images 6 3

لنعمل على حصار دولة الاحتلال

خلال أسبوع كان هنالك إعلانان غير مسبوقين منذ السابع من أكتوبر:

الأول، إعلان مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن مطالبته لقضاة المحكمة النظر في توجيه تهمة ارتكاب جرائم حرب لرئيس وزراء دولة الاحتلال، نتنياهو، ووزير دفاعه، غالانت.

والثاني هو الإعلان الثلاثي للنرويج وإسبانيا وإيرلندا اعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة، لتنضم هذه الدول بذلك إلى دول أوروبية أخرى كانت قد اعترفت بالدولة الفلسطينية وهي: بلغاريا، وبولندا، والتشيك، ورومانيا، وسلوفاكيا، والمجر، وقبرص (اعترفت بدولة فلسطين العام ١٩٨٨ قبل انضمامها للاتحاد الأوروبي)، والسويد (العام ٢٠١٤). الآن هنالك ١٢ دولة أوروبية من أصل ٢٧ دولة في الاتحاد الأوروبي معترفة بدولة فلسطين.

هذه إنجازات سياسية مهمة للشعب الفلسطيني ما كان لها أن تحدث لولا الصمود الأسطوري لهذا الشعب ومقاومته الباسلة في غزة والضفة في مواجهة حرب الإبادة، وهي انتصار لحركة التضامن العالمية معه.

لأول مرة منذ النكبة الفلسطينية في العام ١٩٤٨ يتم الإعلان عن أهم قادة دولة الاحتلال مجرمي حرب، ستتم إذا ما صدرت مذكرات اعتقال بحقهم، مطاردتهم في ١٢٣ دولة وهي عدد الدول الموقعة على نظام روما الأساسي الذي انشأ المحكمة العام ١٩٩٨.

وتشتمل صلاحيات المحكمة على أخطر الجرائم التي تمس المجتمع الدولي بأكمله وهي جرائم الإبادة، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان.

ورغم أن قرار المحكمة فيه ظلم للفلسطينيين لتضمينه إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» كون الرجل لم يكن له علاقة مباشرة في أحداث السابع من أكتوبر وليس له علاقة بالجناح العسكري للقسام، إلا أنه يُمكن تخيل حجم الضغوط التي مورست على كريم خان لمنعه من المطالبة بإصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وبالتالي محاولته ادعاء «التوازن» بتضمينه اسم هنية، وهو الوحيد الذي لديه قدرة على السفر، بينما السنوار والضيف لا يغادران القطاع أصلاً.

قد يقول البعض إن تضمين السنوار والضيف في القرار فيه أيضاً تجريم لما حدث يوم السابع من أكتوبر، لكن هذا نقاش آخر، والعالم كله يدرك اليوم أن الصراع مع دولة الاحتلال لم يبدأ في ذلك اليوم.

ما هو مهم فعلياً، أن مطالبة كريم خان للقضاة البحث في إصدار مذكرات الاعتقال بحق قادة دولة الاحتلال كان بمثابة المسمار الأخير الذي تم دقه لإسقاط الحصن المنيع الذي بنته هذه الدولة بالتعاون مع حلفائها الغربيين لمنع انتقادها أو التعامل معها على أنها دولة مارقة تعمل خارج القانون الدولي.

اليوم، لا تستطيع إسرائيل منع صحيفة أو مؤسسة أو حركة تضامن مع الشعب الفلسطيني من انتقادها وإخضاع ممارساتها للفحص، ولم يعد يمكنها التستر وراء معاداة السامية في مواجهة منتقديها.

اليوم أصبحت إمكانية مقاطعة دول العالم لها ومعاقبتها مثلما حصل مع دولة جنوب إفريقيا العنصرية في ثمانينيات القرن الماضي مسألة واقعية وقابلة للتحقيق.
وبالمثل فتح الاعتراف الثلاثي، الإسباني – الإيرلندي- النرويجي الطريق واسعاً أمام اعتراف دول أوروبية أخرى بالدولة الفلسطينية.

هنالك بلجيكا ومالطا وسلوفينيا جميعها عبرت عن رغبتها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإذا ما اعترفت هذه الدول بفلسطين، فإنه سيصعب على فرنسا وبريطانيا وإيطاليا مقاومة هذا التوجه والامتناع عن اللحاق بها.

أهمية الاعتراف تكمن في أن هذه الدول تعتبر الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة أراضي فلسطينية، وبالتالي فهي تقر بأن حدود الدولة هي تلك الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل العام ١٩٦٧، وهو ما يعني أن كل متر مربع من الأرض الفلسطينية صادرته إسرائيل هو باطل، وأن الدول المعترفة بدولة فلسطين ستساند حقها في استعادة أراضيها كامله غير منقوصة.

من جهة أخرى، قادة إسرائيل أصبحوا أو أوشكوا أن يصبحوا، في نظر القانون الدولي، مجرمي حرب.

وهنالك خطر فرض عقوبات على إسرائيل ناتج عن احتمال اتهام محكمة العدل الدولية لها بارتكاب جريمة الإبادة، وناتج أيضاً عن اتساع عدد الدول المعترفة بفلسطين ورغبتها في إنهاء الصراع الذي شغل العالم منذ السابع من أكتوبر.

لهذا لا غرابة في أن ردود قادة دولة الاحتلال هستيرية: استدعاء السفراء من الدول التي قررت الاعتراف بفلسطين، حرمان السلطة من أموال الشعب الفلسطيني (ما تُسمى المقاصة)، وإلغاء قانون فك الارتباط مع شمال مدن الضفة، بمعنى تكثيف وتوسيع الاستيطان.

ولا غرابة أيضاً في أن يهاجموا المحكمة باستدعاء ما يجيدونه أكثر وهو اتهام الآخرين بالعداء للسامية، وأن يناصرهم في الوقت ذاته حلفاؤهم العنصريون في الكونغرس الأميركي: هذه محكمة تم إنشاؤها لمحاكمة قادة دول إفريقيا وليس قادة إسرائيل، هذا ما قاله عضو كونغرس لكريم خان في حملتهم للضغط عليه لمنعه من المطالبة بإصدار مذكرات الاعتقال لقادة إسرائيل.

دعونا نحصِ على عجل ما خسرته إسرائيل منذ معركة طوفان الأقصى حتى ندرك أن هذا الاحتلال قد اقترب من نهايته، وأن هذه المعركة ستقودنا إلى الدولة الفلسطينية إذا انخرطت فيها القيادة الفلسطينية بالشكل الصحيح.

بمعنى، إن تخلت عن السراب الأميركي الذي يتحدث عن مسار للدولة شبيه بمسار أوسلو، وإن قامت بتوحيد الشعب الفلسطيني على أرضية مقاومة الاحتلال، وإن أعلنت رفضها لأي حلول لغزة والضفة تأتي من خارج إجماع الكل الفلسطيني.
لقد خسرت إسرائيل قوة ردعها وخسرتها بلا رجعة، وقتل الأطفال والنساء والمدنيين من الرجال لن يعيد لها ردعاً.

ويكفي أن نلاحظ أنها وبعد ثمانية أشهر تقريباً من حرب إبادتها على شعبنا، عاجزة أمام المقاومة الفلسطينية عن ادعاء أي انتصار. وهي عاجزة عن تحييد إسناد المقاومة اللبنانية لفلسطين.

لقد أثبت السابع من أكتوبر أن إسرائيل عبء أمني على حلفائها، وأنها ليست إضافة أمنية نوعية لهم.

لقد احتاجت إسرائيل إلى أميركا وبريطانيا وفرنسا لمواجهة هجمة إيرانية بصواريخ وطائرات مسيرة من جيل قديم، ومع ذلك لم تتمكن من حماية نفسها رغم مشاركة عدة دول في حمايتها.

إن ابتزاز أميركا لبعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، لا يعني أن هذه الدول لا تدرك حقيقة أن إسرائيل هي عبء أمني عليها قبل غيرها.

لقد خسرت إسرائيل معركة كسب الرأي العام الدولي، وغالبية شعوب العالم تنظر إليها اليوم على أنها دولة مجرمة تتصرف خارج القانون الدولي.

وهذا يمكن ملاحظته في حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وفي حركة المقاطعة التي تحقق إنجازات غير مسبوقة في الدول الإسلامية تحديداً، وفي الضغوط التي تتعرض لها الحكومات الغربية من شعوبها للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني.

تكابر إسرائيل اليوم في مواجهة هذه الحقائق، وتزداد معها تطرفاً، لكن ذلك لن يستمر طويلاً.

أمام عجزها في حسم المعركة في غزة وفي شمال فلسطين التاريخية، وأمام عجزها في منع التحول العالمي ضدها، لن تجد دولة الاحتلال في النهاية خياراً غير الرضوخ لخيار إنهاء الاحتلال.

لكن حتى يكون ذلك ممكناً، لا يمكن الإبقاء على الانقسام الفلسطيني ولا يمكن الاستمرار في رفض خيار المقاومة أو تجريمه، ولا يمكن الاستمرار في مطالبة المقاومة بقبول اتفاقيات ثبت عُقمها وضررها للشعب الفلسطيني.

على الجميع أن يدرك، أنه وعندما نقترب من لحظة الحقيقة، لحظة نهاية الاحتلال، لن تتفاوض إسرائيل إلا مع جهة تمثل فعلاً الشعب الفلسطيني، جهة قادرة على الالتزام بوقف إطلاق النار وقادرة بتضحياتها على كسب الشعب الفلسطيني، تماماً مثلما فعلت منظمة التحرير عندما بدأت معركة التحرير في نهاية ستينيات القرن الماضي.

اترك تعليقا