ملفات فلسطينية

لعبة خطرة في فلسطين: الصراع الديني بدل القومي

لا مجال للرهان على "وحدة الساحات" من خارج الشرعية العربية لتحرير فلسطين، بصرف النظر عن متطلبات المشروع الإقليمي الإيراني.

هل انتهت بالفعل حقبة الطابع القومي للصراع العربي-الإسرائيلي، وبدأت على نطاق واسع حقبة الطابع الأيديولوجي الديني للصراع؟ هل ما نراه هو مجرد تطور للأحداث في ضوء التجارب الصعبة أم عودة إلى الوراء؟ وهل هو لمصلحة فلسطين والعرب أم أنه أمر مصنوع ومبرمج على يد طرفين يتصور كل منهما أنه في خدمة مشروعه: مشروع إقليمي إيراني أكبر من فلسطين وقضيتها، ومشروع احتلالي اسمه إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر؟

هذا، مع الأسف، ما ترتفع أصوات داعية إليه ومبررة له بحجج عدة أبرزها أربع: الأولى أن الدول العربية التي خاضت الحروب، والقوى القومية واليسارية التي مارست المقاومة، فشلت في تحرير فلسطين وتكيفت مع التسويات. والثانية أن الصراع ليس فقط مع إسرائيل بل أيضاً مع الغرب وكل القوى الدولية الداعمة للكيان الصهيوني والتي ترى في التسويات مرحلة ضرورية تخدم الأنظمة والاستقرار في المنطقة ومصالح القوى الدولية ونفوذها. والثالثة أن المقاومة الجذرية المستمرة إلى النهاية تحتاج إلى منظمات أيديولوجية دينية تكمل الطريق إلى تحرير فلسطين مهما تكن الصعاب والعوائق. والرابعة أن المعركة أكبر من أي طرف بمفرده، ولذلك تحتاج إلى “محور مقاومة” يضم فصائل أيديولوجية مسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة والضفة الغربية تعمل ضمن “وحدة الساحات” بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران.

والأمثلة العملية حاضرة، في رأي دعاة الأيديولوجيا الدينية. تجربة “حزب الله” الذي نجح في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة، ولعب دوراً مهماً في حرب سوريا إلى جانب النظام، وفتح جبهة الجنوب لإسناد “حماس” في حرب غزة. تجربة “حماس” في عملية “طوفان الأقصى” التي زلزلت إسرائيل، ثم في مواجهة الجيش الإسرائيلي داخل غزة، بحيث أعادت الزحم إلى قضية فلسطين في عواصم أوروبا وفي الجامعات الأميركية. وتجربة الحوثيين في منع السفن المتجهة إلى إسرائيل من عبور باب المندب والبحر الأحمر والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، والتي فشلت أساطيل أميركا وأوروبا في التأثير في القرار فيها لدى “أنصار الله” الحوثيين في اليمن.

وكما ركز الإخوان المسلمون والفصائل المسلحة المرتبطة بإيران على الطابع الديني للصراع، كذلك فعل الإسرائيليون وداعموهم. رجب طيب أردوغان سارع إلى القول إن المواجهة الدائرة في غزة وفلسطين هي “مسألة هلال وصليب”. إيران تحدثت عن أهمية القتال تحت راية “التكليف الشرعي”. نتنياهو استعاد أساطير التوراة عن إشعيا والعماليق. الحاخامات أصدروا فتاوى تجيز قتل المدنيين.

السيناتور ليندسي غراهام قال: “نحن في حرب دينية وأنا مع إسرائيل”. ومايك جونسون رئيس مجلس النواب الأميركي هو من تيار في الحزب الجمهوري يدعي أن “الإنجيل يدعو المسيحيين إلى الوقوف مع إسرائيل كواجب مقدس على الطريق إلى العودة الثانية للمسيح”. حتى جوزيب بوريل المسؤول الأعلى عن السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فإنه أعلن أن “الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني لم يعد صراعاً عربياً- إسرائيلياً بل هو صراع ديني حضاري”. وهناك من أعاد التذكير بمذكرات شارون التي جاء فيها “إن مشكلات جيلي وجيل أبنائنا وأحفادنا بدأت مع فقدان العلاقة بالجذور والتصرف كإسرائيليين، لا كيهود لديهم تاريخ وأساطير”.

لكن كل هذا لا يحجب الحقيقة. فالنزاع الفلسطيني- الصهيوني أخذ منذ البدء طابع الصراع القومي العربي مع الصهيونية. حتى قبل قيام إسرائيل، فإن المقاتلين العرب تطوعوا للقتال في فلسطين: الشيخ عز الدين القسام من جبلة السورية الذي سمت “حماس” كتائبها المسلحة باسمه. فوزي القاوقجي من طرابلس في لبنان. ضباط ومناضلون من سوريا كان بينهم أديب الشيشكلي وأكرم الحوراني. وعام 1948، فإن الجيوش العربية هي التي دخلت إلى فلسطين لمنع قيام إسرائيل، وهي التي تعرضت لهزيمة كبيرة في حرب 1967، وسجلت نوعاً من النصر في حرب 1973. ولا يبدل في الأمر أن الخطوة الأولى للتخلي عن الطابع القومي للصراع هي إعلان “القرار الفلسطيني المستقل” على يد الرئيس ياسر عرفات.

ويروي المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف أن “عصابات الهاغاناه والأرغون وشنترين وليهي لم تلعب أي دور في إخراج بريطانيا من فلسطين. العرب لعبوا دوراً. والبريطانيون فعلوا ذلك بأنفسهم حين اتضح لهم أنه ليس هناك هدف استراتيجي من البقاء في فلسطين” طبعاً بعد استقلال الهند والباكستان. وليسوا قلة في إسرائيل من تبنوا القول إن رئيس الوزراء الجنرال إيهود باراك سحب قواته من الجنوب اللبناني، إذ رأى أنه لم يبق لإسرائيل هدف استراتيجي من البقاء هناك، وأن المقاومة شديدة على قواته، وتصور أن الانسحاب ورقة لإحراج السوريين وإخراجهم من لبنان.

والجدل سهل. والحجج جاهزة غب الطلب، لكن السؤال في البداية والنهاية هو: ما الذي يخدم قضية فلسطين: الطابع القومي أم الطابع الديني للصراع؟ وإلى أين يأخذنا تسليم قضية فلسطين للتيار الأيديولوجي الديني، وبشكل عام لتيار أيديولوجي مذهبي قاعدته إيران؟ والجواب واضح: إلى مئة عام أخرى من صراع عميق من دون الوصول إلى حل جذري. فالصراع على الأرض، وهو الواقع بالفعل، له حل سواء بالنسبة إلى من يراه “صراع وجود” أو بالنسبة إلى من يسلم بأنه “صراع حدود”.

أما الصراع على السماء، فلا حل له منذ بدء الخليقة ثم سيادة الأديان التوحيدية. ولا مصلحة لفلسطين والعرب في الذهاب إلى البعيد في الطابع الديني للصراع الذي تشدد عليه إيران وتراهن عليه الصهيونية. ولا مجال للرهان على “وحدة الساحات” من خارج الشرعية العربية لتحرير فلسطين، بصرف النظر عن متطلبات المشروع الإقليمي الإيراني. ولا مجال أيضاً لقيام إسرائيل كبرى على حساب شعب صار عدده في فلسطين التاريخية أكبر من عدد اليهود: إذ عدد اليهود 7.2 مليون شخص، وعدد الفلسطينيين 7.3 مليون شخص. واللعبة الخطرة ازدادت خطورة. وأخطر ما في العجز عن تحرير فلسطين هو هيمنة التيارات الدينية على الأنظمة والمجتمعات العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى