عاب الكثيرون على النظام المصري أنه لم يتدخل بقوة في الأزمات العربية المشتعلة في ليبيا والسودان وغزة ولبنان، وقبلها في سوريا والعراق واليمن والصومال، ثم تجددت أزمة سوريا مرة أخرى بطريقة درامية، ولا أحد يعلم توابعها الإقليمية، لتشير إلى أن القاهرة كأنها كانت على علم بأن ما يحدث في المنطقة منذ سنوات لن يقف أحد في طريقه.
وإذا كانت مصر نجت بأعجوبة عندما استلمت جماعة الإخوان الحكم لمدة عام، فإنها قد لا تنجو مرة ثانية إذا انخرطت مباشرة في المشكلات المحيطة بها، وكادت تلحق أذى كبيرا بها، وعندما تضاف إليها أزمتا سد النهضة الإثيوبي وانعكاسها على حصتها من المياه، والتوترات في جنوب البحر الأحمر وتأثيرها على عائدات قناة السويس، تكون النتيجة أن هناك دائرة محكمة من الأزمات أحاطت بالدولة المصرية.
عاب الكثيرون على تراجع الدور المصري والاكتفاء بالحد الأدنى منه، وحصره في مسألتي الوساطة والتهدئة، واعتقدوا أن الدور الإقليمي التاريخي ولّى، وأن هناك قوى صاعدة احتلت أو سوف تحتل مكانها، ورغم صحة التقديرات ومرارة الانتقادات وقسوتها على الدولة، إلا أن قيادتها لم تنجرف وراء إغراء أو إلهاء أو غيرة قومية مشحونة بدوافع خفية، وثمّة من تعجّب أن القاهرة تملك كل عوامل القوة العسكرية الصلبة للتدخل في الأزمات والدفاع عن مصالحها التي تعرضت لتهديد فعلي، لكنها نأت بنفسها عن كل من حاولوا جر قدميها لأيّ من المستنقعات المتعددة.
أتذكر سؤالي لأحد الجنرالات في مصر قبل أعوام، عن سر الإحجام المفرط عن التدخل العسكري مباشرة في ليبيا وإرسال قوات كبيرة، وأن إجابته كانت حاسمة “لن نتدخل في ليبيا أو غيرها، لأننا لن نتمكن من العودة بسهولة.”
ولسان حاله قال وقتها هناك تربص بمصر، فهي الدولة المشرقية الوحيدة التي لديها جيش قوي ومؤسسة عسكرية محترفة، ولن يترك الحال طويلا على هذا الوضع، فمطلوب التحرش بها أو اختلاق أزمة أو تضخيم مشكلة كي تضطر القاهرة للتعامل معها بخشونة، ثم تتوالي عليها الضباع لتصفية حسابات معلقة منذ سقوط نظام الإخوان، حيث جرى تفويت الفرصة على أسر الدولة المصرية وإدخالها نفق الإرهاب عبر سيناء، وبعد تجفيف منابعه، كان الأمل في سحب القوات إلى خارج أراضيها.
أتذكر أيضا مشهدا دراميا في مسلسل مصري بعنوان “هجمة مرتدة” تحدث فيه أحد الفنانين وكان يقوم بدور قائد في جهاز المخابرات المصرية عمّا يحاك للمنطقة، وقال إن من ينجو من الدول حتى عام 2030 فقد نجا شعبه، والغريب أن العمل يتناول أحداثا حقيقية مرت بها مصر منذ عام 2008 وحتى 2013، ما يعني أن ما قدّم على الشاشة في شكل درامي ينطوي على قراءة عميقة للأحداث.
وقد سلّط العمل الضوء على قصة تعامل المخابرات المصرية مع الأحداث المفصلية التي مرت بها الدولة، ولامس كثيرا مما يدور وقتها في المنطقة من لعبة فك الدول وتركيبها، ورسم لوحة بانورامية ذكية للكثير من التطورات وأهدافها وأدواتها.
عندما أعيد عرض هذا المسلسل مؤخرا على إحدى القنوات المصرية، أعدت مشاهدته بعين ما يدور من أحداث في المنطقة حاليا، بعد عرضه الأول منذ حوالي أربع سنوات، ووجدته مشاهد كأنها ترصد ما يدور الآن، ما يؤكد أن الجهة التي أشرفت عليه أرادت القول إن مصر تعلم ما يحاك بالشرق الأوسط، كاشفة عن تطورات مثيرة عبر عمل درامي.
ناهيك عن عمل درامي آخر اسمه “العائدون” قدم وجبة دسمة لما يدور داخل الجماعات المتطرفة والإرهابية في المنطقة وتشابكاتها الدولية وتم اختيار ممثل سوري (أحمد الأحمد) ليؤدي دور زعيم داعش (سياف الكيلاني) وهو قريب الشبه بزعيم هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) أبومحمد الجولاني الذي عاد إلى اسمه القديم أحمد الشرع، وفي هذا العمل تمت الإشارة إلى أن عين المتطرفين لن تفارق مصر، وفي النهاية ألقى الأمن المصري القبض على زعيم داعش الذي بدا مغرورا.
لم يعرف عن كبار المسؤولين في مصر ولعهم بالحديث عن التطورات التي تجري في المنطقة علنا وبدقة، وكانوا يكتفون بالتلميحات أو التحذيرات من وقت إلى آخر، ولم تقم وسائل الإعلام بتقديم التفاصيل والخفايا، وإن فعلت لا يتم الوثوق بمعلوماتها بعد أن فقدت مصداقيتها وسلكت طريق الدعاية الجوفاء، لكن هذا لا ينفي أن هناك تحركات كانت تقوم بها أجهزة الأمن المصرية في سرية تامة للتعامل مع المستجدات من دون إعلان رسمي، بما مكّن القاهرة من الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتصحيح المسار مع دول اختلت العلاقات معها.
عاب البعض أيضا على التوجهات الخارجية المصرية أنها لم تصطدم مع الولايات المتحدة التي تتبنى سياسات لا تتوافق مع القاهرة، وتم تجاوز الكثير من الاختبارات الصعبة خلال السنوات الماضية، ولم يتم الاعتماد على روسيا بالشكل الذي يوحي أنها بديل للولايات المتحدة، وتحركت القاهرة بخطوات هادئة على حبال مشدودة بين الجانبين، تجعل الناظر إليها يراها حليفة لهما في آن واحد.
إقرأ أيضا : فوضى الشرعية في اليمن
ووسط التوتر السياسي مع واشنطن لم تقرر مصر الانحياز إلى موسكو، وهو ما جعل الأخيرة حائرة في توصيف طبيعة العلاقات مع القاهرة، فهي إستراتيجية أحيانا وهامشية في أحيان أخرى، ومن يراقب النتيجة التي وصلت إليها سوريا بعد أن وضعت كل بيضها في سلة روسيا يستنتج سريعا لماذا لم تقم مصر بذلك، وحافظت على علاقات وطيدة ومتوازنة إلى حد بعيد مع الولايات المتحدة وروسيا.
تفسّر المعطيات السابقة جانبا من أسباب نأي مصر عن الاشتباك مع بعض الأزمات الإقليمية بالحد الذي يجعلها طرفا مباشرا فيها، فقد بُحّ صوت الإسلاميين لجر مصر للتدخل في قطاع غزة، حيث نالت العمليات العسكرية التي قامت بها إسرائيل من ثوابت اتفاقية السلام التي وقعتها مع مصر، وتعاطت القاهرة مع الموقف بصبر بالغ القسوة على مواطنيها، لأن أيّ اشتباك لن يكون هينا أو قصيرا.
فقد كان رئيس الحكومة اليمينية بنيامين نتنياهو يتشوق للبحث عن ذريعة لتوسيع نطاق الحرب وتفجير المنطقة، ووجدها في إيران وأذرعها المتناثرة في دول عدة، وتكرر المشهد مرات على مدار أكثر من عام من حرب غزة، وفي كل مرة كانت القاهرة تجد الحجة أو الذريعة التي تبتعد بها، ولم يفارقها يقين بضرورة عدم دخول أزمة طالما يمكن تجنبها مبكرا، ما لم يكن هناك تهديد مباشر للأراضي المصرية، وامتصت قيادتها السياسية الكثير من الصدمات وما حملته من تكلفة مادية ومعنوية عالية.