لبنان يعيش مخاض ما قبل انتهاء حرب غزة
الزيارات التي قامَ بها وزير الخارجيّة الفرنسي ستيفان سيجورنيه للعاصمة اللبنانية، والتي تندرج في إطار جولة إقليمية ستشمل السعودية، تزامنت مع جولة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والتي ستشملُ أيضًا الرياض.
تستدعي التطورات الميدانية التي يشهدها الجنوب اللبناني في الأيام الأخيرة، إعادة تجديد الاتّصالات بين المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين والمسؤولين اللبنانيين، الذين يتابع معهم ملف التهدئة في الجنوب، والتحضير لمرحلة جديدة مبنية على اتفاق دبلوماسي – أمني طويل الأمد، وبات واضحًا أن ملف التفاوض الذي أودعه حزب الله بيد رئيس المجلس النيابي نبيه بري يحتم على هوكشتاين تواصلًا لا ينقطع؛ انطلاقًا من رغبة الإدارة الأميركية في منع التصعيد الإقليمي.
لقد سادت نظرية خلال الأيام الماضية؛ أن لبنان ربما دخل مسار الحرب، لكن المشكلة الكبرى أن الحرب الشاملة لن تنتهي بحسم واضح بالضربة النهائيّة لمصلحة فريق على آخر، بل ستفتح أبوابًا إضافية لنزاعات طويلة وتعقيدات مختلفة تزيد من حال الفوضى، لذا فأسباب ارتفاع مستوى التوتر الحاصل، على علاقة بالمفاوضات الدائرة خلف الأبواب المغلقة.
هذه التحولات الحاصلة أدت لمسارعة فرنسا للدخول إلى الملفات الصراعية، وخاصة أن الوقائع أخرجتها من ملف غزة، فهي تعمل على تثبيت قدميها في الملف اللبناني ومزاحمة واشنطن في لبنان
والزيارات التي قامَ بها وزير الخارجيّة الفرنسي ستيفان سيجورنيه للعاصمة اللبنانية، والتي تندرج في إطار جولة إقليمية ستشمل السعودية، تزامنت مع جولة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والتي ستشملُ أيضًا الرياض. في وقت يدور الحديث عن زيارة لم يحدد موعدها لمستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين إلى لبنان والأراضي المحتلة، وبالتأكيد ليس هنالك من تزامن مقصود ومدروس بين الزيارات الثلاث، على رغم من أن خلفية كل هذا الحراك هي نفسها، وتتعلّق بترتيبات المنطقة لما بعد حرب غزّة.
ويبدو أن وزير خارجية واشنطن يعمل مع مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان على ملف الترتيبات السياسية الكبرى لما بعد معركة رفح، والمقصود هنا بشكل أساسي مستقبل إعادة بناء السلطة الفلسطينية التي ظهرت هشاشتها خلال هذه الحرب، والأهم بالنسبة لإدارة بايدن هو إنجاز مشروع التطبيع الإسرائيلي ـ السعودي وانتظار آثاره على التوازنات الإقليمية والدولية.
من هنا فإن هوكشتاين يعمل في الكواليس مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب على إنجاز شكل سريع لملف الترتيبات في الجنوب عندما يحين موعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبالتالي التحضير لتطبيق القرار 1701 دون العبث بمندرجاته وتوازناته الميدانية.
أما الوزير الفرنسي فهو يعمل على الحفاظ على موطئ قدم لباريس في المنطقة؛ انطلاقًا من آخر ساحات نفوذها وهو لبنان بعد سلسلة خسارات متتالية في أفريقيا وليبيا، في ظلّ ما يشاع عن توصل ماكرون وبايدن لاتفاق تنسيقي في الملف اللبناني.
لكن ووَفقًا لتاريخ المنطقة وسيولة أحداثها، فإن هذا الحراك الغربي لا يعني بالضرورة أنه سينتج مخرجات قريبة، وربما لذلك يجري ملء الوقت الضائع بارتفاع منسوب الضغط على جبهة الجنوب بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
فلا يزال هنالك بعض الوقت قبل أن تتّضح صورة المشهد الميدانيّ في رفح بعد فشل إسرائيل في تدمير البنية الصلبة لكتائب القسّام، وهذا الأمر يترجم اليوم باستمرار العمليات المنظمة والمصورة وما حُكي عن جولة ميدانية لقائد حماس في قطاع غزة يحيى السنوار على جبهات القتال.
من هنا فإنّ حزمة المساعدات المالية التي أقرها الكونغرس الأميركي لإسرائيل تنبئ باستمرار الدعم الأميركي لحرب لن تنتهي قريبًا جدًا، لا بل فإن الطلب الإسرائيلي لمزيد من شحنات الأسلحة والذخائر والبدء بتحضيرها وإرسالها يؤكد ذلك. خصوصًا أن هذه الذخائر تتركز بمعظمها على مدفعية الدبابات وقذائف الهاون وهو ما تحتاجه المعارك الهجومية على مسافات قصيرة ومتوسطة، وداخل مناطق سكنية.
وفي موازاة ذلك، يستمر الجيش الأميركي في بناء الميناء العائم قبالة ساحل غزة، والذي من المفترض أن ينتهي العمل به خلال الشهر المقبل، مع فتح الأميركيين باب المناقصة لإعداد مئة ألف وجبة يوميًا، ستنقل من لبنان إلى قبرص، ومن ثم إلى غزة، في ظلّ ما تسرّبه أوساط أميركية عن إمكانية نقل جزء من سكان القطاع باتجاه دول أخرى.
وهناك اعتقاد جازم بأن الوحشية الإسرائيلية والمجازر المرعبة واصطدامها بكل دعوات وقف إطلاق النار في غزة مردها الرئيسي شعور قادة الاحتلال الإسرائيلي ومن خلفهم جماهيرهم الحزبية، أن لا ضمانات لمستقبل الوجود والكيان، من هنا فإن كل قادة اليمين الصهيوني حريصون على ترداد سردية أن هذه الحرب هي حرب وجودية ترسم مستقبل الوجود ككل.
من هنا يمكن فهم طلبات الإسرائيليين للحصول على جوازات سفر أميركية وأوروبية وروسية أضعاف ما كان عليه الوضع قبل عملية “طوفان الأقصى”، وهو ما يستوجب، وفق الحكومة الإسرائيلية، تحقيق نتائج ميدانية تعيد ثقة الإسرائيليين ببقاء دولتهم الهشة، وما ضاعف من حدة الشعور بالهزيمة الإسرائيلية هو فشل الجيش في تحقيق انتصارات جليّة، والعجز عن تحقيق الأهداف التي أعلن عنها نتنياهو، وهو ما استوجب لدى ائتلاف اليمين البحث عن ذرائع تبيح استمرار الحرب.
بالتوازي أتى مشروع العقوبات الأميركية غير المسبوقة على كتيبة “نيتساح يهودا” في الجيش الإسرائيلي ليضع الجيش والحكومة أمام مقدسات أميركية وهي منع حصول أي عملية تهجير لفلسطينيي الضفة الغربية والـ 48، كما يجري العمل عليه في غزة، وفق سياسة أعرب عنها مدير مكتب الأمن القومي الأميركي برايت ماكغورك، وهي أن ما ينطبق على غزة، لا ينطبق على الضفة الغربية والداخل.
كل هذا المسار يقابله مسار إقليمي آخر، فتركيا التي دخلت على خط الملف الفلسطيني بالتشارك مع القطريين والمصريين تهدف لخلق منصة حماية إقليمية لحماس؛ كونها استطاعت الحفاظ على وجودها السياسي الرئيسي في اللعبة والمنازلة الحاصلة، من هنا يمكن فهم الحملة المدفوعة من قبل اللوبي الصهيوني – مدعومًا من مراكز تأثير ودراسات مدعومة من الحزب الجمهوري ومنظمة “الأيباك” وبعض الدول الإقليمية – على دولة قطر ودورها الفاعل في الوساطة، والتي ردت الدوحة عليها بحزم سياسي كبير.
لذا فإن الدخول التركي هو مكمل للدور القطري – المصري وليس بديلًا عنه، كذلك فإن الحملات لبعض القادة الجمهوريين المقربين لا تعدو سوى محاولة انتخابية لاجتذاب الأصوات اليمينية في الداخل الأميركي، ودفعها للتصويت ضد جو بايدن في ظل التماهي والتنسيق المشترك بين الدوحة وواشنطن في كل الملفات الإقليمية والتي يعد أبرزها الملف اللبناني ضمن ما يسمى “اللجنة الخماسية”.
وهذه التحولات الحاصلة أدت لمسارعة فرنسا للدخول إلى الملفات الصراعية، وخاصة أن الوقائع أخرجتها من ملف غزة، فهي تعمل على تثبيت قدميها في الملف اللبناني ومزاحمة واشنطن والدوحة في لبنان، لذلك رعى ماكرون اجتماعًا مع قائد الجيش ورئيس الحكومة، وبات ظاهرًا أن لقاء ماكرون مع ميقاتي وعون ينطوي على تفاهمات جرى صياغتها مع الإدارة الأميركية.
وبدا من كلام المسؤولين اللبنانيين الذين يزورون باريس أن المسؤولين فيها باتوا يعيشون قلقًا مزمنًا من الاندفاعة القطرية في الملف اللبناني بالتنسيق مع واشنطن والرياض، إضافة للدور في الشرق الأوسط، وخاصة أن مرونة قطر وقدرتها على التواصل مع الأطراف اللبنانية تسهلان حضورها الوازن، ومن هنا أتت جولة الوزير الفرنسي في المنطقة، ما يعني أن انتظار نتائج حاسمة الآن لا يبدو أمرًا منطقيًا.
لكن النقطة الرئيسية تبقى مرتبطة بانتهاء القتال في قطاع غزة، مع عدم الإغفال أن المراحل المشابهة في السياسة الإقليمية كانت تشكل دائمًا مراحل ضياع وتخبط، تكون فيها الفوضى هي الأساس؛ بهدف تحسين أطراف المنطقة لشروط وجودها أكثر كثافة.