جاء الردّ الإسرائيلي على الضربة الصاروخيّة الإيرانية الأخيرة في الإطار الزمني المتوقع، أي بعد انتهاء الأعياد اليهودية، وقبل الانتخابات الأميركية.
وبالرغم من الصخب الإسرائيلي الذي تبع الضربة الإيرانية والذي تجدّد بعد استهداف منزل بنيامين نتنياهو أخيرًا في قيساريا بطائرة مسيّرة أطلقها حزب الله، حيث أرادت “إسرائيل” استثمار هذه الحادثة في تعزيز ضربتها المتوقعة لإيران، فإن الردّ الإسرائيلي بالفعل كان أقلّ بكثير ممّا قاله غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، حتى قبل يومين من الردّ الإسرائيلي: “بعد أن نهاجم إيران سيفهم الجميع القوة وعملية الإعداد والتدريب التي تمت، وكل من يحاول إيذاء إسرائيل سيدفع الثمن باهظًا”.
قال الإسرائيليون إنهم ضربوا عشرين هدفًا عسكريًّا إيرانيًّا، شملت منشآت لإنتاج الصواريخ الباليستية وعددًا من أنظمة الدفاع الجوي وقواعد إطلاق الصواريخ والمسيرات، في حين أن الدعاية الإيرانية بدورها نفت أن تكون “إسرائيل” قد تمكّنت بالفعل من ضرب هذا العدد من الأهداف، قائلة إن أنظمة دفاعها الجوي تصدّت بكفاءة للهجوم الجوّي الإسرائيلي، مما جعل الأضرار محدودة.
وبالرغم من هذا التعارض في الدعاية بين الطرفين، بحيث لا يمكن في الأفق الراهن تبيّن الحقائق المادية على الأرض، فإنه يمكن الخروج في مجموعة من الخلاصات السياسية بمقاييس الربح والخسارة:
أولًا: لا يوجد اختلاف داخل “إسرائيل” على تقييم الردّ الإسرائيلي من جهة محدوديته، ولكن الاختلاف حول أهدافه ومغزاه السياسي.
اقرأ أيضا.. إدارة بايدن وتحركات اللحظات الأخيرة
فبينما أمكن لبعض الإسرائيليين القول – بمن في ذلك أوساط داخل المعارضة كان أبرزهم لابيد – إن نتنياهو أضاع فرصة تاريخية لتوجيه ضربات أكثر عمقًا لإيران تشمل أهدافًا حيوية وإستراتيجية، فإنه يجري في الجهة المقابلة، ليس فقط في جبهة نتنياهو، ولكن أيضًا في جبهة الجيش ورئيس أركانه هرتسي هاليفي، وفي إطار التسابق على أخذ اللقطة والدفاع عن النفس، تسويق الردّ بوصفه منبثقًا من رؤية مواجهة منهجية متدرّجة مع إيران، بدأت بتدمير القوى المتحالفة مع إيران داخل فلسطين أو بمحاذاتها: حماس ثم حزب الله، وانتقلت لتدمير أدوات القوّة الإيرانية الذاتية، ولا سيما بتدمير منظومات الدفاع الجوي، بما سوف يحوّل إيران في مرحلة تالية إلى ساحة شبيهة بغزّة ولبنان، من حيث حرية عمل سلاح الطيران الإسرائيلي في الأجواء الإيرانية.
ثانيًا: المزاعم الإسرائيلية عن تدمير كبير لمنظومات الدفاع الجوي الإيراني يجب أخذها بحذر كبير والتعامل معها بوصفها دعاية لا بدّ منها، ما دام أن “إسرائيل” قد نقلت لإيران عبر قنوات خلفية، كما نشر ذلك موقع “أكسيوس” الأميركي، الطبيعة العامة للأهداف التي سوف تضربها.
وهو ما يعني أن الردّ الإسرائيلي اندرج في إطار قواعد الاشتباك التي اصطنعها الإيرانيون، في كلتا الضربتين الإيرانيتين، 13 أبريل/ نيسان، و1 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ أبلغ الإيرانيون بتلك الضربات مسبقًا.
وهو ما يعني أن بعض الإسرائيليين – وفق ما هو مؤكّد عن محدودية الردّ الإسرائيلي، وما هو مسرّب عن تبليغ الإسرائيليين المسبق بالردّ – سيطرحون أسئلتهم، حول دقة معطيات الدعاية الإسرائيلية، وحول أهداف “إسرائيل” من الرد، إن كان المراد منها فقط تقليص قدرات الإنتاج العسكري الإيراني، للإشارة إلى قدرة “إسرائيل” على الوصول للأهداف التي تريدها لمنح إيران فرصة للنزول عن الشجرة، وإغلاق جولة من ردود الأفعال المتبادلة.
ثالثًا: لا يقلّل ذلك من أهمية الضربة الإسرائيلية، ليس فقط بالنسبة للتقييم الإسرائيلي المتعاطي إيجابيًّا مع هذه الضربة، بوصفها أعطت رسالة قوية عن قدرة “إسرائيل” على توجيه ضربة مركّبة، تُعطّل فيها من جهة أنظمة الدفاع الجوي الإيراني بالمسيرات، وتضرب أهدافها الرئيسة بالمقاتلات المتطورة من خارج المجال الجوّي الإيراني، ولكن أيضًا بإدراج هذه الضربة في سياق رؤية منهجية لمواجهة مستمرة ومفتوحة مع إيران. فهذه الآراء عدّت الضربة جزءًا من خطّة متدرجة، وليست إغلاقًا لجولة من ردود الأفعال.
هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار – وبالرغم من اتفاق الطرفين الإيراني والإسرائيلي على كون الضربات الإسرائيلية انحصرت في الأهداف العسكرية – أن تلك الضربات كانت في مدن تضمّ بالفعل منشآت نووية ونفطية وقواعد للحرس الثوري، علاوة على أماكن تخزين الصواريخ الباليستية، وهو ما يعني أن “إسرائيل” قادرة على الوصول لأهدافها في جميع هذه المدن، وهو ما يمكّن الإسرائيليين من القول داخليًّا، وتهديد إيران عمليًّا، إن هذه الضربة كانت تمهيدًا لما يمكن أن يكون أكبر.
رابعًا: حين مقارنة التصريحات الإسرائيلية الرسمية العلنية ومن مختلف المستويات، مرتفعة السقف، بعد الضربة الإيرانية وبعد استهداف منزل نتنياهو، بالردّ الإسرائيلي، وبكون المشروع الجوهري لنتنياهو هو ضرب البرنامج النووي الإيراني بل وإسقاط النظام الإيراني، ومحاولة جرّ الولايات المتحدة لمعركة من هذا النوع، وما انتهجه نتنياهو باستمرار في هذه الحرب بالهروب المستمر من حرب إلى أخرى، فإنه يمكن القطع بأنّ الولايات المتحدة هي التي حدّدت الأهداف الإيرانية، ونوع الردّ الإسرائيلي وشكله، وأدارت الأمر برمّته في إطار دبلوماسية الردود الإيرانية الإسرائيلية المتبادلة.
خامسًا: يعني ذلك أن أميركا كانت قادرة بالفعل على منع الإبادة الجماعية في غزّة لو أرادت، أو وقف الحرب في وقت تالٍ، لكنّ مساحات الحرية للفعل الإسرائيلي في غزّة أولًا وفي لبنان ثانيًا، أوسع بكثير من تلك التي من الممكن أن تُمنح لـ”إسرائيل” بخصوص ضرب دولة إقليمية كبيرة في منطقة تحظى بوجود أميركي حيوي، ولأميركا فيها مصالح إستراتيجية كبرى.
وبقطع النظر عن الأسباب التي دفعت أميركا لمنح تلك الحرية شبه المطلقة لـ”إسرائيل” في تدمير غزّة، هل هو ضعف هذه الإدارة أم اتفاقها الضمني مع “إسرائيل” في أهدافها أم هو قدرة “إسرائيل” على الاستثمار في انقسامات النخبة الأميركية؟، فإنه يمكن القول إن المؤسسة الأميركية الراسخة هي التي تفرض ضوابط وخطوات المواجهة بما يتفق مع المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية.
سادسًا: خرجت إيران مستفيدة على مستوى الصورة، سواء في الاستقطاب الأصولي/الإصلاحي، حيث يمكن للإصلاحيين القول إن الجهد الدبلوماسي الذي أدارته الحكومة الإصلاحية برئاسة بزشكيان حجّم الردّ الإسرائيلي، بما وفّر للإيرانيين القدرة على احتوائه، وهو ما من شأنه أن يخفّف من حدّة دعوات الأصوليين لردّ إيرانيّ جديد، وبما يمنح فرصة للاقتصاد الإيراني للتعافي، ويمكن لإيران عمومًا أن تبدو الآن كدولة إقليمية يُحسب حسابها، أمام شعبها، وجمهورها في إطار محور المقاومة، وأمام الجمهور العربي.
سابعًا: لن تُسِقط إيران ورقة الردّ المحتمل، خاصة وقد أعلنت سقوط جنديين إيرانيين قتيلين في الضربات الإسرائيلية الأخيرة، إلا أن هذه الورقة ستبقى في إطار المناورة السياسية، المتداخلة مع الأحداث الراهنة في غزّة ولبنان، من جهة لإدانة “إسرائيل” في المحافل الدولية، ولتوفير الشرعية على المستويين: الدولي والإقليمي لأيّ ردّ إيراني محتمل، ومن جهة أخرى لتعزيز الأوراق التفاوضية في سياق أيّ حديث ممكن عن تسوية إقليمية لمجمل المواجهة القائمة الآن، بما يشمل غزّة.
فالسعي لوقف الحرب في غزّة هو أقصى ما يمكن أن يقدّمه الإيرانيون الآن من خلال الجهد الدبلوماسي، وتعزيز جبهات المقاومة الأخرى.
ثامنًا: يبقى الردّ الإيراني الضمني وغير المباشر هو من خلال تعزيز الدعم الإيراني لجبهات المقاومة القائمة الآن، وفي طليعتها الجبهة اللبنانية، وبما يدفع نحو تفعيل أعمق لهذه الجبهات، وبما يضمن إفشال الحرب الإسرائيلية على لبنان.
فتجديد مكانة حزب الله وتجديد شرعيته بالتالي، حتى على مستوى الداخل اللبناني، يتطلب نجاحًا واضحًا للحزب لا يحتمل التشكيك في صدّ العدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان، وهذا النجاح يمكن استثماره في الضغط لوقف الحرب في غزّة.
وهذا المؤشر، أي تعزيز جبهات المقاومة بالدعم الإيراني، هو ما يمكن النظر من خلاله لحقيقة الموقف الإيراني بعد جولة الردود المتبادلة الأخيرة بين إيران و”إسرائيل”.
وأخيرًا، ما يبدو في الراهن أن الردّ الإسرائيلي كان محدودًا واقتصر في أهدافه على أغراض سياسية ودعائية، ومن المؤكد أن هذا الردّ جاء تحت إدارة أميركية للمشهد برمّته.
وبالرغم من أن الوضع متداخل مع مواجهة إقليمية، سيكون لحرب الظلال دورٌ كبيرٌ فيما يخصّ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، فإن إيران، بحسب ما يُفهم من تقييمها العلني للردّ الإسرائيلي، تبدي رغبة في إغلاق هذه الجولة من الردود المتبادلة العلنية، وقد وفّرت لها محدودية الردّ الإسرائيلي هذه الفرصة.
بيدَ أن الموقف الإقليمي لإيران سيظهر في مستوى دعمها لجبهات المقاومة الفاعلة حاليًا، حيث يمكنها اعتبار هذا الدعم ردًّا غير مباشر على الهجوم الإسرائيلي، وعلى أيّ اعتداء إسرائيلي غير مرئي على المصالح الإيرانية.
ومع استمرار التوتر في المنطقة، يبقى السؤال الكبير حول ما إذا كانت إيران ستتمكن من استثمار ذلك بشكل كافٍ للضغط نحو وقف الحرب على غزة، وما إذا كان الردّ الإيراني المستقبلي سيتخذ طابعًا أكثر وضوحًا، أو سيبقى في إطار المناورات غير المباشرة؛ لتعزيز نفوذها الإقليمي دون تصعيد مباشر.