أمريكا

لماذا أخفقت واشنطن في حل أزمة الحدود الجنوبية؟

بغض النظر عمن سيتربع على كرسي الرئاسة في يناير، يتعين على واشنطن أن تصوغ استراتيجية جديدة لعصر الهجرة العالمية الحديث

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، تعد الهجرة وأمن الحدود الأميركية من بين القضايا الرئيسة التي تقض مضاجع الناخبين الأميركيين. فثمة هوة عميقة في الآراء بين الرئيس السابق دونالد ترمب ومنافسته نائبة الرئيس كامالا هاريس حول ما إذا كانت الهجرة جيدة أم سيئة للولايات المتحدة، لكنهما يتفقان على شيء واحد: كانت الحدود الجنوبية غارقة في أزمة، ونظام اللجوء الأميركي الضعيف هو المسؤول عن ذلك. عام 2022 بلغ عدد عمليات عبور الحدود غير الشرعية ذروة وصلت إلى 2.2 مليون شخص، مما أثقل كاهل مجتمعات الحدود من تكساس إلى كاليفورنيا على حد سواء، والمدن الكبرى مثل نيويورك التي استقبلت عشرات الآلاف من المهاجرين الجدد في ظل دعم محدود للغاية من الحكومة الفيدرالية. وقد أدت صور الفوضى القادمة في المدن الحدودية والأسر المحتجزة في ظروف مروعة، فضلاً عن الوجود المتزايد للوافدين الجدد الذين يفتقرون إلى السكن أو تصاريح العمل في المدن الأميركية، إلى تأجيج فتيل القلق العام في شأن الفوضى الجلية في نظام الهجرة الأميركي. وعلى رغم خفض عدد عمليات العبور غير الشرعية على الحدود الجنوبية عام 2024، فإن الشعور بالأزمة لا يزال يخيم على جميع أنحاء البلاد.

وعلى رغم أن التحديات أصبحت أكثر حدة منذ جائحة “كوفيد-19″، فإن الحدود كانت في حالة أزمة على مدى الردح الأكبر من العقد الماضي. وإزاء مواجهة الزيادة في الهجرة غير الشرعية، فشلت الحكومة الفيدرالية في كثير من الأحيان في إدارة وصول المهاجرين غير الشرعيين بصورة آمنة ومنظمة على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مما نجم عنه تحديات عملية كبرى وخلافات سياسية. وفي ظل تجلي نقاط الضعف في نظام الهجرة المتهالك في البلاد بصورة كاملة، يتساءل كثير من الجمهور الأميركي، فضلاً عن حلفاء الولايات المتحدة وخصومها، عن قدرة الولايات المتحدة على إدارة حدودها.

كانت آخر مرة تدخل فيها الكونغرس الأميركي في مسألة تحديد من ينبغي للبلاد أن تستقبل عام 1990، عندما أقر تشريعاً لزيادة عدد الأشخاص الذين يمكنهم الهجرة إلى الولايات المتحدة. وعلى مدى الأعوام الـ34 التي انقضت منذ ذلك الحين، دفعت التطورات في قطاع التكنولوجيا وسوق العمل المتنامي وشيخوخة سكان الولايات المتحدة والتغير المناخي والأزمات السياسية والإنسانية التي عصفت بنصف الكرة الغربي مزيداً من الناس إلى مغادرة منازلهم، على رغم محدودية المسارات القانونية الآمنة لأولئك الذين لديهم حاجة إنسانية أو حاجة ملحة أخرى للقدوم إلى الولايات المتحدة. واليوم تعتمد الولايات المتحدة على نظام هجرة مصمم لبلد مختلف في حقبة زمنية مختلفة.

وفي غياب الإصلاحات التي كان من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة بالتكيف مع التغيرات العميقة التي حدثت منذ عام 1990 من خلال تسهيل الهجرة القانونية، لجأ المهاجرون بصورة متزايدة إلى استخدام شبكات التهريب والمطالبة باللجوء على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك من أجل دخول البلاد. تم تصميم نظام اللجوء في الولايات المتحدة لتقديم شكل محدود من الحماية للأشخاص الفارين من الاضطهاد. بيد أنه وفي ظل عدم وجود أي سبل قانونية أخرى لدخول الولايات المتحدة، بات هذا النظام الخيار الوحيد للمهاجرين الذين نزحوا لأسباب عديدة.

في غياب أي تحرك من جانب الكونغرس لمعالجة المصدر الحقيقي للأزمات الحدودية الناتجة من ذلك، متمثلة في قوانين اللجوء والهجرة البالية في الولايات المتحدة، عالجت الإدارات من كلا الحزبين المشكلة من جانب واحد، إذ عمدت لإصدار استثناءات لقانون اللجوء الحالي لرفض الأشخاص من دون التدقيق في طلبات الحماية الخاصة بهم. يعد الجمهوريون بإغلاق الحدود من خلال منع جميع طالبي اللجوء من دون استثناءات، في حين يريد الديمقراطيون حصر اللجوء بالأشخاص الذين يسعون إلى الحصول على إذن مسبق للدخول عبر نقاط الدخول، مما يجبر الناس على الانتظار في المكسيك بغض النظر عن التهديدات التي قد يواجهونها.

لكن التركيز على منع المهاجرين من تقديم طلبات اللجوء يقوض المناقشة حول الهجرة ويحد من طيف خيارات الحلول السياسية، وذلك أن نظام اللجوء المثقل ليس سبب أزمة الحدود وإنما هو نتيجة لفشل الولايات المتحدة في تطوير استجابة متماسكة للتحولات العالمية في الهجرة غير النظامية.

فمنذ عام 2010، أدى عدم الاستقرار المتزايد في نصف الكرة الغربي إلى نزوح ما يصل إلى 25 مليون شخص، بما في ذلك ثمانية ملايين من فنزويلا وحدها. وقد استجابت الولايات المتحدة بالتراجع عن التزامها حق اللجوء الإقليمي والتعهد مزيداً من مسؤولياتها في مجال الهجرة إلى بلدان أخرى. لكن هذه الجهود لم تفلح بما يكفي لوقف حركة الأشخاص غير الشرعية إلى الولايات المتحدة أو استعادة ثقة الجمهور في قدرة واشنطن على ضبط الحدود.

نظام اللجوء ينهار تحت وطأة ثقله.

علاوة على ذلك، أدت سنوات الفوضى على الحدود إلى إذكاء كراهية الأجانب في وقت يحتاج فيه الاقتصاد الأميركي إلى المهاجرين أكثر من أي وقت مضى. وإن نحو 55 في المئة من الأميركيين يؤيدون الآن الحد من الهجرة إلى الولايات المتحدة، وهي أعلى نسبة منذ الأشهر التي أعقبت الهجمات الإرهابية في الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001. وفي الوقت عينه، تظهر الولايات المتحدة أولى علامات تراجع عدد السكان، وقد قرر خبراء الديموغرافيا أنه من دون الهجرة الإضافية، سيستمر عدد السكان ممن هم في سن العمل في البلاد في الانكماش، وكذلك الاقتصاد الأميركي. ولكن بغية تعزيز إصلاحات الهجرة التي تشكل أهمية بالغة للنمو الاقتصادي، مثل تحديث أنظمة التأشيرات العائلية والتأشيرات القائمة على التوظيف وإنشاء مسار للحصول على الجنسية للمهاجرين غير المسجلين، يتعين على صناع السياسات الأميركيين أن يعالجوا بصورة صحيحة المخاوف العامة في شأن الحدود وإخفاقات نظام الهجرة الأميركي الحالي.

ولكي يتمكن صناع السياسات في الولايات المتحدة من التحكم بالسردية الخاصة بأزمة الحدود، يتعين عليهم في المقام الأول أن يعترفوا بأن سياسة الهجرة هي قضية خارجية وداخلية وأن السياسات التي تعمل على استقرار الأشخاص العابرين لا تقل أهمية عن السياسات التي تحكم الحدود. كما يتعين على واشنطن أن تعترف أيضاً بأنه لا يمكن تحقيق الحد من الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية بصورة مستدامة من خلال تشديد قواعد اللجوء فحسب، لأن كل قيود اللجوء التي فُرضت في السنوات الـ10 الماضية مهدت الطريق أمام زيادة عدد عمليات عبور الحدود غير الشرعية بمرور الوقت. والولايات المتحدة في حاجة إلى نظام قانوني جديد لا يتفاعل بمجرد وصول الناس إلى الحدود، وإنما إلى نظام يعالج بصورة شاملة الحوافز والافتقار إلى طرق بديلة آمنة تستقطب الناس إلى الحدود في المقام الأول.

ومع بقاء الطلب على المهاجرين، وأعدادهم على حد سواء، مرتفعة بصورة غير عادية، تتمثل الطريقة الوحيدة في الحد من الهجرة غير الشرعية في توسيع الحماية وفرص العمل الإقليمية للنازحين في نصف الكرة الغربي، وتسهيل الهجرة القانونية من خلال زيادة مسارات الدخول إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن تحديث البنية الأساسية على الحدود، وتحسين دمج المهاجرين بمجرد وصولهم. وهذا النوع من استراتيجية الهجرة المتعددة الجوانب هو وحده الكفيل بمساعدة البلاد على الابتعاد عن النهج الفاشل الذي اتبعته في العقد الماضي.

اللجوء ليس “كل شيء أو لا شيء”

حتى الآن، اعتمدت الولايات المتحدة على نظام لجوء عفا عنه الزمن لإدارة الهجرة غير النظامية. لكن النظام ينهار تحت وطأة ثقله. فبموجب القانون الحالي، عندما يقوم المهاجرون بعمليات عبور الحدود غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، يمكنهم الادعاء بأنهم يخشون التعرض للاضطهاد إذا عادوا إلى بلدهم الأصلي وتقديم طلب اللجوء كدفاع في إجراءات إبعادهم في محكمة الهجرة. وقد تستغرق هذه العملية، المعروفة باسم “اللجوء الدفاعي”، سنوات لحلها: ونما عدد القضايا المتراكمة من 100 ألف قضية عام 2014 إلى مليون قضية عام 2024 حيث تقدم مزيد من الأشخاص بطلبات اللجوء دونما زيادة مقابلة في الموارد أو الموظفين للبت في هذه القضايا بكفاءة. وبعد سنوات من الانتظار في دوامة الفراغ القانوني، يتم رفض أو رد طلبات معظم المهاجرين، الذين يمثل عديد منهم أنفسهم في إجراءات قانونية معقدة للغاية من دون محام يرافع عنهم. تلحق هذه العملية المطولة الضرر بالأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إلى الحماية الإنسانية، مما يجعل من الصعب على نحو متزايد الاحتفاظ بالأدلة على اضطهادهم أو الاستجابة للتحولات في قواعد أهلية اللجوء عبر مختلف الإدارات.

بيد أن غياب السبل البديلة دفع بعديد من المهاجرين إلى محاولة دخول الولايات المتحدة عبر نظام اللجوء، حتى ولو كان ذلك ينطوي على رحلة خطرة ذات عواقب غير مؤكدة وحتى لو أنهم لم يستوفوا معايير اللجوء بحسب ما تفهم من المنظور التقليدي. وبالنسبة لملايين النازحين الذين قد لا يستوفون الحد القانوني المرتفع للحماية ويفتقرون إلى مسارات قانونية أخرى متاحة، فقد يكون طلب اللجوء على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك السبيل الوحيد لدخول الولايات المتحدة للعثور على عمل أو لم شمل الأسرة.

لم يصمم نظام اللجوء في الولايات المتحدة للتعامل مع هذا التدفق من المهاجرين من نصف الكرة الأرضية أو للبت في مئات الآلاف من الطالبات كل شهر، وإنما كان مصمماً ليكون خيار حماية طارئة للأشخاص الفارين من الاضطهاد. من ثَم، فإن المؤسسات والأفراد والإجراءات الأميركية على الحدود مجهزة في المقام الأول لإعادة المهاجرين على جناح السرعة من دولة مجاورة تقبل مواطنيها العائدين، وليس لتمحيص الأشخاص القادمين من دول غير مجاورة بحثاً عن طلبات لجوء محتملة. وفي ظل غياب البنية الأساس المناسبة لمعالجة حالات المواطنين غير المكسيكيين، تم إطلاق سراح المهاجرين من الاحتجاز إلى الولايات المتحدة من دون أي تنسيق يذكر بين الحكومة الفيدرالية والمجتمعات التي تستقبلهم، في ظل نظام محدود لإدارة الإبعاد العادل في الوقت المناسب للأشخاص غير المؤهلين للحصول على الحماية الإنسانية.

في الوقت الراهن، تخلت الولايات المتحدة إلى حد كبير عن محاولة جعل نظام التماس اللجوء يعمل بكفاءة على واحدة من أطول الحدود البرية في العالم. كان أحد اقتراحات مجلس الشيوخ الذي صيغ في وقت سابق من هذا العام يهدف إلى تسريع العملية، لكنه فشل مع ذلك في معالجة المشكلة الأساسية، من خلال إبقاء اللجوء خياراً قانونياً وحيداً لمعظم المهاجرين (تم تأجيل الاتفاق في نهاية المطاف بعد أن ضغط ترمب على الجمهوريين لمنع مشروع القانون). فقد حجبت المناكفات السياسية حقيقة أساس: لا يحتاج صناع السياسات في الولايات المتحدة إلى توسيع أو التخلي عن التزام البلاد باللجوء الدفاعي، فهم في حاجة فقط إلى التوقف عن التفكير فيه باعتباره السبيل الأساسي لمعالجة المهاجرين المحتملين إلى الولايات المتحدة.

إقرأ أيضا : لماذا يرى أردوغان أن إسرائيل أصبحت تهديدًا كبيرًا لتركيا الآن؟

من أزمة إلى أزمة

لم تعالج الجهود التي بذلتها إدارات أوباما وترمب وبايدن لحل أزمة الحدود بصورة كافية دوافع الهجرة، فضلاً عن العيوب المتأصلة في نظام اللجوء الأميركي والبنى التحتية الحدودية البالية في البلاد. وعندما وجدت واشنطن نفسها إزاء حالة طوارئ حدودية، استجابت بصورة عامة عبر الجمع بين قيود اللجوء وإبرام الاتفاقات الدبلوماسية الموقتة مع دول أخرى لاعتقال المهاجرين واحتجازهم وترحيلهم قبل وصولهم إلى الولايات المتحدة. ولم ينطوِ هذا النهج على عواقب وخيمة على حقوق المهاجرين الإنسانية فحسب، إذ عرضهم ذلك للاختطاف والاعتداء الجنسي والموت، وإنما فشل كذلك في الحد من الاتجاه التصاعدي المستمر منذ عقود في أعداد الوافدين، ولم يحقق سوى تخفيضات قصيرة الأجل في أفضل الأحوال.

حدثت أولى هذه الأزمات الحدودية الحديثة عام 2014. في ذلك الوقت، كنت أعمل مستشارة لشؤون السياسات في وزارة الأمن الداخلي الفيدرالية. عام 2016 وصلت الأسر والأطفال غير المصحوبين بذويهم من أميركا الوسطى، ممن نزحوا بعد سنوات من العنف الإجرامي والاضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية، إلى الحدود الجنوبية وطلبوا اللجوء بأعداد غير مسبوقة. وفي مسعى لردع مزيد من موجات الهجرة، وسع الرئيس باراك أوباما احتجاز العائلات، فاشترط على الآباء وأطفالهم، الذين غالباً ما يكونون رضعاً أو أطفالاً صغاراً، البقاء رهن الاحتجاز لأسابيع، أثناء فحص اللجوء الأولي الخاص بهم. وعلى الصعيد الدبلوماسي، عملت الإدارة أيضاً مع المكسيك لتعزيز جهود الترحيل، مما أدى إلى خفض أعداد المهاجرين الذين يتم مواجهتهم على الحدود. ولكن على رغم أن هذه الاستجابة المشتركة للسياسة الداخلية والخارجية بدت وكأنها حققت بعض النجاح الأولي، فإن الهجرة غير النظامية عاودت الارتفاع مرة أخرى بحلول عام 2016.

السياسة والمجتمع الأميركيين في مرمى الهجرة المسلحة على نحو فريد

اتبع ترمب، بصفته رئيساً، نهجاً متطرفاً في التعامل مع الهجرة غير النظامية. وقد اعتمدت القيود التي فرضتها إدارته على اللجوء على معاقبة المهاجرين لفشلهم في طلب الحماية الإنسانية في بلدان أخرى ليس لديها في الواقع أنظمة لجوء فعالة. كانت إحدى السياسات تقتضي من طالبي اللجوء العيش في المكسيك حتى موعد جلسات الاستماع الخاصة بهم، مما أدى إلى احتجاز أكثر من 60 ألف شخص في بعض أخطر المدن في العالم. كما سعى ترمب إلى اتخاذ أشد الإجراءات تطرفاً لردع المهاجرين: تعمد فصل الأطفال عن والديهم من دون بذل أي جهد لإعادة لم شملهم. وإضافة إلى ذلك، عندما ضربت جائحة “كوفيد-19” عام 2020، استند ترمب على المادة 42 من قانون الصحة العامة للسماح لوزارة الأمن الداخلي بطرد المهاجرين إلى المكسيك أو بلدانهم الأصلية من دون تمحيص طلباتهم للحماية الإنسانية.

لكن حتى التدابير التقييدية مثل تفعيل المادة 42، التي أبقاها الرئيس جو بايدن سارية خلال أول عامين من رئاسته، فشلت في تحقيق خفض في الهجرة غير النظامية. طردت الحكومة الأميركية 2.8 مليون مهاجر بموجب المادة 42، وبمجرد تعليق العمل بهذه السياسة في مايو (أيار) 2023، حاول بايدن تكرار حظر ترمب على ملتمسي اللجوء الذين فشلوا في طلب الحماية على طول طريق الهجرة. ومع ذلك، فشلت هذه السياسة في الردع، وبحلول ديسمبر (كانون الأول) 2023، وصلت عمليات العبور غير الشرعية عبر الحدود إلى ذروتها عند 300 ألف شخص في شهر واحد، وهو أعلى رقم مسجل منذ بدأت إدارة الجمارك وحماية الحدود الأميركية في تتبع هذه البيانات عام 2000.

تحت ضغط من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، فرض بايدن قيوداً إضافية على الوصول إلى اللجوء هذا العام، وقصر حق اللجوء الدفاعي على نظام القرعة الذي يتم تشغيله من خلال تطبيق الهاتف “CBP One”. يشوب هذه السياسة العيب القاتل نفسه الذي شاب كل قيود اللجوء السابقة: فهي تعتمد بالكامل على قدرة المكسيك على اعتقال المهاجرين واحتجازهم قبل وصولهم إلى حدود الولايات المتحدة. ففي الأشهر الستة الأولى من عام 2024 وحده، ألقت المكسيك القبض على أكثر من 700 ألف مهاجر، أي ثلاثة أضعاف العدد في العام السابق، لكنها تفتقر إلى القدرة على ترحيلهم. وتشير التقارير الواردة من المكسيك إلى أن هذه الجهود الرامية إلى فرض القانون انطوت على عواقب إنسانية وخيمة، إذ تعرض المهاجرون للعنف الإجرامي أثناء نقلهم من شمال المكسيك إلى جنوبها لمنعهم من الوصول إلى الحدود مع الولايات المتحدة. وبذلك يظل الخفض الحالي في الهجرة غير الشرعية مرهوناً بقدرة دولة أخرى، واستعدادها، لاحتجاز مئات الآلاف من الأشخاص بأي وسيلة ضرورية.

بطاقة الهجرة

تعاملت الإدارات السابقة إلى حدّ كبير مع إدارة الحدود باعتبارها قضية سياسية محلية، لكن أزمة الحدود تقوض السيادة الوطنية للولايات المتحدة وسلامتها ومكانتها في العالم. وإنه لمن عادة الحكومات الاستبدادية استغلال الهجرة لأغراض سياسية، إذ يقوم المستبدون بنقل مجموعات كبيرة من المهاجرين إلى حدود دولة أخرى أو إلى مجتمعات محددة لزرع الفوضى وتغذية المشاعر اليمينية، وهو التكتيك الذي تبناه أيضاً بعض الحكام الجمهوريين في الولايات المتحدة.

وبالنظر لعجز الولايات المتحدة عن إدارة عملية تنظيم المهاجرين على حدودها أو إدارة إعادة توطينهم بصورة منظمة في البلاد، فإن السياسة والمجتمع الأميركيين معرضان بصورة فريدة للهجرة المسلحة. توحي صور الفوضى المقبلة من الحدود الجنوبية إلى خصوم الولايات المتحدة أن المهاجرين غير النظاميين يمكنهم أن يتسببوا في إحداث أزمة داخلية واسعة النطاق ودائمة، فضلاً عن مفاقمة التوترات العرقية والإثنية. وقد انتبه الزعماء الاستبداديون إلى هذا الأمر: فعلى سبيل المثال، قال الرئيس النيكاراغوي دانييل أورتيغا إنه يريد ابتزاز الولايات المتحدة عبر السماح للمهاجرين من أفريقيا وآسيا بالسفر جواً إلى بلاده ثم التوجه نحو الحدود الأميركية، مما يخلق اتجاهات جديدة للهجرة يمكن استخدامها كورقة مساومة لانتزاع التنازلات من واشنطن.

وعلاوة على ذلك، فشلت البلدان في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في التكيف مع اتجاهات الهجرة غير النظامية هذه، إذ سمحت عديد منها لأعداد كبيرة من المهاجرين بالمرور في طريقهم إلى الولايات المتحدة من دون بناء سبل قانونية خاصة بها، وأنظمة لجوء، وأنظمة لإنفاذ قوانين الهجرة استجابة لذلك. وقد استفادت بعض البلدان مالياً من نمو شبكات التهريب، مما ثبط حافزها لضبط حدودها. لا يمكن للولايات المتحدة أن تتأمل التمكن من إقناع الدول الأخرى بمنافع تحديث أنظمة الهجرة لديها إلا بعد أن تستعيد السلطة على إدارة حدودها البرية.

مساعدة المهاجرين على مساعدة أنفسهم

توحي الابتكارات السياسية في ظل إدارة بايدن بمسار محتمل للمضي قدماً. ففي عهد بايدن، وضعت الولايات المتحدة سبل قانونية جديدة للمهاجرين من دول مثل كوبا وهايتي ونيكاراغوا وفنزويلا التي تتطلب من المهاجر المحتمل العثور على كفيل مقيم في الولايات المتحدة. وبعد التحقق، يسمح للمهاجر بشراء تذكرة للسفر إلى مطار أميركي مخصص والعمل والعيش بصورة قانونية في الولايات المتحدة لمدة عامين. وبحسب بيانات وزارة الأمن الداخلي، فقد نجح هذا النموذج في الحد من عبور المهاجرين غير الشرعيين للحدود من هذه البلدان بنسبة 99 في المئة، مما يعد نتيجة مذهلة. وينبغي لصناع السياسات في الولايات المتحدة أن يبنوا على نجاح هذا النهج من خلال خلق سبل جديدة أخرى للدخول من شأنها تلبية حاجات العمالة في البلاد، ومساعدة الناس على لم شملهم مع أفراد أسرهم، وحماية المهاجرين الذين قد لا يكونون مؤهلين كلاجئين من الناحية القانونية ولكنهم لا يزالون غير قادرين على العودة إلى بلادهم.

كما يمكن للسلطات الأميركية جعل نظام اللجوء أكثر تنظيماً من خلال إصلاح تطبيق “CBP One”، وهو التطبيق المحمول الذي يسمح للمهاجرين بالدخول في قرعة من أجل الحصول على موعد لدخول الولايات المتحدة عبر نقطة دخول رسمية، بدلاً من العبور غير الشرعي. وفي الوقت الحالي، يعمل تطبيق “CBP One” كآلية لتخفيف الضغط، إذ يقوم بتوزيع المواعيد اليومية، وتسجيل الأشخاص في إجراءات الإبعاد بمجرد دخولهم البلاد، وإلحاقهم في قائمة محكمة الهجرة المطولة المكتظة. وفي حال أدى استخدام التطبيق إلى تحقق في الوقت المناسب من قبل مسؤول اللجوء، بدلاً من الانتظار لشهور في المكسيك، فقد يساعد ذلك في إعطاء أولوية الوصول إلى الحدود البرية للولايات المتحدة للأشخاص الذين لديهم مطالبات مستحقة بالحماية الإنسانية. وبمرور الوقت، من شأنه أن يثبط التصور الواسع النطاق بين المهاجرين المحتملين بأن السفر إلى المكسيك والانتظار للحصول على موعد سيضمن الدخول إلى الولايات المتحدة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال زيادة توافر المواعيد اليومية وتعيين موظفي اللجوء لتقييم مزايا طلبات اللجوء المقدمة عند نقاط الدخول.

وبمنأى عن تحسين الإجراءات المعمل بها على الحدود، يجب أن تهدف استجابة واشنطن حيال زيادة الهجرة إلى تحفيز الحكومات الإقليمية والقطاع الخاص وجماعات المجتمع المدني على تعزيز كل من الوضع القانوني وفرص العمل للأشخاص النازحين داخلياً أو الذين هم في طور الانتقال بالفعل، بدلاً من الاعتماد البحت على المساعدات الأجنبية لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة قبل أن يقرر الناس المغادرة. وقد وجدت الدراسات أن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الرامية لزيادة الاستقرار الاقتصادي للمهاجرين المحتملين لم تحل دون الهجرة غير النظامية، بل منحتهم الموارد اللازمة للمغادرة، لا سيما في الحالات التي يغدو فيها من المستحيل البقاء في بلدانهم جراء الظروف السياسية. وعلاوة على ذلك، يتعين على الولايات المتحدة أن تستخدم استثمارات مالية موجهة لمساعدة الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة على بناء أنظمة لجوء قوية وأنظمة هجرة قوية لإدارة حدودها.

نبغي على الولايات المتحدة كذلك أن تعطي الأولوية لتوسيع البدائل القانونية التي من شأنها جعل السفر إلى الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك خيار الملاذ الأخير. وقد اتخذت إدارة بايدن خطوة في هذا الاتجاه من خلال إنشاء “مكاتب الحركة الآمنة” في كولومبيا وكوستاريكا والإكوادور وغواتيمالا. وتسعى هذه المكاتب إلى إعادة توجيه المهاجرين المحتملين نحو المسارات القانونية، سواء في الولايات المتحدة أو في البلدان المستقبلة الأخرى. تعد “مكاتب الحركة الآمنة” نموذجاً لما قد يبدو عليه النظام الحديث، ولكنها لن تنجح إلا في حال تم توفير طرق قانونية إضافية للدخول، وإلا فإن الناس سيستمرون في اللجوء إلى شبكات التهريب للوصول إلى الحدود الجنوبية.

وبهدف منع موجات الهجرة غير النظامية في المستقبل من زعزعة استقرار السياسة الأميركية، تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى نظام تنسيق فيدرالي قادر على التوفيق بين الوافدين الجدد، لا سيما أولئك الذين يصلون من دون رعاة أو روابط عائلية، والمجتمعات التي تتمتع بالقدرة على استضافتهم. ومن المنظور التاريخي، فقد استفاد عديد من المهاجرين، بمن فيهم عائلتي، التي دخلت الولايات المتحدة إبان عشرينيات القرن الـ20 إلى جانب مهاجرين مكسيكيين آخرين استجابة للحاجة إلى عمال في أريزونا، من وجود مجتمعات الشتات التي ضمنت للمهاجرين الحصول على السكن والشبكة الاجتماعية عند وصولهم. وفضلاً عن زيادة فرص الرعاية للأفراد، وحتى دعم حكومات الولايات التي تريد توظيف المهاجرين، يتعين على الحكومة الفيدرالية أن تتحمل مسؤولية أكبر في إدارة اندماج طالبي اللجوء الذين تقبلهم على الحدود من خلال برامج إعادة التوطين الفيدرالية التي تضع المهاجرين في مجتمعات يتوفر فيها السكن والوظائف التي لا يمكن شغلها من قبل العمال الأميركيين.

وفي نهاية المطاف، ليس بوسع الولايات المتحدة تأمين حدودها إذا كانت تفتقر إلى البنية الأساسية اللازمة لمعالجة المهاجرين بأمان وسرعة، بغض النظر عن مكان وصولهم. كما أن الاعتماد على البنية الأساس القائمة فقط سيحول الموارد عن حاجات أمنية ملحة أخرى. ومن شأن بناء نقاط دخول جديدة ومراكز حديثة لمعالجة طلبات اللجوء أن يساعد في ضمان أمن البلاد وضمان التحقق الآمن من الأشخاص الذين يسعون إلى الوصول إلى نظام الهجرة الأميركي.

وبغض النظر عمن سيتربع على كرسي الرئاسة في يناير، يتعين على واشنطن أن تصوغ استراتيجية جديدة لعصر الهجرة العالمية الحديث. وبينما يتصور صناع السياسات في الولايات المتحدة استجابة مستقبلية للحدود، فإنهم يستطيعون اختيار استنساخ الإطار الفاشل الحالي أو تبني إطار جديد، وتوسيع نطاق السياسات التي أثبتت فعاليتها في منع الهجرة غير النظامية مقارنة بالقيود الموقتة المفروضة على اللجوء. ومن شأن هذا أن يسمح للولايات المتحدة بتسخير فوائد الهجرة، وضبط حدودها، والحفاظ على قيمها كدولة لجوء، وخلق نتائج أفضل للأميركيين والمهاجرين على حد سواء.

نقلا عن فورين أفيرز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى