أوروبا

لماذا اعترفت سلوفينيا بفلسطين بعد طول تردد ؟

غمر الناس حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالأخبار المتعلقة بغزة، وحثوا الحكومة السلوفينية على القيام بشيء حيال ذلك حتى لا تتحول سلوفينيا إلى ألمانيا. وأظهروا تضامنهم وإنسانيتهم في كل يوم. وأظهروا فهمهم العميق لحقيقة أن المستقبل القريب للغاية قد مر عدة مرات في تاريخ سلوفينيا المستقلة.

معروف عنا نحن أبناء سلوفينيا أننا قوم مجدون في العمل، نتسم بالأناقة، لكننا في الجوهر ضعاف الشخصية، وأن أحب ما ننفق فيه وقت فراغنا هو قمع إخواننا في الوطن، وجيراننا بصفة خاصة، وأمثالنا وزملائنا في العمل، فننزلهم منازلهم، ونجعلها دائمًا أدنى من منازلنا.

على أننا نلزم الصمت عندما يتحتم الجهر بالحقيقة في وجه السلطة. وقمعنا الآخرين والتزامنا بالصمت من جملة العمل الجاد! وعجزنا عن مقاومة إرادة الأقوياء والعظماء، أي رؤساءنا وحكامنا والحكومات المحلية والأجنبية، يجعلنا ممعنين في الفساد، ومن ثم لا يعول علينا. وليس من قبيل المصادفة أن يجري تصويرنا نحو السلوفينيين عادة مطأطئي الرؤوس متشابكي أصابع الأيدي، وتلك صورة الطاعة، ولا شك أن الطاعة سلوك محسوب.

أتراني لفتُ انتباهكم؟ أمر مؤسف إن صدق. أعترف أنني استدرجتكم إلى شرك صورة نمطية ذاتية، وأعني بها ما يعتقده المرء عن جماعته السياسية أو الاجتماعية. ولعلكم لاحظتم أن صورتي النمطية الذاتية تنطوي على إدانة مجيدة للذات، ولعلكم تفهمون أصلا أن الصور النمطية الذاتية وغير الذاتية لا ينبغي تصديقها أو ترسيخها.

لكن، ماذا لو أن صورة السلوفينيين النمطية الذاتية ليست خاطئة كل الخطأ؟ ماذا لو أنها سردية شأن أي سردية، أي كذبة كبيرة قائمة حول حقيقة ضئيلة؟

تسيطر عليّ هذه الأسئلة منذ الثاني والعشرين من مارس عندما قام رئيس وزرائنا روبرت جولوب بالتوقيع مع نظرائه من أيرلندا ومالطا وأسبانيا على بيان اعتراف بفلسطين. في الوقت الذي أقرت فيه الحكومة السلوفينية الأسبوع الماضي الاعتراف بفلسطين ليعرض للاقتراع في الجمعية الوطنية في الرابع من يونيو، لا يجدر بي حقا أن أستمر في قلقي من نزاهة الحكومة، فهي تقوم بأداء واجبها.

تحظى الحكومة بأغلبية برلمانية، ولذلك فإن لنا أن نتوقع -برغم شيء من المعارضة اليمينية- أن سلوفينيا عما قريب سوف تعترف بوجود فلسطين. ولكن الطريق إلى هذا كان طويلًا وكثير الالتفافات. ولم يزل يخلف بعض المرارة.

في مايو قالت وزيرة الخارجية السلوفينية تانيا فاجون في حوار تليفزيوني بعد زيارة إلى إسرائيل والضفة الغربية: إن «الوقت الأمثل للاعتراف بفلسطين هو المستقبل القريب للغاية». وكانت أيام كثيرة قد مضت بين الثاني والعشرين من مارس وهذا الحوار، فكان لزامًا أن يتساءل المرء عما كان يعنيه «المستقبل القريب للغاية». وفي عرف المنطق الوزاري السلوفيني فإنه يعني مدى أسابيع عديدة.

في التاسع من مايو، وهو اليوم السادس عشر بعد المائتين من حرب إسرائيل على غزة، ورد خبر بأن حكومة جولوب تشرع في إجراءات الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة ذات سيادة. غير أن القرار الذي تبنته الحكومة يتضمن مجموعة شروط.

فلا بد من إحراز تقدم في ما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن. ولو تحقق هذان الشرطان تمضي الحكومة بمقترح الاعتراف بفلسطين إلى الجمعية الوطنية في موعد غايته الثالث عشر من يونيو.

ولذلك بدا في التاسع من مايو أنه تقرر أن سلوفينيا سوف تنتظر إلى أن تقرر قرارًا بشأن هذه المسألة المرهقة بعد الانتخابات الأوروبية. شيء ما، شيء ما تقرر! وذلك ما قرأته، وهو لا يعدو (شيء ما، شيء ما). ففرض شروط على كيفية مضي إبادة جماعية لا يمثل أي شيء في الحقيقة.

في السابع عشر من مايو تحدث روبرت جولوب عن حرب غزة في (سي إن إن) وأوضح أنه دعا -في رسالة- قادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى الانضمام إلى «الجهود السلوفينية» للاعتراف بفلسطين. ترى هل ينبغي أن أصف لك حالي وأنا أحملق في الشاشة، وارتباكي، وتساؤلي عما لو أن رئيس وزرائنا يفهم أن كل ما يمكن أن تفعله سلوفينيا هو أن تكون مثالًا يحتذى إذ تعترف فعليًا بفلسطين؟

تراني أيضًا يجب أن أوضح كيف أنه على مدار هذا الوقت ازدادت صعوبة أن نأخذ الحكومة السلوفينية مأخذ الجد؟ يبدو لي أن «المستقبل القريب للغاية» الذي تكلمت عنه وزيرة الخارجية لم يتحقق إلا فور أن بات معروفا أن أسبانيا والنرويج وأيرلندا سوف تعترف بفلسطين في الثامن والعشرين من مايو. ولا بد أن هذا، من بعيد، يا عزيزتي وزيرة الخارجية، يمكن تفسيره باعتباره النقيض للتجاسر وضرب المثل للبلاد الأخرى.

لا يجب علي أن أوضح هذا كله؛ لأنكم تفهمون مقصدي. خير لي أن أشدد على أنه بحلول الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة أنها تعتزم في الثلاثين من مايو التقدم بمقترح الاعتراف بفلسطين رسميًا إلى الجمعية الوطنية -بدافع في ما يبدو من الغضب من مذبحة رفح- كانت منظمات المجتمع المدني السلوفينية قد خرجت بالفعل إلى الشوارع مطالبة بوقف إطلاق النار والاعتراف بفلسطين.

وقع أكثر من ثلاثمائة وخمسين مثقفا سلوفينيا على بيان يحتوي المطالب نفسها. واحتل طلاب كلية العلوم الاجتماعية بجامعة ليوبليانا الكلية وطالبوا قيادتها بالقبول بأن إسرائيل «ترتكب إبادة جماعية في غزة».

غمر الناس حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالأخبار المتعلقة بغزة، وحثوا الحكومة السلوفينية على القيام بشيء حيال ذلك حتى لا تتحول سلوفينيا إلى ألمانيا. وأظهروا تضامنهم وإنسانيتهم في كل يوم. وأظهروا فهمهم العميق لحقيقة أن المستقبل القريب للغاية قد مر عدة مرات في تاريخ سلوفينيا المستقلة.

لعلكم الآن تكونون قد أدركتم أن الصورة النمطية الذاتية السلوفينية التي قدمتها لكم في البداية لم تكن أكثر من حيلة مثيرة رخيصة. كنت بحاجة إلى اجتذابكم إلى مقالتي، وإلى أن تتعرفوا على الإحباط الذي شعر به بعض المواطنين السلوفينيين بعد أن أدركوا، مرة أخرى، أن الأشخاص الضعفاء من أصحاب الحسابات ليسوا الشعب، بل هم أهل السلطة التي تحكم الشعب.

وإثبات عكس ذلك كان يستوجب من الحكومة اتخاذ إجراء فوري، قرار فوري باقتراح الاعتراف بفلسطين على الجمعية الوطنية- قبل الثاني والعشرين من مارس أو أي تاريخ عشوائي آخر.

وفي نظري أن التأخر الشديد في تنفيذ ذلك، وبعد هذه العملية المتشابكة، أشبه باعتراف صامت من الحكومة بأنها تفتقر إلى أي فكرة عن سبب وجود سلوفينيا المستقلة ذات السيادة. وفي نظري -وأعتقد بقوة أنني لست الوحيدة في ذلك- أن الاستقلال والسيادة يبهتان مع كل مرة يتم فيها تأجيل قرار أخلاقي أو حجبه بمجموعة من الشروط.

نعم، يا حكومتي السلوفينية العزيزة، ما تفعلينه هو الصواب، ولكن لا يزال يتعين عليك إثبات أنك تفعلينه عن قصد. وأنك كنت تقصدينه طوال الوقت. أو على الأقل منذ الثاني والعشرين من مارس، عندما بدأت تظهر لمحات أخلاقية محتملة في سياستك الخارجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى