تقارير

لبنان.. بين فكي قضية الهجرة وتبعاتها المستمرة وتداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية

لطالما كانت الهجرة جزءا أساسيا من هوية اللبنانيين، فمنذ أن سكنته شعوب عدة، حتى قبل إنشائه عام 1920، كان قاطنوه يفكرون دائما بالرحيل، بحيث كان اللبنانيون من أوائل شعوب العالم التي هاجرت إلى أوروبا وأمريكا وكندا والبرازيل وأستراليا بحثا عن ظروف معيشية أفضل.

وبعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد عام 2019، ازدادت حركة الهجرة بشكل ملحوظ. وبحسب “الدولية للمعلومات” فإن عام 2023 شهد ارتفاعاً كبيراً في عدد المهاجرين بالنسبة إلى العام الذي سبقه. إذ في عام 2022 بلغ عدد المهاجرين 59 ألفاً و269 لبنانياً، ليرتفع عام 2023 إلى 175 ألفاً و500 مهاجر. في حين يبلغ مجموع عدد المهاجرين بين عامي 2012 و2023، 621 ألفاً و550 لبنانياً.

لكن على ما يبدو فإن القصة لم تصل إلى نهاية سعيدة بالنسبة لعدد من المهاجرين، إذ فضلوا العودة إلى لبنان مجددا لظروف عدة.

وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة النهار اللبنانية أن “عدداً من كبار الأطباء والمهندسين الذين غادروا لبنان بعد الأزمة الاقتصادية إلى دول في الخارج عادوا مرة أخرى على خلفية التعثر الاقتصادي في أوروبا والغلاء والظروف التي تُبقي بلدهم أفضل لهم في هذه المرحلة”.

وصحيح أنه لا توجد أرقام رسمية بخصوص الأعداد التي عادت، إلا أن “جسور بوست” علمت أن الأعداد التي عادت قليلة جدا مقارنة مع الأعداد التي غادرت البلاد، وأن العائدين عادوا لأنهم لم يحصلوا على وظيفة.

سلمى، شابة لبنانية غادرت لبنان سنة 2020 تقول لـ”جسور بوست” لقد “اضطررت لترك بيروت بعد انفجار المرفأ، فقد شعرت بفقدان الأمل في ظل عدم الاستقرار النفسي وغياب الخدمات، وتقدمت بطلب عمل لشركة في ألمانيا، وبالفعل أنا اليوم أعمل فيها منذ 3 سنوات تقريبا، لكني تفاجأت بالظروف بعد استقراري في العاصمة ميونخ”.

وتتابع “فبعد الحرب الأوكرانية بدأت أسعار الخدمات الأساسية بالارتفاع بشكل جنوني. واليوم نضع أغلب راتبنا على العيش ونادرا ما نستطيع توفير بعض المال، كما أن الضرائب لا ترحم”.

وتختم قائلة “أفكر جديا بالعودة إلى لبنان، ولكن ليس الآن ربما بعد تحسن الواقع الاقتصادي ولو قليلا”.

هجرة عبر البحر وخلاف مع قبرص

للهجرة غير الشرعية من لبنان قصة أخرى، إذ لا يزال كثير من اللبنانيين وغير اللبنانيين يحاولون تحقيق حلم الوصول إلى أوروبا عبر قبرص. حيث أعلنت وسائل إعلامية بداية شهر أبريل من العام الجاري أن 271 مهاجرا وصلوا إلى جزيرة قبرص على متن 5 قوارب انطلقت من شواطئ لبنان. بينما وصل 600 سوري، بطريقة غير قانونية، إلى الجزيرة مؤخرا في رحلات من لبنان مدتها 10 ساعات بحرا.

في حين وصل حوالي 2208 مهاجرين إلى قبرص عن طريق البحر في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024 مقارنة مع 78 فقط في الفترة نفسها عام 2023، بحسب بيانات رسمية، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام أن اللاجئ يدفع 3 آلاف دولار إلى المهرب ليصل إلى قبرص.

وتظهر دولة قبرص امتعاضا واضحا من الرحلات غير القانونية التي تصل للبلاد. إذ أشار وزير خارجية البلاد كونستانتينوس إيوانو إلى أن هذا “الأمر يتفاقم بسبب تراجع تركيز السلطات اللبنانية على وقف الهجرة من سواحلها في الأشهر القليلة الماضية وسط تصعيد على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.” كما قال إن كل المؤشرات توحي بأن الهجرة تلك “ستستمر”.

يأتي هذا الكلام في وقت تحاول قبرص الضغط على الاتحاد الأوروبي ليضغط بدوره على السلطات اللبنانية لاحتجاز اللاجئين السوريين على أراضيها، مقابل مساعدات مالية، على غرار ما حدث مع بعض الدول في شمال إفريقيا. علما أن وزير الخارجية القبرصي كونستانتينوس كومبوس زار لبنان مؤخرا لإجراء محادثات بخصوص هذا الموضوع، إلا أن الزيارة لم تسفر عن أي نتائج.

كما زار رئيس قبرص نيكوس خريستودوليدس لبنان في 5 نيسان من العام الحالي لإجراء محادثات مع مسؤولين في الدولة اللبنانية سعيا لإيجاد حلول للأزمة القائمة، ورأى خريستودوليدس أن حل أزمة هجرة السوريين يكون عبر “تحفيز عودتهم إلى بلادهم”.

وتعهد خريستودوليدس بالتدخل لدى الاتحاد الأوروبي لحمله على تقديم مساعدات للبنان من أجل المساعدة على وقف الهجرة غير القانونية، بينما أوضح رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن الحل يكون إما بإعادة السوريين إلى المناطق الآمنة في بلادهم أو إعادة توطينهم في بلدان أخرى.

وكان وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب قد قال في وقت سابق إن لبنان لم يعد قادرا على منع النازحين السوريين من الهجرة عبر البحر. بينما أكد وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال هكتور حجّار أنّ هناك أزمة واضحة بين لبنان وقبرص وأوروبا بسبب الهجرة غير الشرعية.

وكانت قبرص قد أعلنت، خلال شهر فبراير الماضي، أنها تتفاوض مع لبنان لإعادة 116 مهاجراً سورياً جرى إنقاذهم قبالة سواحلها، بعد أن رفضت بيروت استعادتهم.

وبهدف مكافحة الهجرة غير القانونية عبر البحر تسلم الجيش اللبناني منحة من الولايات المتحدة الأمريكية عبارة عن 3 خافرات و4 زوارق سريعة لتعزيز الرقابة في المياه اللبنانية. في وقت وعدت قبرص بتزويد لبنان بـ6 سفن وزوارق سريعة بحلول نهاية عام 2024.

وفي هذا السياق، أوقف الجيش اللبناني 134 سوريا حاولوا الهجرة من لبنان بحرا نحو أوروبا عبر زوارق العام الماضي.

ضمان أمن المهاجرين ضرورة

تشير الباحثة في منظمة هيومن راتيس ووتش ناديا هاردمان في حديث مع “جسور بوست” إلى أن المنظمة “على علم بحالات الصد من قبل كل من القوات المسلحة اللبنانية والسلطات القبرصية وقد وثقتها”.

وفي هذا السياق، صرحت المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين في قبرص إميليا ستروفوليدو بأن المفوضية حصلت على شهادات من شهود عيان تفيد بأن “قبرص تستخدم العنف لمنع وصول قوارب اللاجئين السوريين”. مضيفة أن “جهود قبرص لمنع قوارب اللاجئين السوريين التي تغادر لبنان يجب ألا تتعارض مع القوانين الدولية أو أن تضع ركّاب تلك القوارب في خطر”.

وعن الحل لضمان أمن المهاجرين عبر القوارب توضح هاردمان أن “اللاجئين السوريين يجب أن يُمنحوا وضعاً قانونياً ووسيلة لعيش حياة كريمة، وإلا فإنهم سيقومون برحلات يائسة وسيخاطرون بحياتهم من أجل الوصول إلى الأمان والحماية”. مضيفة أن “الطريقة الوحيدة التي سيتوقف بها هذا الأمر هي وجود مسارات قانونية وآمنة (ليصلوا عبرها إلى أوروبا).. ومن الواضح أنه حتى يتغير الوضع، سيستمر الناس في محاولة القيام برحلات يائسة”.

وتعتقد هاردمان أن على “الاتحاد الأوروبي أن يساعد في تطوير مسارات قانونية وآمنة للأشخاص القادمين، وزيادة أعداد مخيمات الاستقبال وعدم الانخراط في أي انتهاكات غير قانونية للقانون الدولي مثل عمليات الصد والطرد الجماعي”.

الحرب والنزوح

داخليا، وبحسب بيانات حكومية لبنانية، فإن ما لا يقل عن 91 ألف لبناني تركوا بيوتهم في جنوب البلاد، بسبب المعارك مع إسرائيل، وتوجهوا إما إلى مدارس حولتها الدولة إلى أماكن إيواء، أو أنهم يقيمون في بيوت استأجروها أو منازل يملكها أقاربهم في بيروت ومناطق الشمال.

وبحسب منظمة أطباء بلا حدود “أسفرت 5 أشهر من النزاع المسلح على طول الحدود الجنوبية للبنان عن مئات الوفيات وتسببت في اضطرابات هائلة في حياة السكان، مما أجبر أكثر من 91 ألف شخص على إخلاء منازلهم، الأمر الذي أثقلهم بأعباء مادية كبيرة وأثّر بشكل كبير على استقرارهم المالي وسلامتهم النفسية”.

ووفق تقرير نشرته المنظمة الدولية للهجرة خلال شهر فبراير الماضي فإن 81 بالمائة من النازحين اللبنانيين لجؤوا إلى 5 مناطق لبنانية منذ بداية الحرب من بينها بيروت. في حين لجأ 79% من النازحين إلى عائلات مضيفة، بينما يعيش 19% في ظروف مكتظة. وقد استأجر 15% مساكن، في حين انتقل 4% إلى منزلهم الثاني. وينتشر 2% منهم في 18 مركز إيواء جماعي في عدة مناطق.

يقول سمسار العقارات علي السعد في حديث مع “جسور بوست” إن “الحرب في الجنوب فتحت الباب على جشع أصحاب البيوت والسماسرة.” ويضيف “فالشقة التي كانت تؤجر قبل الحرب بـ350 دولارا باتت اليوم تؤجر بـ500 و600 دولار”.

ويوضح السعد أن “سبب ذلك الارتفاع يعود لنسبة النزوح العالية من الجنوب نحو بيروت والشمال، بالإضافة إلى التعويضات المؤقتة التي حصل عليها أصحاب البيوت المدمرة والتي تشمل 4 آلاف دولار كبدل إيجار سنوي و8 آلاف دولار للأثاث”.

مؤشرات اقتصادية سلبية

ويرى الصحفي الاقتصادي خالد أبو شقرا أنه “في الدول الخارجية سواء كانت العربية الخليجية أو حتى الأجنبية، عادت الأوضاع الاقتصادية للتحسن بعد أزمة كورونا، في حين أن الوضع بلبنان منذ 4 سنوات حتى اليوم يسير بطريقة معاكسة، فالوضع الاقتصادي يسوء كل سنة والمؤشرات الاقتصادية تتراجع عاما بعد عام”.

وعن تداعيات الحرب على اقتصاد البلاد فيوضح أبو شقرا في حديثه مع “جسور بوست” أن “كلفة الحرب اللي بدأت في الثامن من أكتوبر 2023 أصبحت كبيرة جداً على الاقتصاد اللبناني. فنحن نتحدث عن خسائر مباشرة وغير مباشرة تتجاوز ملياري دولار، أي ثلثي موازنة عام 2023 التي هي 3 مليارات دولار. وبالتالي، من الصعب جداً على لبنان تحمل هذه التبعات الاقتصادية، خصوصاً أنه لغاية اليوم لا يظهر استعداد لدى أي من الدول الداعمة تاريخياً للبنان بمثل هذه ظروف أو بعد هكذا أحداث بشأن تقديم المساعدة في عملية الإعمار ودعم السكان”.

يذكر وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، أمين سلام، أن خسائر بلاده الاقتصادية جراء الحرب الجارية في غزة وجنوب لبنان وصلت إلى 10 مليارات دولار.

وعن الاتهامات للدولة اللبنانية بأنها تغض النظر عن الهجرة غير القانونية عبر البحر من لبنان فيكشف أن “الحكومة اللبنانية لا تغض الطرف بقدر ما هي عاجزة اليوم عن ضبط الحدود، فهي غير قادرة على ضبط المعابر وليس لديها قدرة الوصول للكثير من المعابر، بل هي عاجزة عن ضبطها، ونحن نسمع أن الحكومة اللبنانية ومسؤولين لبنانيين يهددون بهذا الموضوع ويقولون إنهم سيفتحون الحدود للنازحين ليذهبوا إلى دول أوروبية بأعداد كبيرة في حال لم تتم مساعدة لبنان وإيجاد حل، لكن أنا أعتقد أن هذا يبقى في إطار التهويل أكثر مما في إطار الواقع”.

ويختتم حديثه قائلا “الموضوع له أبعاد سياسية ودولية كبيرة وبحاجة لحل جازم، ونأمل في مؤتمر بروكسل المقبل أن يكون هناك حل لمشكلة النازحين السوريين، التي بدأت تضغط على الاقتصاد اللبناني المثقل بالفعل بالكثير من الأعباء، والتي هي أكبر من طاقته وقدرته على التحمل”.

بلال نور الدين – جسور بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى