لمَ انفرد «ماكرون» بمغازلة إيران؟
ما أصدرته الرئاسة الفرنسية هو ما ينتظره المتابع، إذ إن فرنسا منذ 7 تشرين الأول تضع نفسها في معسكر إسرائيل، إذ رغم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ولم تزل في الشرق الأوسط، لم تصدر باريس إدانة على الجرائم. لكنّ ما هو مفاجئ ويجب التوقف عنده هو ما قاله السيد ماكرون
أصدرت الرئاسة الفرنسية، مساء السبت 5 تشرين الأول/أكتوبر، بياناً يناقض تصريحات أدلى بها الرئيس إيمانويل ماكرون في وقت سابق أغضبت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
أوضح البيان أن فرنسا ستستمر في إرسال القطع المستخدمة من أجل نظام الدفاع الذي تسمّيه إسرائيل القبة الحديدية على وجه الخصوص.
ما أصدرته الرئاسة الفرنسية هو ما ينتظره المتابع، إذ إن فرنسا منذ 7 تشرين الأول تضع نفسها في معسكر إسرائيل، إذ رغم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ولم تزل في الشرق الأوسط، لم تصدر باريس إدانة على الجرائم. لكنّ ما هو مفاجئ ويجب التوقف عنده هو ما قاله السيد ماكرون، فهل هناك زلة لسان ماكرونية على طريقة الرئيس الأميركي جو بايدن؟ أم فعلاً ماكرون كان يعني ماذا يقول؟
اقرأ أيضًا.. بريطانيا تشهد أكبر زيادة سكانية بسبب المهاجرين
وكان الرئيس الفرنسي قد دعا في وقت سابق إلى الكفّ عن تسليم الأسلحة لإسرائيل للقتال في غزة، معتبراً أن الأولوية للحل السياسي بدل الاستمرار في الحرب. وقال ماكرون في تصريحات لإذاعة فرانس أنتر “أعتقد أن الأولوية اليوم هي العودة إلى حل سياسي، والكف عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة”.
واضح ماكرون في ما قاله والواضح أكثر أنه لم يكن زلة لسان، ولا هو سقطة كلامية، بل هو نتيجة لسياساته التقاربية التي انتهجها مع إيران و”حزب الله”.
بغضّ النظر إن كانت نوايا ماكرون صادقة تجاه لبنان وغزة في مطالبته بوقف النار، ووقف المساعدات العسكرية إلى الجيش الإسرائيلي، إلا أنّ الأكيد أن الماكرونية متّنت العلاقة الفرنسية مع إيران و”حزب الله” في لبنان من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي في لبنان وصولاً إلى العراق.
حضر ماكرون إلى لبنان في 6 آب 2020، أي بعد يومين من تفجير مرفأ بيروت الذي أطلق عليه اسم “بيتروشيما” تشبيهاً بمأساة المدينة اليابانية هيروشيما التي ضربها بقنبلة نووية إبان الحرب العالمية الثانية الجيش الأميركي. لم يأبه السيد ماكرون كثيراً للأسباب التي أدّت إلى تفجير العصر حيث قُتل في دقائق 250 وأصيب أكثر من 6000 آخرين، عدا عن الدمار الهائل الذي خلّفه الانفجار. بل جلّ ما فعله ماكرون، هو القفز فوق الوجع اللبناني ليفتش عن الاستثمارات والمصالح الفرنسية، لهذا تقدّم خطوة إلى الأمام وفتح صفحة جديدة مع “حزب الله” في لبنان، ومن خلفه مع إيران في المنطقة.
ماكرون كغيره من الرؤساء الفرنسيين الذين يصلون إلى قصر الإليزيه، ولديه طموح بعودة النفوذ الفرنسي إلى سابق عهده. ليس بالضرورة إلى مرحلة الانتداب بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل إلى تسجيل حضور ديبلوماسي واقتصادي في المنطقة، ولا سيما بعدما أكدت هيئة المسح الجيولوجية الأميركية منذ عام 2010، وجود كميات كبيرة من النفط والغاز على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
لم يكن متوقعاً أن يحضر وفد عن “حزب الله” إلى قصر الصنوبر حيث السفارة الفرنسية في بيروت، التي عقد فيها ماكرون على طاولة مستديرة اجتماعاً ضمّ أقطاب السياسية كافة. هذا الاجتماع هدف فيه ماكرون لوضع خريطة طريق جديدة للبنان، ولكنه يحمل هدفاً مباشراً للتقارب مع الحزب لضمان نجاح توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كي يتسنى للشركة الفرنسية “توتال” التنقيب واستخراج النفط من بعض الحقول النفطية في لبنان، لا سيما البلوك رقم 9 في منطقة الجنوب.
سهّل التقارب الفرنسي مع “حزب الله”، فوز الشركة الفرنسية CMA-AGM في المنافسة لإعادة تأهيل مرفأ بيروت، التي مقرّها الرئيس في مارسيليا الفرنسية، إذ أعلن وزير الأشغال والنقل اللبناني علي حمية أن لبنان منح الشركة الفرنسية إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت لمدة عشر سنوات.
من لبنان إلى العراق يستثمر ماكرون اقتصادياً في سياسة التقارب، إذ أعلنت وزارة النفط والطاقة العراقية عام 2022 عن توقيع اتفاق مع شركة توتال الفرنسية لاستثمار 27 مليار دولار في 4 مشاريع عملاقة بقطاع الطاقة. استطاع ماكرون إنهاء ولايته الأولى بمزيد من الاتفاقيات الاستثمارية للشركات الفرنسية، عبر ربط النزاع في منطقة الشرق الأوسط مع إيران و”حزب الله”. لهذا كان التقارب الفرنسي مع “حزب الله” نتيجة طبيعية للانفتاح الفرنسي على إيران، رغم الاصطفاف الإيراني إلى جانب روسيا في حربها مع الغرب. لكنّ التقارير تؤكد أن السيد ماكرون يستطيع الفصل بين مصالح فرنسا العليا وشركاتها، وبين التحولات على الساحة الدولية.
ليس بعيداً على ماكرون أن يغرد خارج السرب الغربي والأميركي تحديداً، إذ لطالما عقد العزم منذ توليه الرئاسة على فصل “حبل الوريد” بين أوروبا والمسار الأميركي، وكان السبّاق في الدعوة لتأسيس جيش أوروبي، لحماية مصالح أوروبا. فماكرون يرى أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) استطاعت واشنطن عبر فرض هيمنتها على العالم، التحكم في قراراته.
قد يكون لماكرون حسابات فرنسية في المنطقة، بعيدة عن الحسابات الأميركية والإسرائيلية، ومن باب المحافظة على جهوده خلال السنوات الماضية، وتخوفه من أن تتوسع دائرة الحرب، دعا إلى وقف النار. فهو المتخوف من تدمير لبنان وتوسيع دائرة الحرب إلى المنطقة ككلّ، هذا الأمر سيضع مصالح شركاته في مهب الضياع. كما أن ماكرون على ما يبدو قارئ جيد للتاريخ، إذ يعتبر أنها الفرصة المؤاتية لتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، فعليه بكلّ بساطة حجز مقعد لبلاده، لكن طموحه مرتبط بمجريات الميدان في المنطقة، إن كان الصراع سيتوسع ليشمل طهران أم هو ذاهب نحو تسوية.