لماذا تراجع كندا سياساتها في الهجرة؟
لطالما كانت كندا تستقبل أعداداً كبيرة من المهاجرين بهدف سد نقص العمالة الناتج عن تقدم سكانها في العمر، ما منحها ميزة تنافسية في سوق الوظائف الشاغرة حول العالم، لكنها تتجه الآن نحو الحد من هذه السياسة.
فبعد تسجيل زيادات سكانية قياسية تسببت في ضغوط على سوق الإسكان وسوق العمل والخدمات العامة، أعلنت كندا في 24 أكتوبر عن خطة لخفض معدلات القبول بشكل كبير. وتهدف حكومة رئيس الوزراء جاستن ترودو إلى تقليص أعداد الطلاب الدوليين والعمال الأجانب، بجانب خفض المستهدف السنوي لقبول المقيمين الدائمين، وهي خطوة لم تكن واردة قبل عام واحد فقط.
ما أسباب هذا التحول؟
أدى تدفق المهاجرين إلى جعل كندا واحدة من أسرع الدول نمواً سكانياً في العالم، بمعدل بلغ حوالي 3% سنوياً. وقد أسهم هذا النمو السريع في أعداد الوافدين، الذي يعادل إضافة عدد سكان مدينة سان دييغو في غضون أكثر من عام بقليل إلى بلد أكثر اكتظاظاً بالسكان قليلاً من كاليفورنيا، في تفاقم نقص المساكن وارتفاع أسعار الإيجارات وزيادة الضغط على الخدمات العامة، إلى جانب ارتفاع معدل البطالة.
اقرأ أيضا.. بريكس: قمّة قازان انطلاقة كبرى تحتاج إرادة
مددت كندا حظرها المفروض على شراء الأجانب للمنازل لمدة عامين إضافيين وسط إظهار سوق العقارات في البلاد علامات الانتعاش.
نظر الكنديون منذ فترة طويلة إلى الوافدين الجدد، الذين غالباً ما يكونون من الشباب ذوي التعليم العالي، كمساهمين أساسيين في بلد يعاني من انخفاض الكثافة السكانية وتسارع الشيخوخة. إلا أن الآراء بدأت تتغير مع زيادة أعداد الوافدين، حيث أظهر استطلاع رأي طويل الأمد أن غالبية الكنديين باتوا يعتقدون لأول مرة منذ عام 1998 أن معدل الهجرة أصبح مرتفعاً للغاية. في الوقت نفسه، تراجعت شعبية ترودو بشكل حاد، وسط دعوات من داخل حزبه الليبرالي تطالبه بالتنحي عن منصبه، فيما تُظهر استطلاعات الرأي تقدم حزب المحافظين المعارض قبيل الانتخابات المتوقعة في أكتوبر 2025.
كيف كان الوضع سابقاً في كندا؟
على مدار عقود، أسهمت الحدود البرية المشتركة بين كندا والولايات المتحدة وسياسات الهجرة المنظمة نسبياً في حمايتها من التدفقات الكبيرة للمهاجرين. ولعبت هذه السياسات المحكمة، والتي تشمل تحديد أهداف سنوية واضحة للهجرة، دوراً مهماً في تعزيز النظرة الإيجابية تجاه الهجرة في كندا مقارنةً بالعديد من الدول الأخرى.
وقد كان الترحيب بالوافدين الجدد نابعاً من قناعة قوية بأن للهجرة فوائد عديدة، لكن بعد تفشي جائحة كوفيد-19 بدأت هذه القناعة تتراجع، ومعها النظام القوي للهجرة. فقد شهدت كندا تدفقات قياسية من المهاجرين نتيجة لتخفيف قيود السفر والسياسات الرامية للتصدي لنقص العمالة عن طريق توظيف الأجانب، بجانب تزايد رغبة الطبقات المتوسطة المتنامية في الدول النامية للهجرة.
ما تأثير الهجرة على الاقتصاد الكندي؟
مع إعادة فتح الاقتصاد، ساعدت مستويات الهجرة المرتفعة في دعم قطاعات أساسية مثل الإسكان وتجارة التجزئة والقطاع المصرفي، حيث استقطبت كندا عمالة جديدة في مجالات محددة كانت تحتاجها، مما ساعد على تسريع التعافي الاقتصادي بعد الجائحة. وتفوق نمو الناتج المحلي الإجمالي لكندا على نظيره في العديد من الديمقراطيات المتقدمة الأخرى. وخلال دورة رفع الفائدة التي تبناها بنك كندا، دعم النمو السريع في عدد السكان الإنفاق الاستهلاكي وساعد البلاد على تجنب الوقوع في ركود اقتصادي رغم كونها واحدة من الدول التي تضم بعض الأسر الأكثر مديونية في العالم.
لكن الوتيرة المتسارعة لتدفق الوافدين تجاوزت سريعاً قدرة كندا على استيعابهم، ما أدى إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مؤشر لمستوى المعيشة، لعدة أرباع سنوية متتالية. وبدأ الشباب، الذين يشكلون شريحة انتخابية رئيسية، بجانب المهاجرين الجدد، في تحمل العبء الأكبر من تخمة سوق العمل.
ما الخطأ الذي حدث؟
لفهم نظام الهجرة الكندي بشكل مبسط، يمكن تصوره على شكل مسارين رئيسيين للوافدين الجدد مع وجود قناة ضيقة تربط بينهما. المسار الأول: مخصص للمقيمين الدائمين، ويُدار بصرامة حيث تعمل السلطات على تقييم المتقدمين وفقاً لمعايير تشمل العمر والتعليم والخبرة العملية وإجادة اللغة. يُختار فقط أصحاب أعلى الدرجات، مما يجعله المصدر الرئيسي للمهاجرين الاقتصاديين في كندا ومساراً للحصول على المواطنة في المستقبل، إذ يتمكن العديد من المقيمين الدائمين من نيل الجنسية بعد ثلاثة أعوام من الإقامة.
أما المسار الثاني يُشبه البركة، ويتضمن المقيمين المؤقتين ويتغير تدفق الوافدين فيه بناءً على أعداد الطلاب والعمال وطالبي اللجوء. على مدى عقود، كان هذا المسار أقل أهمية للمهاجرين ولم يُسهم سوى بجزء ضئيل في زيادة السكان. لكن منذ منتصف عام 2022، توسع هذا المسار بشكل كبير ليجلب عدداً أكبر من الوافدين مقارنة بالمسار الرئيسي. وأسهم تخفيف قواعد توظيف الأجانب، في ظل أزمة نقص العمالة، في زيادة أعداد الوافدين، كما استغلت العديد من الكليات والشركات هذا النظام لاستقطاب المزيد من الوافدين من الخارج.
وبفضل نظام النقاط، يمكن للمرشحين الحصول على الإقامة الدائمة من خلال درجات إضافية إذا كانت لديهم تجربة دراسية أو عملية في كندا. لذا، يلجأ العديد من المهاجرين الذين يسعون لتحسين فرصهم في القبول إلى مسار المقيمين المؤقتين كوسيلة للحصول على الإقامة الدائمة في البلاد.
تسعى الحكومة الآن إلى اتخاذ خطوات صارمة للحد من تدفقات المقيمين المؤقتين، مع تقييد القدرة على التوسع وفرض قيود إضافية على شروط الدخول. تهدف الخطة إلى تقليل عدد الوافدين بنسبة تتجاوز 20% خلال الثلاثة أعوام المقبلة، وتشمل التدابير الرئيسية تحديد سقف لعدد تأشيرات الطلاب وتقييد استخدام العمالة الأجنبية.
بينما تتوسع رقعة كبرى المدن الكندية، تزداد تكلفة السكن فيها، ما يدفع مئات الآلاف لمغادرتها بحثاُ عن مساكن بتكلفة أقل.
في 24 أكتوبر، أعلن وزير الهجرة مارك ميلر لأول مرة عن هدف محدد لأعداد المقيمين المؤقتين، حيث من المتوقع أن تنخفض أعدادهم بنحو 446 ألف شخص في عامي 2025 و2026، قبل أن تسجل زيادة متواضعة قدرها 17,400 شخص في عام 2027، مقارنة بزيادة 800 ألف في عام 2023.
كما أوضح أن كندا ستخفض عدد المقبولين للإقامة الدائمة بنحو 20% العام المقبل، أي حوالي 395 ألفاً، مقارنة بالمستوى المتوقع لهذا العام البالغ 485 ألفاً، مع استمرار الانخفاض بمعدل 4% سنوياً حتى عام 2027.
بشكل عام، تعني هذه الخطة أن عدد سكان كندا سيتراجع بنسبة 0.2% في العامين المقبلين، قبل أن يسجل نمواً متواضعاً قدره 0.8% في عام 2027. وهذا مقارنة بمعدل نمو سنوي بلغ 3% في الربع الثاني من هذا العام، وهو أحد أسرع المعدلات عالمياً. ويُعد هذا الانخفاض الأول في عدد سكان كندا في البيانات التي تعود إلى أوائل الخمسينيات.
جاء قرار خفض هدف الإقامة الدائمة بعد حوالي عام فقط من تصريح مارك ميلر بأنه “لا يرى أي احتمال لخفض هذا الهدف”.
ما النتائج المتوقعة لهذه السياسات؟
على المدى الطويل، قد يسهم التشديد الصارم على نظام الهجرة في تقليص معدل النمو السكاني لكندا إلى النصف، مما يجعله أقرب إلى المتوسطات التاريخية. لكن هناك مخاطر من تقليصه بشكل مفرط، خاصة أن الهجرة تمثل تقريباً كامل الزيادة في القوى العاملة، وأي نقص في العمالة الجديدة قد يضر بالاقتصاد ويعيد إشعال التضخم.