لا تكاد تلتقي بسوري أو سورية في السنوات الأخيرة؛ إلا ويكون موضوع قلة النوم والكوابيس والأرق أحد أجزاء الحديث بينكما. بل تسمع من معظم من تلتقي بهم أنه قد لجأ إلى مساعدات طبية كي يستطيع أن ينام. وإنْ وجدتَ سورياً ينام نوماً عميقاً أو ينام بأرق أقل، أو ينام كامل فترة النوم الطبيعية التي يحتاجها الإنسان بشكل متتال يكون هذا الشخص محظوظاً، وغالباً ما نتبعه بسؤال: كيف حصل على هذا الكنز، كنز النوم بأرق أقل أو بعمق من دون كوابيس؟
السوريون في جانب من أرقهم جزء من حالة عالمية، محورها أن نمط الحياة التي نعيشها والتزاماتها وتشابكاتها وتعقيداتها قد جعلت النوم منالاً عزيزاً وغالياً، في هولندا مثلاً، حيث أعيش الكثير من أيامي، هناك دورات وأيام تدريبية يلتحق بها من يرغب كي يستطيع أن ينعم بنوم طبيعي، أو يخفف من حالات الأرق، بل هناك مخيمات تقام بشكل دوري لمن يعانون من مشكلة في النوم وما أكثرهم!
ليس الدخول في النوم سريعاً لدى كثير من السوريين هو الحلم الذي يأملون تحقيقه، بل كذلك أن يناموا بكوابيس أقل حيث يتكرر كثير منها، بصفتها تكثيفاً وتراكماً نفسياً لما رأوه أو عانوا منه ذات يوم مضى، أو رسخ في لا وعيهم خطراً محدقاً بهم، قد يأتي كل لحظة ليهدد حياتهم، على الرغم من كون مصدر هذا الخطر يبعد عنهم آلاف الكيلومترات!
يستذكر كثيرون ذلك الماضي السوري الجميل، حين كان يهدُّهم التعب، أو هموم الحياة فينامون “طباً” وعلى طريقة من يقول “كنا عايشين”، هناك من يقول “كنا نايمين”! غير أن معظم هؤلاء لا يحنّون إلى تلك الفترة من حياتهم؛ أي فترة “كنا نايمين” بالمفهوم الرمزي، بل قد يحنون إلى حالة ارتواء فيزيولوجي للأجساد ليس إلا!
كان الموضوع السوري ذات يوم سبباً في عدم نوم كثيرين في هذا العالم، يوم كانت حالتهم ترنداً عالمياً، حتى أن “بان غي مون” الأمين العام للأمم المتحدة قال عام 2012: لا أستطيع النوم بسبب ما يحدث للسوريين!
وعلى الرغم من السخرية التي قابل بها السوريون تلك التصريحات التي كانت تعبر عن قلقها وأرقها تجاه الموضوع السوري، إلا أن تلك الصريحات قد غابت، بل إن الخطر أنها تحولت للحديث عن الموضوع السوري بصفته خطراً يهدد العالم.
اليوم؛ نام العالم تجاه القضية السورية ولم تعد تؤرقه بصفتها حالة حرية وحق ومطالبة بالديمقراطية، بل صار الموضوع السوري يؤرقه ويمنعه من النوم بصفته حالة ضاغطة من جهة اللجوء ومخاطره، حتى باتت الكثير من الدول تتخلى عن خطوطها الحمر “المطاطة” أخلاقياً وإنسانياً لتتواصل مع النظام السوري، الذي صنع الجزء الأكبر من المشكلة بجرائمه وتعنته وتمسكه بامتيازات السلطة.
هناك مقولة ترى أن النوم حالة من المساواة، أما اليقظة فهي تفرق بين البشر. لكن السوريين، من تجاربهم، لا يوافقون على ذلك ويرون أن نوم من حقق حلمه وأمنياته غير نوم المظلوم أو المنكسر أو من هو على الطريق!
أسباب الأرق والسهر عند السوريين تختلف باختلاف جغرافيتهم والخطوات التي مشوا على دربها حتى اليوم، فمن هو لا يزال في “مخيم الهول” طموحه أن يكفله شيخ عشيرته فيعود إلى بيته، أما من هو في مناطق النظام فبات سبب أرقه هو تأمين أسباب يومياته ومعاشه. فيما بات أرق من يعيش في إدلب مرتبطاً بمدى الفسحة التي تسمح بها سلطات الأمر الواقع. أما الطريق إلى النوم السريع عند من يسكن في خيمة فيكمن في أن يأتيه الشتاء القادم وقد عاد إلى قريته أو حيّه! وحالة الأرق التي تصيب من ينتظر قرار الإقامة أو الجنسية في أوروبا من السوريين يعد سبباً غير مقنع بعينيْ من يسكن في خيمة، أو من ليس لديه كهرباء! وأرق عدم وجود الكفايات والمتطلبات الأساسية للإنسان كما هي حالة الكثيرين من أهلنا في الداخل يختلف عن أرق تغير مستوى المعيشة نتيجة غلاء الأسعار عالمياً!
السوريون، اليوم، من وجهة الأرق والسهر باتوا طبقات اجتماعية جديدة، مختلفة المرامي والأهداف والظروف باختلاف الجغرافية والمستندات والعامل الاقتصادي. ولعل الأرق الأكثر ألماً هو أرق من هو في المعتقل منذ سنوات، ولا يعرف متى سيخرج أو هل سيخرج؟ يقابله كذلك دموع الأمهات اللاتي ينتظرن أبناءهن، أو يحلمن بلحظة تحقيق للعدالة تخفف من أرقهن وتعيد لهن الثقة بأن هناك حالة عدل قد تأتي في لحظة ما!
الأرق لدى كثيرين ممن نعرف، سببه الرئيس الشعور بالذنب، بخاصة من هو متعلق بمتابعة الأخبار عربياً وما يتعرض له أهل غزة من مجازر، وهي متلازمة قد تمر على سوريين كثيرين تجاه من بقي من أهلهم في الداخل السوري.
وعلى الرغم من سوء الأوضاع المعيشية والأمنية والاجتماعية في الداخل السوري؛ إلا أن كثيراً من السوريين ممن أتيح لهم أن يعبروا الحدود السورية إلى خارجها، بل حصلوا على جنسيات بلدان أخرى هم اليوم أسرى لأرق الشوق والحنين إلى الديار، ديار سلمى، وما حب الديار قد تسبب في أرقهم، بل حب من سكن الديارا، مع أن هذا الذي قد سكن الديارا قد يكون مات أو سافر أو نزح أو قتل أو اعتقل!
حين يستمع السوريون اليوم إلى تلك الأغاني التي تتحدث عن قلة النوم ومجافاته للعشاق يتحسرون، فقد كان الحل بسيطاً جداً وهو عند شخص واحد فحسب، وحلُّ الأرق يتمثل في أن يشعر بك فيبادلك المشاعر ويبتعد عن تجاهلك، وبذلك ينتهي موضوع الأرق والقلق!
في الغزل أن حبيباً قال لحبيبته: أحبك يا حبيبتي كثيراً، وأعظم لحظات حبي حين تكونين نائمة تهدهدك الطيور، وتغفين على وسادة حكاياتي!
زار الأرقُ تلك الحبيبة يوماً فوجدت حبيبها، بعد أن ينوّمها على وقع حكاياته الشهريارية تلك، يعود إلى “الموبايل” كي يلعب ألعاباً مع أناس من أراض مختلفة من العالم، كما أقسم لها بسبب الأرق الذي يصيبه كل يوم وبات صديقه المفضل!
لعب “الفار بعبّها” وباتت تخاف وتقلق من أن أمر سهر الحبيب أبعد من لعبة! فلم تعد تجد للنوم طريقاً سهلاً، انضمت إلى تلك الطبقة الاجتماعية التي تسمى طبقة “المؤرقين والمؤرقات” لتكتشف أن هذه الطبقة باتت اليوم الأكبر في العالم، وأن داخل هذه الطبقة شرائح اجتماعية عديدة: إحداها من يتأرقون ساعة أو ساعتين وهي راضية أن تكون منهم، غير أنها تخشى أن تنتقل إلى شريحة أخرى وهي التي تحتاج إلى مساعدات طبية أو مشروبات كي تصل إلى مرحلة النوم، التي باتت بعيدة جداً كأنها حلم سوري يردّد صاحبه مع سعدون جابر:
“أمشي وأقول وصلت والقنطرة بعيدة
تعّبني مشي الدرب، والشوق هزّ القلب
وأمشي وأقول وصلت والقنطرة بعيدة!
فهل سيصل السوريون إلى “قنطرتهم” قريباً، حيث اهتزت قلوبهم بأنسام الحرية أم سيورثون هذا الحلم إلى الأجيال القادمة بعد أن أتعبهم مشي الدرب ولم يصلوا إلى تلك القنطرة؟