يحرص الرئيس التونسي قيس سعيد على تطوير أداء الدبلوماسية التونسية لتكون في مستوى المرحلة الدولية التي تتّسم بتغييرات كبيرة، لكن الهدف الأهم هو الاهتمام بالجالية التونسية، وهو ما كان أشار إليه الرئيس سعيد خلال لقائه محمد علي النفطي، وزير الخارجية والهجرة، وتشديده على المزيد من الإحاطة بالتونسيين بالخارج وتقديم أفضل الخدمات لهم عن بعد حتى لا يتجشموا عناء التنقل إلى مقرات السفارات والقنصليات.
وواضح أن الرئيس التونسي يتابع ويقرأ ويستمع إلى الأصوات التونسية الموجودة في الخارج والتي توجه ملاحظات حول أداء الدبلوماسية التونسية، وتحث الرئيس سعيد على التدخل بشكل مباشر لتغيير أداء ممثلي الدولة في الخارج والانفتاح أكثر على الجالية.
ومن المهم أن تخرج السفارات والقنصليات التونسية من دائرة العمل الإداري الروتيني القائم على أداء الوظيفة إلى بناء علاقة حوار وتواصل مع التونسيين بالخارج وربطهم ببلدهم، وكشف المزايا التي توفّرها لهم تونس. وهذا أمر مهم، ويدخل في صلب توجهات الدولة وأولوياتها لإشراكهم في التنمية.
فالتونسيون بالخارج لا يحتاجون إلى خطاب رسمي يشعرهم بأنهم جزء من الدولة والبلاد، فهذا يعرفونه ويؤمنون به ويعملون على تجسيده من خلال إصرارهم على تنظيم زيارات سنوية لقضاء العطل الصيفية في تونس. وما يحتاجه هؤلاء هو أن تحول الدولة خطابها السياسي إلى إجراءات تفصيلية لمساعدة أبناء الجالية في الخارج وحين العودة إلى البلاد. ومسألة الإجراءات قديمة ومتجددة، وكل حكومة تأتي وتذهب دون أن تحلها، وهي تحتكم إلى مقاربة مقلوبة تقوم على فكرة تأمين سبل استفادة الدولة من أبنائها في الخارج من خلال تحصيل الضرائب وحث الجالية على إقامة المشاريع وتحريك دواليب قطاعات مثل قطاع السكن وما يسمّى في تونس بالبعث العقاري، وهي مشاريع سكنية ينجزها رجال أعمال مدعومون عادة من الدولة، بدلا من مقاربة يربح فيها الطرفان.
وما تزال بعض الدوائر داخل الدولة تنظر إلى الجالية على أنها مصدر ثراء يمكن أن يفيد الدولة ويفيد بعض الفاعلين في أجهزة الدولة خاصة الديوانة، حيث تكثر الشكاوى من بعض العاملين في هذا الجهاز من التعقيدات التي يضعونها أمام عناصر الجالية من أجل دفعهم إلى القبول بتسويات ثنائية مع الموظف الذي تولّى المعاملة. وصحيح أن الخروقات التي تحصل لا تمثل جهاز الديوانة لكنها تكشف عمق نفوذ البيروقراطية داخل الدولة وانتشار ثقافة التدخلات.
ويمكن للدولة، التي صارت تحارب الفساد واللوبيات بجدية في السنوات الأخيرة، أن تضع جهاز الديوانة تحت المراقبة الدقيقة، وكذلك تليين القوانين وتعديلها بما يتطلبه الوضع، من أجل بناء الثقة مع الجالية وتشجيعها على زيادة منسوب الزيارات للبلاد، وخاصة بناء مشاريع صغرى والاستثمار في البلاد وجلب العملة الصعبة، وهي خط مهم في تحسين واقع البلاد.
ويعوّل المسؤولون التونسيون على تواصل وتيرة نمو التحويلات المالية للمهاجرين، والتي باتت تشكل عنصرا مهما يسهم في تنمية الاقتصاد خاصة وأنها استطاعت التفوق على صناعة السياحة خلال السنوات القليلة الماضية في ظل تراكم المشكلات. وبقيمة 2.7 مليار دولار بلغت تحويلات التونسيين لعام 2023 إلى بلادهم. وتعتبر هذه الأموال أحد موارد النقد الأجنبي للبلاد، كما أنها تساعد الأسر في دعم قدرتها الشرائية وسط أوضاع معيشية صعبة.
إقرأ أيضا : بعد 25 عاما من حكمه لروسيا… ماذا حقق بوتين؟
ولا يمكن أن يستمر التفكير السائد في العلاقة مع الجالية بنفس الآليات القديمة، التي تضع التونسي المقيم في الخارج أمام قوانين متشعبة وإجراءات ووثائق كثيرة شأنه شأن التونسي الذي يقيم في البلاد. ومن مصلحة الدولة قبل غيرها أن تغير القوانين والثقافة التي تحيط بتنفيذ تلك القوانين، وأن تشيع لدى مختلف الأجهزة والإدارات أن الزيارات السنوية للمقيمين في الخارج في صالح الدولة، واستثماراتهم على ضآلة رأسمالها تخدم الجميع.
فهناك ثقافة مترسخة في البلاد ما تزال تتعامل مع التونسيين في الخارج منذ سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، وهي تصنيف الذين يعملون في الخارج على أنهم طبقة من العمالة التي تشتغل في الأعمال الشاقة مثل المشتغلين في قطاع البناء ورفع الأحمال وعمال المصانع والحراسة، في وقت كانت فيه الدولة التونسية تنفق الكثير على الطبقة المتوسطة التي تعيش في تونس ما كوّن نظرة أو ثقافة احتقار للوافدين خاصة باستعمالهم خليطا من لغة فرنسية مكسرة وعامية تونسية وجزائرية.
الوضع الآن تغير، ولم يعد ما يبرر وجود ثقافة الاستعلاء على العمال في الخارج لاعتبارات منها أن الجيل الأول للمهاجرين التونسيين، الذين خرجوا مع بداية الاستقلال وعملوا في المهن الشاقة يكاد يختفي ويترك مكانه لأبناء ذلك الجيل وأحفادهم، وهم يحملون جنسيات دول غربية ومستواهم العلمي مختلف والكثير منهم لديهم أعمال تدر الأموال، ومن مصلحة الدولة حسن استقبالهم وتشجيعهم على الاستمرار في زيارة بلدانهم الأصلية لأن وضع المزيد من العراقيل والتشدد في المعابر الحدودية سيقودان إلى نفور الأجيال الجديدة من زيارة البلاد، وهذا القرار له نتائج سلبية ماليا واقتصاديا على البلاد.
وهناك فئة أخرى من المهاجرين التونسيين، وهي تمثل ثقلا كبيرا، وتخص أولئك الذين غادروا البلاد للعمل بديبلومات علمية، وهم موجودون في الغرب كما في الخليج، وهذه نوعية خاصة أغلبهم يعملون ضمن عقود محدودة زمنيا، وفيهم من هاجر بعقود تحت رعاية مؤسسات الدولة، والبعض الآخر غادر بجهود خاصة مستفيدا من نوعية الاختصاصات العلمية التي تقدمها تونس وتجد صدى ومقبولية في دول كثيرة.
هذه الفئة تحتاج إلى مقاربة حكومية أكثر لينا وتفهما، خاصة أن هذه الفئة من المتوقع أن تتسع دائرتها في كل الاتجاهات، وتصبح جزءا رئيسيا في مقاربة الدولة التعليمية بأن تدفع التعليم لتخريج كفاءات وفق الاختصاصات المطلوبة في السوق الخارجية طالما أن السوق الداخلية محدودة ولا تلبي طموحات الأجيال الجديدة، وتصبح العمالة التونسية في الخارجية جزءا رئيسيا في المنوال التنموي.
لكن الاهتمام الحكومي يحتاج إلى أن يتجاوز فكرة تحصيل الضرائب من الجالية سواء التي استوطنت في الخارج، أو التي ما تزال مرتبطة بشكل مباشر بالبلاد، ومنهم خريجو الجامعات. فالجالية تدفع الضرائب في الدول التي تعمل فيها، فكيف يمكن أن تدفع ضريبة أخرى لتونس حتى وإن كانت البلاد في حاجة ماسة إلى العملة الصعبة.
ما معنى أن يطالب بعض النواب، أو يعدّون مبادرة لعرضها على مجلس النواب، للمطالبة بفرض ضريبة على خريجي الجامعات الذين يعملون بالخارج تحت عنوان استرجاع تكاليف التعليم والتدريب في بلد يرفع شعار مجانية التعليم، حيث يقول النائب بالبرلمان فخرالدين فضلون “يجب على التونسيين العاملين بالخارج دفع 600 دينار شهريا لفائدة الدولة التونسية لمدة 5 سنوات.”
إن العلاقة مع الجالية يجب أن تتجاوز النظرة القريبة، التي تحتكم لها بعض الدوائر الحكومية والشعبية، التي تحسد العمال التونسيين في الخارج على تحسين مستوى عيشهم وعيش أسرهم، إلى نظرة أكثر شمولا بأن تفتح الباب أمام التونسيين لتحسين مستوى عيشهم أولا وثانيا تأمين السبل أمامهم للقيام بمشاريع واستثمارات في البلاد. ومع الوقت ستتضح أهمية دور الجالية ماليا واستثماريا، وخاصة شعورها بأن البلد في حاجة إليها وإبداء العزم على المساهمة المباشرة في تطويره والمشاركة في ذلك بحماس وقطع الطريق على المزايدات السياسية التي ما تزال تجد لها صدى في الخارج.
إن توصيات قيس سعيد لوزير الخارجية لتطوير أداء السفارات والقنصليات هدفه الاهتمام بموضوع الجالية والخروج به من الروتين الإداري وربط تلك الجالية بالوطن الأم بشكل آمن على مختلف الواجهات. بمعنى على الدبلوماسية التونسية أن تغادر مربع البرود وأن تكون في مستوى الخطاب الرسمي الذي يريد من المسؤولين أن يعملوا ليل نهار لخدمة الناس بدل الجلوس في المكاتب.