توصلت دراسة تونسية إلى أن الحكومة التونسية نجحت في تجنب وصفة صندوق النقد الدولي الموجعة في علاقة برفع الدعم ووقف الانتدابات والتقليص من كتلة الأجور، واعتبرت أن ذلك دليل على أن مسار صندوق النقد ليس قدرا، وأن الدول يمكن أن تجد بدائل أو حلولا ولو بشيء من الصعوبة لتحقيق ما تريده دون تنفيذ شروط قاسية يمكن أن تحرك الشارع ضدها.
وخلصت الدراسة إلى أن تونس تمكّنت بقدراتها الذاتية من تنفيذ سياسة اجتماعية متوازنة. لكن الدراسة وقفت عند التوصيف، ولم تشر إلى التوقعات بشأن استمرار هذا النهج من عدمه، هل هو واقعي أم يحتاج لتعديل وعلام ستعتمد في الاستمرار، هل ستستمر في اعتماد بدائل محلية (قروض داخلية وزيادة الضرائب) أم ستلجأ إلى تمويلات خارجية لا علاقة لها بالصندوق.
ربما تكون الدراسة محكومة بقراءة سياسية هادفة إلى تأكيد رهان الاعتماد على الذات، وأن خيار قيس سعيد ضرورة سياسية واجتماعية واقتصادية، وأن قدر تونس ليس الارتهان للإملاءات الخارجية كما حصل مع حكومات سبقت 25 يوليو 2021.
من حق أيّ جهة سياسية أو إعلامية أن تأخذ الدراسة في اتجاه التأويل الذي تريده، لكن من المهم لأيّ قراءة واقعية أن تقوم على التنسيب بما في ذلك صلب الخطاب الدعائي. فالتونسيون يدعمون المقاربة الاجتماعية لقيس سعيد وخاصة نهوض الدولة بدورها في خدمة الفئات الفقيرة، وهذا مهم، لكن سيكون منطقيا أن يشير الباحث إلى صعوبات هذا التمشي على المديين المتوسط والبعيد، وهذا في مصلحة الدولة والحكومة والسلطة السياسية.
لا يمكن لأيّ حكومة أن تقول للناس إن الطريق مفروش بالورود، وإنها ستحوّل حياتهم إلى جنة على الأرض، لأنها ستصدم بواقع صعب في وقت لاحق خاصة في بلد إمكانياته محدودة وفرص حصوله على التمويلات الخارجية متراجعة لتعقيدات بعضها ذاتها وبعضها إقليمي.
إقرأ أيضا : كيف يمكن لتونس أن تستفيد من عمالتها في الخارج ؟
لكن الصعوبات لا تلغي حقيقة أن تونس، رغم محدودية إمكانياتها وهامش تحركها المالي والاستثماري، قد رفضت إعادة إنتاج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بأزمة أكبر وأبعد مدى، فالإصلاح يهدف إلى التحسين ولو بشكل متعثر وبسقف محدود، ويصب في النهاية لصالح الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة للتغيير، لكن صندوق النقد يريد إصلاحا قاسيا ومربكا وفي النهاية لا يستفيد منه سوى عدد محدود، فلا هو يفيد سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا.
صحيح أن خيارات الصندوق مهمة في ضبط كل التفاصيل بدقة متناهية ومنع الفساد ووقف إطلاق أيدي الحكومات في الإنفاق السخي على حساب الأجيال القادمة، لكن الصحيح أيضا أنه لا يقيم وزنا للتوازنات السياسية ولا لانتظارات الناس، وهو سر الخلاف مع تونس التي تريد إصلاحا يحفظ الاستقرار ويقدم، ولو بشكل متدرج، خدمات واضحة للناس.
وتجد تونس أمثلة واقعية تدعم فكرتها، من ذلك تجربة مصر، التي نفذت ما طلبه صندوق النقد من إصلاحات، وخاصة ما تعلق بتقليص دعم المواد الأساسية، وطبقت وصفته في منح الدعم لمستحقيه، أي تخصيص منح لفئات من المجتمع تبدو في نظر الحكومة هي الأكثر فقرا. لكن التحمّس لإصلاحات الصندوق وللقرض الذي منحه لمصر (8 مليارات دولار) توقف فجأة بعد أن ظهر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليعترف بأن هذا المسار أفضى إلى نتائج عكسية، وأنه يهدد الاستقرار الاجتماعي لبلاده في ظل التطورات الإقليمية.
ما وصل إليه الرئيس المصري بالتجربة الملموسة كان الرئيس التونسي قيس سعيد يعارضه منذ البداية انطلاقا من قناعة ذاتية ترى أن الصندوق وسيلة للهيمنة، وأن برنامجه يمكن أن يجرّ الناس في تونس إلى استعادة انتفاضة الخبز في 1984.
استبق قيس سعيد مخاطر التململ الاجتماعي عندما لم يتجاوب مع شروط قرض صندوق النقد، خاصة أن البلاد تعيش حالة من فوضى الشعارات والمزايدات. كما أن تجربة الحكم بعد ثورة 2011 قادت البلاد إلى المزيد من التراجع الاقتصادي، وفتحت الباب أمام تراجع دور الدولة في التعامل مع الأسعار في مقابل سيطرة اللوبيات التي تحتكر قطاعات توريد وتوزيع المواد الغذائية والخضروات.
لا يمكن لأيّ سياسي في هذا الوضع أن يغامر بمصداقيته ويفتح بابا للحوار مع صندوق النقد يقوم على ثنائية رفع الدعم عن المواد الأساسية والتقشف، بما في ذلك الحد من الإنفاق على الخدمات التي تمس الناس بشكل مباشر في مجالات مثل الصحة والنقل والتعليم.
وعرضت تونس في السنوات الأخيرة صيغة تقوم على التعامل مع شروط صندوق النقد مع استثناء موضوع رفع الدعم، لحساسيته السياسية والاجتماعية، لكن رد الصندوق جاء قاطعا بأن على تونس أن “تلغي الدعم الذي يشكل عبئا ولا يوفر عدالة اجتماعية،” ولأجل هذا العنصر بالذات تعطل التفاوض.
لا يتعامل الصندوق مع الاعتراض التونسي، أو الشكوى المصرية من محاذير الاستمرار فيه، كما تنظر الحكومات، حتى أن كريستالينا جورجيفا مديرة الصندوق ردت على المطلب المصري ببرود قائلة “وضع مصر سيكون أفضل إذا أقدمت على تنفيذ الإصلاحات عاجلا وليس آجلا. ولن نتمكن من القيام بدورنا لصالح البلاد وشعبها إذا ادعينا أنه يمكن التخلي عن الإجراءات التي يتعين اتخاذها”.
لا يهتم الصندوق لاستقرار الدول والأنظمة. ما يهمه إصلاح الاقتصادات بتقليص هيمنة الدولة، وهي ترتبط عادة بالإنفاق الاستعراضي غير المدروس وتغمض الأعين عن شبكات الفساد. كما يريد فتح الباب أمام القطاع الخاص لإدارة القطاعات المنتجة بدلا من تركها لهوى الدولة وأجنداتها السياسية.
لكن بعد تجارب طويلة مع انتفاضات الخبز في بلدان عربية مختلفة منذ “تعليمات” الإصلاح الهيكلي وصولا إلى الوضع الراهن، سيكون على الصندوق أن يستمع إلى دول المنطقة كشريك، وليس كأستاذ مهمته أن يسدي التعليمات. وبدورها، تحتاج دول المنطقة أن تقدم مقاربتها الخاصة إلى مسؤولي الصندوق للوصول إلى صيغة توافقية تمنع الانفجار الاجتماعي في بلدان هي بالأساس تعاني من الكثير من المشكلات.
لماذا يتمسك الصندوق بجزئية رفع الدعم كشرط أولي مع أن هدفه هو إصلاح الاقتصادات وتخليصها من الإنفاق البيروقراطي والحد من تضخم القطاع العام غير المنتج. لمَ لا يسير في هذا المسار ويترك موضوع الدعم إلى حين إصلاح الاقتصاد وخلق الثروة وتحسين الخدمات وسد فجوة البطالة ثم يناقش رفع الدعم، الذي يفترض أن يكون نتيجة لنجاحات وليس عتبة أولى تحكم على الإصلاح إما بالفشل أو إظهاره وكأنه إكراه يعادي الناس؟ من سيقبل بهذا المسار؟ وحتى لو قبل، إلى متى سيتحمل؟
على الصندوق أن يتفهم مآخذ تونس وتوجّسها من اللجوء إلى الاقتراض بشروط صعبة تهدد استقرارها، وهو ما يشير إليه الرئيس سعيد باستمرار من خلال استدعاء ثورة الخبز في يناير 1984 التي راح ضحيتها العشرات احتجاجا على “تحرير” سعر الخبز ورفع الدعم كليا، وهو قرار كان استجابة تونسية لمقاربة الإصلاح الهيكلي الذي طرحه الصندوق آنذاك، واضطر إلى سحبها بعد أن أدت إلى انتفاضات في دول أخرى في المنطقة.
هناك تصلّب غير مفهوم تجاه تونس، خاصة بعد الكلام الذي أطلقه ممثل الصندوق في الشرق الأوسط جهاد أزعور، الذي اشترط أن تقوم تونس بإلغاء الدعم بشكل كامل من أجل العودة إلى دراسة ملف القرض الذي تطالب به، والمقدر بـ1.9 مليار دولار على أربع دفعات.
هذا الشرط يبدو أقرب إلى موقف سياسي منه إلى أسلوب مؤسسة مالية دولية عرفت بالمرونة في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية خلال عقود. ذلك أن الدعوة إلى إلغاء الدعم تعني آليا الاصطدام بموقف الرئيس سعيد الذي يرى في رفع الدعم أو إلغائه “خطا أحمر” يمس من مقاربته في الحكم وشعبيته.