاقتراع ما زرعوه. ويوم 30 يونيو و7 يوليو، في الانتخابات التشريعية سوف يمنى الجميع بهزيمة نكراء ولن ينفع لا تكوين جبهة شعبية ولا تكتل جمهوري ضد حزب التجمع الوطني كما يحلم ماكرون والأحزاب اليسارية المتحالفة مع الإخوان المسلمين. ولن تنفع شعارات معاداة العنصرية ومناهضة الفاشية لأن الفرنسيين في غالبيتهم لم تعد تنطلي عليهم تلك الأكاذيب فهم يدركون جيدا بأن حزب “التجمع الوطني” ليس حزبا فاشيا ولا معاديا للجمهورية والديمقراطية كما تبين وثائقه الأساسية وبرامجه السياسية وخطاباته. هو حزب موجود داخل اللعبة الديمقراطية ولم تظهر منه أية علامة تدل على أنه يريد الوصول إلى الحكم عن طريق العنف. فإن كان حزبا فاشيا، فلماذا لا يمنع؟ وإن كان كذلك فكيف يستقبل رئيسه جوردان بارديلا في الإليزيه للتشاور مع رئيس الجمهورية ماكرون ذاته؟ وكيف تستقبل مارين لوبان من قبل رؤساء دول وحكومات إن كانت فاشية؟
عندما صعد ماكرون إلى الحكم سنة 2017 عن طريق تكتل حزبي ضد مارين لوبان في الدور الثاني، كان مشروعه القضاء على حزب التجمع الوطني. تمر 7 سنوات كاملة، ازداد فيها الحزب قوة وانتشارا وكاد ينتزع منه العهدة الرئاسية الثانية وحرمه من حيازة الأغلبية المطلقة في البرلمان الأخير وهو ما لم يهضمه ماكرون والخوف كل الخوف لديه هو مغادرة الحياة السياسية وترك فرنسا بين يدي هذا الحزب.
وجد في حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية فرصة أخيرة قد تمكنه من إضعاف الحزب قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2027 معتمدا على احتمالين أولا: تشكيل جبهة مناهضة لحزب “التجمع الوطني” تحت يافطة الدفاع عن الجمهورية والديمقراطية تتحالف فيها أحزاب يمين ويسار لا تحمل ودا للحزب المنافس وهكذا يبقى في المعارضة كما كان دائما. ثانيا: فوز حزب التجمع الوطني بأغلبية مطلقة ويشكل رئيسه جوردان بارديلا الحكومة وتبدأ القلاقل والمظاهرات في الشوارع وفي انتظار 2027 يبقى الرئيس ماكرون يعد أخطاء حكومة التجمع الوطني ليقنع الفرنسيين بأن هذا الحزب عاجز عن إدارة شؤون الدولة على أمل وضع مرشحته المفترضة للانتخابات الرئاسية القادمة، مارين لوبان، موضع شك. ولكن قد يقول الحزب للناخبين أيضا إن الرئيس عرقل عمل الحكومة وعليهم أن يمنحوا الحزب فرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية لإتمام الإصلاحات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية وعلى وجه الخصوص الدفاع عن هوية فرنسا أمام “غزو المهاجرين”.
في السابع من يوليو القادم، دور التشريعيات الثاني، قد تتحقق مقولة الفرنسي الشهير فيكتور هوغو: “لا توجد قوة على الأرض قادرة على أن توقف فكرة حان أوانها”.