عند الحديث عن “طوفان الأقصى” من زاوية نقدية تحليلية، قد يخطر ببال القارئ أن المقصود انتقاد “حماس”، وإثبات أنها على خطأ، وأنها تسببت بجلب نكبة.. إلخ. هذا ليس نقداً، بقدر ما هو مناكفة حزبية وتصيّد أخطاء؛ فالنقد يجب أن يكون بمنهج موضوعي. وقراءة الحدث وتحليل المشهد يتوجب أن ينطلق من أساس وطني، وبرؤية وطنية، وإحساس بالمسؤولية.
فما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليس حدثاً عادياً، ومشاهد استبسال المقاومين وشجاعتهم تبعث على الفخر، ومقتل الجنود الغزاة حدث لا نشاهده كل يوم.. ولكن الافتخار بالمقاومة ومديحها ليس هو الهدف، لأن ممارسة المقاومة بحد ذاتها ليست هدفاً، المهم أن نخلق جبهة سياسية مكافئة لهذا الفعل المقاوم، لتحصد ما يزرعه المقاومون، وهذا يتطلب أولاً النظر للمقاومة على أنها فعل وطني فلسطيني، وحلقة من حلقات الكفاح الفلسطيني، وليس مجرد أداء بطولي لحزب سياسي، ثم العمل على تكامل الجبهة العسكرية مع الجبهات السياسية والدبلوماسية والإعلامية، ضمن إطار وطني موحد متجرد من الحسابات الفئوية والحزبية، وبخطاب وموقف موحد. وهذا يستدعي من “حماس” الاقتراب خطوة من الوطنية الفلسطينية، والابتعاد خطوات عن الأيديولوجيا الإخوانية، والتحرر من الأجندات الإقليمية.
ويتوجب أيضاً رؤية وتحليل ونقد كل ما هو داخل هذا الإطار، حيث التفاصيل الكثيرة والمهمة، وما يتعلق بالأداء، والخطاب، والمسارات السياسية السابقة. فكل شيء يجب أن يوضع تحت المشرحة، ولا أحد فوق النقد.
والنقد السياسي، الموضوعي والعقلاني والمسؤول، وليس تبادل الاتهامات والشتائم، جزء من العمل السياسي، وهو الذي يضفي حيوية وفاعلية على الكيانات السياسية، والأشكال الكفاحية، لذا فإن تحريم النقد جزء من الثقافة المشوهة التي تعممها نظم الاستبداد والفساد، والأحزاب السلطوية، لإضفاء قداسة على خياراتها وشعاراتها ولترسيخ هيمنتها.
فلا أحد ولا خيار ولا شعار مقدساً، أو فوق النقد، فذلك كله نتاج مواقف وأفعال بشر، ومصداقية الحركات الوطنية تتأتى من استعدادها لوضع نفسها تحت النقد والمساءلة والمحاسبة، فهذا دليل ثقتها بنفسها.
ونظراً لشدة الخلاف في الساحة الفلسطينية بين من يؤيد “طوفان الأقصى” تأييداً مطلقاً، وبين من يراه مغامرة غير محسوبة، وأنه قدمت ذريعة لإسرائيل لاحتلال غزة وتدميرها. نلاحظ أن مؤيدي المقاومة يحاولون إسكات أي صوت معارض أو ناقد، معتبرين ذلك تبرئةً للعدو من جرائمه، وتحميل الضحية المسؤولية، وأنه يتوجب محاكمة القاتل المجرم، بدلاً من توجيه اللوم على الضحية المقاومة.
في الواقع لا علاقة بين نقد المقاومة وتبرئة إسرائيل، وهذه مجرد حجة لإسكات النقد، فلا خلاف على أن إسرائيل هي المعتدية، بصفتها قوة احتلال، وهي التي هاجمت وقصفت وقتلت ودمرت، وبالتالي تتحمل المسؤولية كاملة، ويتوجب مقاضاتها أمام العدالة الدولية، ومعها أميركا، والدول الأوروبية التي أيدتها في عدوانها ودافعت عنها، وأمدتها بالسلاح. ومن يحاول تبرئة الاحتلال، أو لوم الضحية، هو شريك في الجريمة.
الفلسطيني هو الضحية، و”حماس” مارست حق المقاومة، وهذا واجبها وواجب كل فلسطيني.. ولا يوجد أي خلاف على حق المقاومة من حيث المبدأ، ولم تصدر أي إدانة لـ”حماس” من قبل أي فلسطيني، من الرئيس حتى أصغر مسؤول، الكل بلا استثناء رفض إدانة هجمات السابع من أكتوبر، ورفض إدانة “حماس”، ورفض وصفها بالإرهابية.
النقد لا يهدف لإدانة المقاومة نفسها؛ بل هو لمناقشة أسلوب وطريقة ممارسة المقاومة، وتقييم هجمات السابع من أكتوبر من حيث جدواها وفاعليتها ونتائجها، ومعرفة هل هي خطوة على طريق التحرير؟ وبالتالي تستوجب كل هذه التضحيات أم مغامرة وتكتيك غير مناسب جر على غزة كل هذا الدمار؟ فالنقاش والنقد يدور حول الخطوة نفسها، وليس حول حق المقاومة. وليس بهدف محاكمة “حماس”، وقد ضحى هؤلاء المقاومون الأبطال بحيواتهم ودمائهم، وننحني إجلالاً لتضحياتهم.
فإذا كان هذا الأسلوب صحيحاً ويقربنا من النصر والتحرير، ويحقق إنجازات سياسية، يمكن البناء عليها، فعلينا أن نفكر معاً كيف ندعمه، ونستفيد منه، وكيف نطوره، وكيف نمارسه مستقبلاً بشكل جماعي، وكيف نستثمره سياسياً.
وإذا كان هذا الأسلوب ضاراً، ويكبّد الشعب خسائر فادحة، ويحمله فوق طاقته، ويضر بالقضية الفلسطينية، ويهدد مستقبلنا، ويشوه صورة المقاومة، ويستنزف قدراتها، ويعيدنا خطوات إلى الوراء، ولا يمكننا الاستمرار به أو معاودته مرة ثانية، فعلينا أن نتوقف عنه، ونفكر ببدائل أخرى.
وقبل التسرع في إصدار الأحكام والتصنيفات والحديث عن المرجفين، أو المتهورين، لنحاول فهم هذه الخلافات بعيداً عن التشنجات السياسية والأيديولوجية.
هذه الخلافات موجودة بالفعل، ومنذ زمن بعيد، والخلافات بحد ذاتها أمر طبيعي ومشروع شريطة توفر بيئة ديمقراطية، ولكن، للأسف بسبب غياب شخصية قيادية جامعة، وبسبب عدم وجود إستراتيجية كفاح وطني متفق عليها وملزمة للجميع، قائمة على أساس برنامج وطني مقاوم، وبسبب التنافس الحزبي، وغياب الحوار الوطني، وانعدام الثقة، وتدخل أطراف خارجية، ودخول البعض في لعبة المحاور الإقليمية والصراع على من يمثل الشعب، ومن يفاوض، ومن يقود المنظمة والسلطة.. أدى هذا كله إلى تفاقم الخلافات وصولاً إلى الاقتتال الداخلي، ومن ثم الانقسام، الذي أضر بالجميع وأضعف القضية الفلسطينية.
وطوال فترة الحرب العدوانية لم تصل حالة التناقض بين الجهتين إلى حد الاشتباك، ذلك لأن الجميع حاول تجميد الخلافات.. فالكل متفق على أهمية التجند للمعركة، لكن الخطورة تظل قائمة مع وجود المتطرفين من الجهتين، ومع الحرب النفسية التي يشنها العدو باستخدام عملائه وأدواته الإعلامية.. والأخطر من ذلك، أن حالة الصمت، وتأجيل الخلافات، وكبح تطورها إلى نزاع مسلح بسبب وجود الاحتلال وأجواء المعركة.. فهل هذا يعني أنه بزوال الاحتلال، سنتصرف تجاه بعضنا بهذه العقلية الإقصائية وبنهج التخوين والتكفير، وربما ندخل في حرب أهلية؟!
لا حل أمامنا إلا الحوار العقلاني المبني على الثقة والتكامل، ونبذ نهج الإقصاء والتفرد.. وأن نجري تقييماً ومراجعة نقدية جريئة لكل ما سبق، فكل طرف لديه أطروحة تحتمل الصواب والخطأ، وهناك إمكانية وضرورة للاتفاق على القواسم المشتركة.. والجميع دون استثناء اقترف أخطاء فظيعة بحق الشعب، وبحق فلسطين وقضيتها.. وآن الأوان لنستيقظ، ونعيد حساباتنا لنستفيد من أخطائنا، وأن نتحد بروح وطنية مسؤولة.. فدرب التحرير والحرية ما زال طويلاً وشاقاً.. وإذا ما واصلنا التفكير والتصرف بنفس الأخطاء والمنهجية السابقة لن نجني سوى الدمار والخراب.. ومن المفترض أن تضعنا دماء أطفال غزة أمام مسؤولياتنا.