للسودانيّين خمسون طيفاً من الأسود
في كل العالم، يكون الإنسان أبيض أو أسود، مع فروقات خفيفة، غالباً ما يحمل امتيازات في الأولى وتعقيدات في الثانية، فالشخص الأسود ضحية عرقية أبدية، فهو مُدان بالنقص حتى يثبت العكس، بينما لا يزال العرب السود لهم مواطنة من درجات دنيا في مختلف البلدان الخليجية والشامية، ووصم بأنهم نتاج هجرات أفريقية قديمة، أو نسل “ما ملكت أيمانكم” من الجواري.
فالسود في بلدان العالم الأول يتأرجحون بين المبالغة في تعويضهم، تحقيقاً لأهداف التنوّع العرقي المُطالب بها في شتى الوظائف والمناصب، وبين الحكم المسبق عليهم وربطهم بالفقر وعوالم الجريمة، وعنصرية باقية من نظام حكم ماض كان مُشرّعاً للعبودية.
بينما في السودان، كبلد أفريقي مترامي الأطراف، متعدّد القبائل ومختلط الأعراق، يتم اعتبار كل أهلها سود في نظر العالم، ومن هذا الاعتبار كان اسمها جمعاً لكلمة أسود، كما ورد في معاجم اللغة.
وللمفارقة، لا يكاد السودانيون يستخدمون وصف “أسود” في وصف لون البشرة على الإطلاق!
فقط يسكون الباذنجان بـ “أسود”، فتغدو سلطة “البابا غنوج”، بنسختها السودانية، “سلطة أسود”، أما فيما يختصّ بوصف لون البشرة، فللسودانيين خمسون طيفاً من اللون الأسود.
يُدعى السوداني شديد البياض “أحمر”، كناية عن اكتساب بياضه حمرة يمتاز بها الشخص شديد بياض البشرة، ويُدعى أحياناً “حلبي”، نسبة لجاليات سورية كانت قد هاجرت قديماً إلى السودان. يعمّ الوصف وإن اختلف الأصل، فيشمل ذلك السودانيين من الأصول المصرية كذلك، وكل من اقتصر وجود صبغة الميلانين لديه على شعره.
وهنالك السوداني “الأصفر”، وهو يختلف عن ذلك المصاب بالصفراء لعلّة في الكبد، المقصود هنا من تشرّب بياضه ببعض صفار، كاللون الغالب لأهل الخليج. يحمل هذا اللون امتيازات اللون الأبيض المعهودة عالمياً، والصورة المثلى للجمال، مع امتياز إضافي عن “الحلبي” لافتراض ضمان نقاء الأصل السوداني فيه.
ثم يأتي اللون الخمري أو القمحي، وهو أول أطياف السمار وما راق منه.
تزيد صبغة الميلانين، فيأتي الشخص “الأخضر”، فاللون الأخضر لا يقتصر على المخلوقات الفضائية والنباتات فقط في بلادي، إذ يُقال في وصف إحداهن بأن “خضرتها رويانة”، بمعنى أنها بشرتها السمراء نضرة، إسوة بالثمار إذا ارتوت ونضرت.
ثم أخيراً، يأتي الشخص الأزرق، وهو -بخلاف السنافر- الشخص حالك السواد، كليل فان جوخ الذي اكتسبت سماؤه زرقة، ويقع على هذا الطيف ما يقع على الأسود حول العالم، فلأطياف اللون الأسود امتيازات، تفاضل وعنصرية.
سمعت كثيراً كيف يُدعى الشخص “الأزرق” بـ “العبد” على سبيل المزاح السمج الذي يقع على مسامعي كوقع كلمة “زنجي” بلفظها الإنجليزي على الأمريكي الأسود، الكثير من التعليقات الهامسة عن التشكيك في أصل عروبته، تحليل لشكل أنفه ومدى تجعّد شعره، وهي أمور يعدها بعض السودانيين في دقة التحليل الجيني العرقي.
يتم ربط الشخص الأزرق، من قبل بعض الأطياف المغايرة، بقبائل معينة وبدول جوار أفريقية كمحاولة إثبات عروبة خالصة ونفي أفرقة بلاد السود، تُرفض الزيجات وما يشذّ عن القاعدة المجتمعية، إذ لن ينجو من تعليقات هامسة أو مختبئة خلف حسابات التواصل الاجتماعي: “كيف بت العرب يدوها العبد دا”.
يتشبّث السودانيون بالعروبة وبنسب مزعوم لخلفاء راشدين، يعتبر السؤال عن القبيلة من الثوابت المجتمعية، ولا استغراب من طلب شاب متعلّم ومثقف لزوجة لا صفات لها سوى أنها “بيضاء وذات شعر طويل”، وتحت ضغط معايير الجمال، تلجأ الكثير من الفتيات لاستخدام عقاقير الكورتيزون التي من ضمن آثارها الجانبية أنها تقلل من إفراز صبغة الميلانين وتسبب احتباس الماء في الجسد، فيغدو “روياناً”، وتعتبر مستحضرات التقشير والتبييض من الضروريات لمعظم الفتيات في عمر الزواج.
يسخر البعض من عروس صفراء إن كان أبناؤها لن يحملوا لون إصدارها الحديث- الذي يسرّ الناظرين- بل لون بشرتها الأبنوسي الأصلي، ويعتبر كل من والديّ فاتحي اللون ومتصدرين لمعايير الجمال المتوارثة، شقيقي الأكبر قمحي اللون وشقيقتي الكبرى صفراء، فأتيت أنا مخالفة للتوقعات وللسيادة الجينية، “خضراء” تحديداً، أو “زرقاء” كما دعاني والدي في خطابه غير المرسل، والذي غدى الآن الأثر الوحيد الخاص بي الباقي لي منه، ذلك وفصيلة دمي وميولي الأدبية على كل حا
أدين لوالدي بأنني أحب لوني، وبأنني أكره التقاط صوري باستخدام المؤثرات الجمالية في وسائل التواصل الاجتماعية.
أتيت من المدرسة يوم حزت على تقرير شهري كامل الدرجة باكية، لأن زميلتي السعودية -الصفراء- “معدية”، قالت لي يا “عبدة”، ونحن نهم بالخروج من المدرسة.
جعلتني أمي أقتنع بأنها تغير من تميّزي الدراسي، من عيني الجميلتين ومن حاجبي المقترنين بخفة وشعري الطويل.
كبرت وأنا مؤمنة بأني جميلة، أقدس شعري ولا أقصه، أرى عيني جميلتين وإن لم أسمع هذا الثناء من غير أمي، فقدت اقتران حاجبي الخفيف بتشذيبهما المستمر، وأرفض استخدام مستحضرات التبييض، متجاهلة اقتراحات قريباتي وتلميحاتهن.
فأنا أرى وراء ما تراه كل “معدية” وما لا يراه أستاذي الجامعي الذي كان يناديني بـ “شوكلاتة” عوضاً عن اسمي، فابتسم على مضض مذكرة إياه باسمي كل مرة، وما لا تراه تلك العابرة في مصر والتي قالت لي مُلاطفة: “لا بس أنتو قلبكو أبيض وجميل”، دلالة أن ذلك قد يعوّض عن قبح اسمرار بشرتنا.
أرى أننا جميعاً أكثر وأشمل وأعمق من مدى تركيز صبغة الميلانين في نسيجنا الطلائي، وأنه يجب أن لا يكسبنا زيادته أو نقصانه دونية أو امتيازات، تحت أي ظرف من الظروف.
لا أدّعي بأني أعي ما يتعرّض له السودانيون “الزرق” من أحكام مسبقة وتصنيف عرقي قاس على مرّ سنوات طوال، ولكن أكسبتني تجربتي، كأقلية سمراء في بلاد خليجية، أو طفلة “خضراء” لأبوين “صفراوين”، رؤيا وقناعة أتمنى أن يتغلّبا على موروثات عقيمة.
ولكم آمل، بعد أن نتعافى من هذه الحرب، أن نتطهّر من إرث الامتيازات العرقية والقبائلية التي باركها نظام الحكم السابق وهو يحلّل إبادة قبائل غرب السودان وجنوبه، إذ أشعر أحياناً أن الخرطوم تُجازى عن صمتها عما كان يجري في دارفور بصمت العالم عما يجري الآن فيها.