لا يوجد سبب للاعتقاد بأن خروج واشنطن المحتمل من الأزمة الأوكرانية يعني تحقيق الشروط الروسية فيما يتعلق بالنظام الأمني الأوروبي، التي تشكل أوكرانيا أحد عناصره. وإن الضغط على كييف وإجبارها على التفاوض مع موسكو بهذا المعنى لا يعني ” المصالحة” مع موسكو، بالإضافة إلى الولاء لترامب، فإن جميع مرشحيه يجمعون أيضًا على تبني استراتيجية تفاوض صعبة مع روسيا، كما يشير خبير نادي فالداي ديمتري سوسلوف، وإلى أن ثمة مؤشرات على إن إدارة ترامب المقبلة لن تقبل الشروط التي تصر عليها روسيا للتسوية. ويتوقع الخبير: “سنسمع خطابًا صلبا للغاية من واشنطن، وتنتظرنا مفاوضات صعبة للغاية، ومن غير المرجح أن تؤدي إلى حل مقبول للطرفين”.
جرى مؤخرا الإعلان في واشنطن عن إن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب عين كيث كيلوغ مبعوثا خاصا لإدارته إلى أوكرانيا وروسيا لإيجاد سبل تسوية النزاع بين البلدين السلافيين. وقد أدى هذا الخبر، والترشيحات المعلنة سابقًا لماركو روبيو ومايكل والتز، إلى ظهور عدة فرضيات بشأن خطة العمل الأمريكية لتسوية الأزمة الأوكرانية. وتستنتج وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، استنادًا إلى تصريحات مرشحي ترامب، أن إدارته سيتبنى استراتيجية تفاوضية صارمة. فما هي التعليمات التي ستصدر إلى كتلة السياسة الخارجية للإدارة الجديدة وكيف ستنفذها وفقا لما يراه مراقبون في موسكو.
اقرأ أيضا.. هكذا عفا بايدن عن إبنه و ساعد ترامب
كان موقف كيث كيلوج بشأن الأزمة الأوكرانية، منذ البداية، مبنيًا على الفوائد المحتملة التي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة منها. وبالعودة إلى شباط 2022، وفي جلسات استماع بالكونغرس، أوضح بشكل لا لبس فيه بأنه يعتبر “الحرب مع روسيا، التي تخوضها الولايات المتحدة بالوكالة، أعلى درجات المهنية”. وفي وقت لاحق، ذكر كيث كيلوج مرارا أن الهدف الأمريكي هو “طرد الروس من أوكرانيا”، لا سيما من دونباس وشبه جزيرة القرم، وهو ما ينبغي، وفقا لخطته، أن يؤدي إلى تغيير السلطة في روسيا بطريق القوة. ولكن في ضوء تطور الأحداث، تغيرت وجهة نظر كيث كيلوج. فبعد أكثر من عامين، أصبح من الواضح أن المشروع الأوكراني يتطور وفق السيناريو المعاكس للسيناريو الذي رسمته واشنطن، وأصبحت الخسائر التي تكبدتها في استمراره موضع انتقادات شرسة من ترامب وفريقه.
وشارك كيث كيلوج في أبريل 2024 (أي في خضم الحملة الرئاسية)، في كتابة مقال مع فريدريك فليتز (مسؤول سابق آخر في إدارة ترامب) طُرحا فيه رؤيتهما الخاصة لحل الأزمة، وفيه اعترف كيث كيلوج وزميله بأن النزاع الأوكراني الذي وصفه بالوكالة كان مشروعًا فاشلاً. واتهما البيت الأبيض بكل الإخفاقات وحرفيًا: بالجبن في مواجهة الكرملين، وعدم كفاية المساعدة العسكرية لكييف، وفي الوقت نفسه، استنزاف الإمدادات العسكرية الأمريكية. وإن المخرج من هذا الوضع هو إجبار السلطات الأوكرانية على التفاوض مع الجانب الروسي.
وشملت رؤيتهما على إنه ” ينبغي على الرئيس بايدن وغيره من قادة الناتو لإقناع بوتين بالانضمام إلى محادثات السلام، أن يعرضوا عليه تأجيل عضوية أوكرانيا في الناتو لفترة طويلة من الزمن مقابل اتفاق سلام شامل وقابل للتحقق مع ضمانات أمنية. وأضاف المقال: ينبغي أن لا نطالب أوكرانيا بالتخلي عن هدفها المتمثل في استعادة أراضيها، ولكن عليها الموافقة على تحقيق ذلك الهدف بالطرق الدبلوماسية بدلاً من استخدام القوة العسكرية.
وعند القيام بذلك، يجب على كييف أن تدرك أن ذلك سيتطلب حدوث انفراج دبلوماسي، وهو ما لن يحدث على الأرجح حتى يغادر بوتين منصبه. وإلى أن يحدث ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها ملتزمون برفع العقوبات المفروضة على روسيا بشكل كامل وتطبيع العلاقات معها فقط بعد توقيعها على اتفاق سلام مقبول لأوكرانيا.” وقال: إذا رفضت موسكو الشروط الأمريكية، فينبغي تهديدها بزيادة المساعدات العسكرية لكييف. و”خطة كيث كيلوغ” هي واحدة من عدة خطط، ووفقًا لوسائل الإعلام الأمريكية، فإن مستشار ترامب للأمن القومي المرتقب مايك والتز يدرس جميع الخيارات الممكنة. وفي الوقت نفسه، مهما كان سيناريو التفاوض الذي سيتم اختياره، فإنه لن يتعارض بأي حال من الأحوال مع استراتيجية الرئيس المنتخب المؤكدة. وسوف يتخذ كيث كيلوج نهجًا مسؤولًا على الطراز العسكري لتنفيذها.
ولا تزال الاستراتيجية دون تغيير: يجب حل القضية الأوكرانية بسرعة وبأقل تكلفة على الولايات المتحدة. وهناك قناعات بأن وقف الأعمال القتالية سيعني بالتأكيد انهيار نظام زيلينسكي السياسي وهذا بحد ذاته لا يزعج ترامب. بل على العكس، وفقًا لفلاديمير فاسيلييف، وهو زميل بارز في معهد الولايات المتحدة وكندا، في موسكو، فإن لدى الرئيس الأمريكي المنتخب دوافع شخصية واضحة وراء رغبته في اختفاء زيلينسكي من على الساحة السياسية. ويرى فاسيلييف أن ترامب ينظر إلى الكثير من الأشياء من خلال تجربته الشخصية، وبالتالي فإن موقفه تجاه زيلينسكي محدد تمامًا. لقد راهن زيلينسكي على الديمقراطيين ولم يسمح بمضي التحقيق حتى النهاية في “قضية هانتر” نجل الرئيس الأمريكي الحالي جون بايدن المتعلقة بتورطه كرجل أعمال بممارسات غير قانونية في اوكرنيا. ويؤكد الخبير على أن ترامب لم ينسَ كل هذا، بالتأكيد”. وأحد البنود ذات الأولوية في الخطة هو الوقف الفوري للبعد العسكري للصراع.
ولا يقتصر هذا على الوفاء بالوعود الانتخابية بأن يكون “رئيساً للسلام، وليس الحرب”، بل أيضاً نقل المسؤولية من على عاتق واشنطن إلى كييف. من الواضح أنه لتنفيذ هذه النقطة، سيكون من الضروري إجبار القيادة الاوكرانية على التفاوض، وبشروط أقل مؤاتاة لها بكثير من تلك التي أصرت عليها إدارة بايدن مؤخرًا، كما يتذكر فلاديمير فاسيليف. وبرأيه إن التغيير الأكثر أهمية هو أن الغرب الآن لا يصر على إبقاء أوكرانيا داخل حدود عام 1991. والآن تبحث الولايات المتحدة عن طريقة للابتعاد عن التطور في اوكرانيا دون خسائر، وهذا غير واضح حتى الآن. وما أصبح أكثر وضوحا هو محاولة “الاختباء” قانونيا خلف أوكرانيا – بحيث تقع مسؤولية الاتفاق على زيلينسكي. وهذا ما يريده ترامب. وهذا يعني أن أوكرانيا، بطبيعة الحال، يجب أن تدخل في المفاوضات. وبالتالي، يتحمل زيلينسكي المسؤولية بالكامل عن النتائج. ولكن بالنسبة له فإن هذا يشكل انهياراً واضحاً للنظام السياسي، وربما تشهد البلاد في فترة من عدم الاستقرار الشديد، والتي سوف تشتد بشكل خاص عندما تدرك أن الغرب قد تخلى عنها، تماماً كما تخلى مؤخراً عن أفغانستان.
وقد أكد ترامب مرارا على سلبيات المشروع الأوكراني المميتة وتأثيرها على الحياة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة. فأوكرانيا على حد تعبير زعماء المحافظين (فانس، وماسك، وراماسوامي، وكارلسون وآخرين)، أصبحت “آلة ضخمة لغسل الأموال”، ترتبط بشكل مباشر بحرب النخب السياسية الأميركية. ولذلك، يبدو أن إدارة البيت الأبيض الجديدة مهتمة بالانسحاب من المشروع، بحيث يتحمل الحلفاء الأوروبيون جميع التكاليف المرتبطة بهذه العملية.
لقد تحدث ترامب، مثله كمثل كيث كيلوج وجميع رفاقه من ذوي النفوذ، مرارا عن ضرورة إعادة توازن السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في أقرب وقت ممكن من أجل “اللحاق” بالاتجاه الجيوسياسي الكبير. وبهذا المعنى، فإن أوكرانيا مثيرة للاهتمام باعتبارها أحد الأصول للشركات العابرة للحدود الوطنية والنخب، التي تربط أنصار ترامب علاقة معقدة بمستقبل غامض.
ويشير فلاديمير فاسيلييف إلى أن الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة يود أن “تحل” قضية أوكرانيا من تلقاء نفسها. و يصر دونالد ترامب ومبعوثه المقبل كيث كيلوغ بشدة على بدء المفاوضات على وجه التحديد من أجل فصل القضية الأوكرانية عن سياستهما الخارجية. وإذا كان هذا مشروعًا ذا أولوية بالنسبة لإدارة بايدن، وكان الهدف هو الهزيمة الاستراتيجية لروسيا، فإننا نرى الآن عملية إعادة التوازن نحو الشرق التي بدأت بالفعل.
وترامب عازم على ضمان خروج أوكرانيا أخيرا من الأجندة الدولية. ويعتقد فاسيلييف أنه بالنظر إلى كيفية تطور الوضع في الشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإن الغرب الجماعي سيغادر أوكرانيا عاجلا أم آجلا.