الشعارات جميلة ومغرية لكنها قد تدفع إلى التهور، والمكابرة سهلة لكنها مكلفة بالنسبة إلى أصحابها كما إلى الآخرين، وأخطر أنواع الشعارات والمكابرات هي التي تبدو كأنها تعبير عن الحقائق في إدارة الصراع، ومهما تكن القراءة في الحرب التي دارت ضمن “وحدة الساحات”، فإن ما يفرض نفسه هو التعبير الصيني عن “البحث عن الحقيقة في الوقائع”، والوقائع تؤكد أن ما حدث كان تجربة هائلة لن يبقى لبنان بعدها كما كان، ولن يبقى “حزب الله” بعدها كما كان، ولن تبقى اللعبة في الإقليم كما كانت، والأسئلة دراماتيكية.
هل وصل بنيامين نتنياهو إلى نهاية مساره السياسي الطويل الذي قاد إسرائيل إلى قمة التطرف اليميني وأدخلها في حروب مدمرة بقيت من دون خلاصات إستراتيجية ملموسة؟ وهل بدأ العد العكسي للمشروع الإقليمي الإيراني أو أقله للنفوذ و”وحدة الساحات”، بصرف النظر عن الرهانات على صفقة أميركية – إيرانية بقيت مشروعاً خلال ولاية الرئيس جو بايدن، وليس من السهل أن تستكمل مع الرئيس دونالد ترمب، صاحب “الضغوط القصوى” لفرض اتفاق نووي آخر أفضل وأطول، مضى زمنه وتجاوزته الوقائع على “العتبة النووية”؟ وإلى أين يراد دفع الأصوليين المتشددين في سوريا؟ هل إلى حلب وحماة وما بعدهما، مع معرفة الجميع أنه لا شيء بالصدفة في هذا البلد، ولا حركة تحدث بالقوة الذاتية بل بقوة الذين يجعلون القوي ضعيفاً والضعيف قوياً، بحسب المصالح وحساباتها؟ وألم يقلب الدور العسكري الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين اتجاه اللعبة لمصلحة النظام، وتوسع رقعة مصلحة إيران بحرسها الثوري ومع “حزب الله” و”الحشد الشعبي” العراقي؟ وألم يعقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صفقة مقايضة لجهة السماح له باجتياح أراض في شمال سوريا مقابل التخلي عن حلب للنظام وإيران؟ فهل انعكست الآية اليوم، وما الذي تخطط له تركيا وأميركا مع انشغال روسيا بأوكرانيا للدور الإيراني في سوريا، وبالتالي في لبنان والعراق واليمن؟
اقرأ أيضا.. بعيداً عن الأوهام… لبنان أمام استحقاق البقاء
الإجابات ليست على الطريق، لكن المؤكد أن ما كشفته الحرب هو استحالة وراثة لبنان عن أي طرف مهما يكن قوياً وجزءاً من مشروع إقليمي، وهو أيضاً أن مرحلة “المقاومة الإسلامية” الدائمة، بصرف النظر عن مصير “وحدة الساحات”، لم تعد ممكنة كما كانت في الماضي، لا بالقوة الذاتية ولا بعجز الأكثرية اللبنانية وقواها عن التأثير في مجرى الحرب، والامتحان العملي أمامنا في الاتفاق على “وقف الأعمال العدائية” وصولاً إلى “حل مستدام وحل شامل” بموافقة “حزب الله” عبر رئيس البرلمان نبيه بري، ولبنان من خلال مجلس الوزراء، وإسرائيل من خلال مجلس الوزراء، وضمان أميركا وفرنسا.
إذاً لا مجال لمتابعة الحرب بعد استراحة محارب أو بعد خرق إسرائيلي كبير، ثم التوجه نحو حل مستدام ودائم، ولا مهرب من العودة للمشروع الوطني اللبناني بمعناه الحقيقي، وليس فقط إلى فك أسر الرئاسة والجمهورية والدستور، ودعوة العالم إلى مساعدتنا في إعادة الإعمار، وحتى بالمعنى العملي والنظري فإن “قوة المقاومة” وطنياً لا عسكرياً هي في دعم الطوائف والقوى والمناطق لها، لا في الاكتفاء بقوة البيئة الشيعية.
ومهما يكن الزرع الأيديولوجي قوياً والعصبية الحامية له عميقة، كما ظهر أخيراً، فإن المطلوب هو عصبية لبنانية تشمل كل الطوائف، حتى في إعادة تكوين السلطة على الطريق إلى بناء الدولة، وإلا فإن كل شيء يبقى شكلياً وقابلاً للـ “فيتو” من أي طرف إذا صار الهدف تحت ضغط الظروف هو استكمال الأحاديات داخل الطوائف، على غرار بعضهم، وليس تعميم التعددية داخل كل الطوائف لكي تصبح التعددية الوطنية حقيقية لا مجرد تكاذب مشترك، ولا أحد يجهل ما فعله الاستقطاب في تعميق الخلافات الطائفية حد صعوبة الوصول إلى حل مشترك، وليس من السهل أن يصمد وقف النار من دون تسوية تجعل الحرب الأخيرة آخر الحروب.
والخوف هو أن تكون اللعبة حول تسوية شكلية مجرد انتخاب رئيس وتشكيل حكومة، والإيحاء بأن كل شيء هادئ وعلى ما يرام في منطقة جنوب الليطاني، ومجرد وعد من “حزب الله” بالتنسيق مع الجيش اللبناني، مع أن التسوية تتجاوز كل تنسيق، لأن القرار للجيش وحده تعاونه قواته “يونيفيل”، لا بل من الصعب أن تشهد سباقاً بين الدول، ولا سيما منها الأشقاء العرب، على إعادة الإعمار إذا كنا ضمن مشروع الحرب الدائمة.
ألم يتم تدمير كل ما جرى بناؤه في مشروع إعادة الإعمار بعد حرب 2006؟ أليس من المهين للبنانيين أن يكونوا موضع سؤال متكرر، نحن الأبطال وأنتم من؟
خلال حرب لبنان قال أحد قادة الفصائل المسلحة للرئيس تقي الدين الصلح “نحن نمثل المقاتلين، فمن تمثلون أنتم؟”، وكان جواب الرجل الحكيم الذكي “نحن نمثل المقتولين”، وليس قليلاً ما نحتاج إليه، لكن الأعمق هو “الحاجة إلى فهم أكثر من المعرفة”، كما قال الفيلسوف أشعيا برلين.