كيف يهدد انهيار الصومال التجارة العالمية؟
إذا انزلق الصومال في منعطف الفوضى العارمة مرة أخرى، سوف تذهب المليارات التي أُنفِقَت على أمن البلاد هباءً. ومن المرجح أن تتعرض التجارة الدولية التي تمر عبر باب المندب إلى الخطر
منذ مطلع عام 2024 وحتى الآن، تدهور الوضع الأمني في الصومال على نحو كبير. يقول المسؤولون الأمريكيون إن المكاسب التي تحققت على مدى عامين في الحرب ضد حركة الشباب ذهبت هباءً، حيث أدت المشاكل الإقليمية، بما في ذلك تنامي عمليات القرصنة وهجمات المتمردين الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، إلى تفاقم النزاعات الداخلية. ورغم أن الصومال ليست دولة ذات ثِقَل عالمي، إلا أن عدم رغبة الدولة المجاورة في مزيد من الانخراط في تلبية احتياجاتها الأمنية يخلق وضعًا مَحفوفًا بالمخاطر البالغة بالنسبة لبلد يتمتع بموقع استراتيجي في منطقة القرن الإفريقي وعلى مقربة من طرق الشحن الحيوية.
ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1991، تُناضل الصومال من أجل ضمان السيطرة على أراضيها. وقد اختارت البلاد نظام الحكم الفيدرالي الذي يُفوض السلطة إلى العشائر في البلاد، مما يجعل مقديشو غير قادرة فعلياً على ممارسة السلطة خارج نطاق العاصمة. وعلى هذه الخلفية، اكتسبت “حركة الشباب” السلطة على المستوى المحلي، فكانت في البداية بمنزلة قوة متمردة، ثم تحولت لاحقًا إلى حكومة فعلية، حيث سيطرت على مساحات كبيرة من الأراضي التي أصبحت في حوزتها وقامت بجمع المال من السكان المحليين بواسطة إجراءات صارمة؛ كالضرائب والابتزاز والتجارة غير المشروعة. وفي نهاية المطاف، أصبحت فرعاً محلياً لتنظيم القاعدة، وتتواصل وتتعاون على نطاق واسع عبر خليج عدن مع الشركات التابعة لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
قد تكون حركة الشباب هي الجماعة الأكثر شهرة وقوة من نوعها، لكنها ليست الوحيدة. كما ينشط تنظيم الدولة بشكل متزايد في الجزء الشمالي من البلاد، وخاصة في منطقة بونتلاند التي تتمتع بحكم شبه ذاتي. إن موقع الجماعة الساحلي وعلاقاتها الوثيقة مع المتمردين الحوثيين في اليمن يجعلها في وضع مثالي لتهديد الشحن العالمي عبر مضيق باب المندب. (حيث يمر أكثر من 11% من حركة الشحن العالمية عبر هذا المضيق، وعلى الرغم من أن السفن اعتادت تجنُب ساحل اليمن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خوفًا من القراصنة، إلا أن ذلك لم يعد خيارًا الآن). وفي الوقت نفسه، حاول قياديو الجماعة، المطالبة بالمزيد من الأراضي لتوفير المأوى للأعضاء السوريين والعراقيين الفارين من الشرق الأوسط.
البعثة تسحب قواتها تدريجيًا:
في الواقع لم تنجح الحكومة الصومالية بعد في تفكيك هذه الجماعات. ولأن قسماً كبيراً من العالم مهتم بأن يكون الصومال مستقراً إلى حد ما، فقد دعمت العديد من الدول مقديشو في حربها ضد الإرهاب، إذ تقدم كل من الإمارات العربية المتحدة وتركيا وقطر دعمًا ماليًا كبيرًا لهذا الغرض، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تُقدم قوات إلى الصومال، إلا أنها تدرب القوات المحلية وتزودها بالأسلحة والذخائر، بما في ذلك الطائرات بدون طيار.
وتتولى بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال، التي تَضُم كل من إثيوبيا وكينيا وأوغندا وجيبوتي وبوروندي، مسؤولية القوات الأجنبية في الصومال. ولكن توشك أيضًا هذه المنشأة على الإغلاق قريبًا. كما يفكر الاتحاد الأوروبي في خفض مساعداته المُخصَصة لهذا الغرض والتي تُقدَر بحوالي 100 مليون دولار، في حين تعمل الولايات المتحدة حالياً على إعادة توجيه الأموال نحو غزة وأوكرانيا بسبب أولويات أكثر أهمية.
ولذلك تقوم البعثة بسحب قواتها تدريجيًا، والتي انخفض عددها من 18500 في عام 2022 إلى حوالي 14000. وكان من المفترض أن يُغادر 4000 آخرين بحلول نهاية يونيو. (وقد وافق الاتحاد الإفريقي على تشكيل بعثة جديدة لحفظ السلام بحلول نهاية العام، ولكن لن يزيد عدد جنودها عن 10 آلاف جندي، وستكون مهمتها محدودة بحيث تقتصر على قتال الجماعات المسلحة بدلاً من بناء قدرات الدولة، ولا يزال التمويل قائمًا، لكن يكتنفه بعض الغموض).
القلق الأكبر بشأن الانسحاب:
من جانبها، أعربت كل من أوغندا وكينيا عن قلقهما بشأن الانسحاب، وقارنتاه بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان. كما يعتري بعض المحللين الأمنيين القلق إزاء انتهاء المهمة، الأمر الذي من شأنه أن يمنح حركة الشباب أفضلية عسكرية شاملة. من ناحية أخرى، يرى مسؤولو دفاع أمريكيون، مؤخرًا، إن حركة الشباب استعادت خلال الأشهر الستة الماضية جزءًا كبيرًا من الأراضي التي خسرتها أمام الحكومة بين عامي 2022 و2023، بينما يفتقر الجيش الصومالي إلى الأفكار والخبرة ويعاني من الفساد. والأمر الذي يُفاقِم الوضع تنافُس المصالح بين رُعاة الجيش في تركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر.
لقد قدمت الإمارات دعمًا للقوات الصومالية في منطقة جوبالاند، شمالي البلاد، للحد من بعض عمليات غسيل الأموال والجرائم العابرة للحدود التي تدخل وطنهم عبر اليمن. ومع ذلك، تُحافظ الإمارات على علاقات وثيقة مع أرض الصومال، وقد قامت ببناء موانئ مهمة في المنطقة. أما تركيا، فهي تعمل أيضًا من أجل مصلحتها الخاصة. وبعد أن وقعت إثيوبيا وأرض الصومال اتفاقية بحرية ودفاعية شاملة في فبراير، واتفاقية تعاون في مجال النفط والغاز في مارس، اختارت أنقرة أن تقوم بدعم القوات البحرية.
في نوفمبر 2022، وقعت الإمارات اتفاقية دفاعية خاصة بها مع الصومال، حيث تربطها علاقات اقتصادية ضخمة مع الصومال. وبموجب هذه الاتفاقية، قامت الإمارات بزيادة الرواتب الشهرية للجنود الصوماليين الذين دربتهم الإمارات والبالغ عددهم 14400 جندي. لكن منذ إبرام الاتفاقيات مع تركيا، أوقفت الإمارات هذا الدعم، ظنًا منها أنه يُضِر بأهدافها الاستراتيجية في المنطقة، وركزت بدلاً من ذلك على بونتلاند وأرض الصومال. وقد أدى ذلك إلى تقليص فعالية القوات الحكومية وساهم في خسائرها. كما أدى ضعف الأجور وانخفاض الروح المعنوية إلى إعاقة جهود التوظيف والاحتفاظ بهم بصفة مستمرة.
الخلاف الدبلوماسي مع إثيوبيا يَصُب في صالح حركة الشباب:
بالنظر إلى تفاقُم حالة عدم الاستقرار في الصومال، يمكن إرجاعها إلى عاملين إقليميين، العامل الأول يتمثل في الخلاف الدبلوماسي مع إثيوبيا، والذي سمح للإمارات ببناء ميناء في منطقة أرض الصومال الانفصالية. ونتيجة لذلك تضمر الحكومة المركزية الشكوك تجاه القوات الإثيوبية في الصومال على نحو متزايد، حيث ترى أنها تعمل على تقويض سيادة البلاد. (لدى إثيوبيا ما لا يقل عن 3000 جندي متمركزين في الصومال كجزء من المهمة، وما يصل إلى 7000 جندي بموجب اتفاقيات ثنائية، خاصة بحماية أمن الحدود). كما اشتكت مقديشو من توغلات القوات الأثيوبية، بصورة غير القانونية، في الأراضي الصومالية.
وجاءت الاحتجاجات في نفس الأسبوع الذي تم فيه نشر قوات الشرطة الكينية في هايتي – وهي خطوة تأخرت الولايات المتحدة في اتخاذها وتمويلها لتحقيق الاستقرار في البلاد وسط اندلاع عنف العصابات- وقد أدت العملية إلى تقليل رغبة الشعب الكيني في إرسال قوات إلى الخارج للقيام بمهام أمنية. وبما أن الاحتجاجات المستمرة تستنزف موارد كبيرة من الجيش والشرطة في البلاد، فمن المرجح أن تتراجع بقوة القدرة والرغبة في مساعدة الجيران الشماليين.
وإذا انزلق الصومال في منعطف الفوضى العارمة مرة أخرى، سوف تذهب المليارات التي أُنفِقَت على أمن البلاد هباءً. ومن المرجح أن تتعرض التجارة الدولية التي تمر عبر باب المندب إلى الخطر، علاوة على عودة أعمال القرصنة، التي تراجعت إلى حد ما في السنوات الأخيرة، ربما بدعم من الجماعات المحلية المناهضة للحكومة. ومع تعثر بعثات الاتحاد الإفريقي وغرق كينيا، الدولة الوحيدة التي يمكن اعتبارها قوة إقليمية في المنطقة، في مشاكلها الخاصة، من المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا في الصومال.
كذلك أدى الخلاف إلى تعزيز حركة الشباب بشكل غير مباشر. ومن خلال استغلال المشاعر المعادية لإثيوبيا التي انتشرت بعد صفقة الميناء، قامت حركة الشباب بزيادة عدد المجندين بشكل كبير (ليصل إلى 13000 جندي بحسب بعض التقديرات) ودعمها المالي. يتزامن ذلك مع تواصُل الحوثيين، بدعم إيراني، مع حركة الشباب، حيث يرسلون مهندسين لبناء ترسانة أسلحة وقنابل أكثر تعقيدًا. وبحسب ما ورد تريد إيران فتح جبهة جديدة في المحيط الهندي من خلال جماعة حركة الشباب، التي ستسهل حصولها على طائرات بدون طيار جديدة وصواريخ أكثر تقدُمًا.
كينيا تحارب نفسها:
يتمثل العامل الإقليمي الثاني في كينيا، حيث تُعد الحكومة في نيروبي بمثابة قوة إقليمية لعبت دورًا مهمًا في تهدئة الصومال، وخاصة بفضل الهجمات العَرضية التي تشنها حركة الشباب على الأراضي الكينية. ولذلك ليس من المستغرب أن تدعم كينيا الجيش الصومالي وتوفر قوات لمهمة الاتحاد الإفريقي. ولكن ربما تتعرض كينيا إلى حالة من التشتُت للدرجة التي تجعلها غير قادرة على تقديم قدر كبير من المساعدة على المدى المتوسط. فقد لقي ما لا يقل عن 26 شخصًا حتفهم في احتجاجات حاشدة ضد الزيادات الضريبية المثيرة للجدل في نيروبي الأسبوع الماضي. ومنذ ذلك الحين، تراجعت الحكومة عن تطبيق خططها بشأن رفع الضرائب، لكن المتظاهرين يعتقدون أن ذلك ليس كافيًا ويطالبون الآن بمزيد من الإصلاحات لاعتقادهم في فساد الحكومة واستخدام أجهزتها الأمنية لقمع المعارضين. ومن ثم تُصبح كينيا في حالة غير مواتية لا تُمكِنها من القيام بدور داعِم للصومال في الوقت الراهن.
تعليق واحد