يبدو أن جوهر النقاش تعرض للنسيان وسط كل الضجة التي صاحبت تصويت مجلس العموم على المطالبة بوقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة.
إذ إن مشروع قرار الحزب الوطني الاسكتلندي، الداعي لوقف إطلاق نارٍ فوري، سيثير إحراج قيادة حزب العمال، التي قضت الأشهر الخمسة الماضية من القصف القاتل على غزة وهي تتفادى قول ذلك تحديداً. وكان مشروع قرار الحزب الوطني الاسكتلندي واضحاً، وقاطعاً، ومتماشياً تماماً مع الرأي العام السائد في الجزر البريطانية.
حيث دعا الحزب الوطني الاسكتلندي إلى وقف إطلاق نارٍ فوري دون شروط. بينما منح مشروع قرار حزب العمال حق النقض للحكومة الإسرائيلية، وذلك من خلال الإصرار على إفراج حماس عن الأسرى كشرطٍ مسبق لبدء وقف إطلاق النار.
يعني هذا أن دعوة حزب العمال لـ”وقف إطلاق النار الفوري” لم تكن دعوةً في الواقع، لأنها سمحت لإسرائيل بمواصلة القتال.
هناك أغلبية واضحة -وتتزايد سريعاً- من الجمهور البريطاني الذي ضاق ذرعاً بهذه الحرب، وهو أمر بات يمثل حقيقةً مزعجة بالنسبة للمدافعين عن إسرائيل من المحافظين ومن حزب العمال على حدٍّ سواء. وتريد تلك الأغلبية وقف إطلاق النار فوراً، إذ يدعم 66% من البريطانيين وقف إطلاق النار. وتقول النسبة ذاتها إن إسرائيل يجب أن تكون مستعدةً للدخول في مفاوضات سلام مع حماس، بزيادةٍ قدرها خمس نقاط مئوية عن نوفمبر/تشرين الثاني. بينما يعتقد 13% فقط أن إسرائيل يجب أن تواصل الحرب، ويرى 24% فقط أن الهجوم على غزة له ما يبرره – بتراجع قدره خمس نقاط مئوية.
ويُمكن القول إن الجهد المخطط له بعناية وسرية لتعطيل التصويت على مشروع قرار الحزب الوطني الاسكتلندي مثّل تحدياً لإرادة الشعب البريطاني، التي عبّر عنها بكل وضوح.
فقد برر رئيس مجلس العموم ليندسي هويل قراره بكسر السوابق التاريخية، حين سمح بالتصويت على ثلاثة قرارات منفصلة ليُحبط بذلك مشروع قرار الحزب الوطني، قائلاً إنه شعر “بقلق كبير للغاية على سلامة كافة الأعضاء”.
وبدأت حينها محاولة وجيزة لتحويل النواب الذين دعموا هذه الحرب الخسيسة إلى ضحايا، وإلى أهداف لخطاب الكراهية “الإسلامي”. ويتطلّب الأمر شيئاً من الوقاحة لتحويل النواب -الذين برروا باستمرار الحرب التي قتلت 30 ألف فلسطيني- إلى ضحايا لخطاب الكراهية، بدلاً من كشفهم على اعتبارهم ممن أنكروا الإبادة الجماعية.
لغة التضليل الأورويلية
قال زعيم حزب العمال كير ستارمر مراراً إن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، وذلك بعد وقت طويل من اللحظة التي اتضح فيها أن الحرب تستهدف سكان غزة ككل. وقد عرقل بشكلٍ متكرر الدعوات لوقف إطلاق النار.
بل ودافع محامي حقوق الإنسان السابق عن العقاب الجماعي أيضاً، حين قال بوضوح إن إسرائيل لها الحق في قطع الماء والوقود.
ومن الممكن محاكمة ستارمر، مدير النيابات العامة السابقة، بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية بسبب ذلك التصريح وحده، رغم أنه سحبه في وقتٍ لاحق، لكن لماذا؟! حين يمكن تحويل الأمر عن طريق استخدام لغة تضليل أكثر أورويلية (هي صفة لحالة، أو فكرة، أو ظرف اجتماعي نسبة لما حدده جورج أورويل كأداة لتدمير رفاهة العيش في المجتمعات الحرة)، وتحريف أكبر للواقع، من أجل تحويل المتظاهرين المؤيدين لفلسطين إلى إسلاميين متطرفين. وقد تركز اهتمام خاص هنا على بن جمال، مدير حملة التضامن مع فلسطين.
لكن المشكلة الأولى هنا هي أن جمال ليس مسلماً، بل هو مسيحي، وابن نائبٍ أسقفيٍ أنجليكاني أيضاً. ولا يروج جمال لتهديد النواب البرلمانيين، لكنه يدافع عن حق الاحتجاج أمام مكاتب دوائرهم ومحاسبتهم.
عندما سُئل في إحدى لجان الشؤون الداخلية، في شهر ديسمبر/كانون الأول، إذا كان يؤيد هتاف “من النهر إلى البحر”، رد جمال: “إنني أُسأل هذا السؤال: “هل تتسامح مع هذا الهتاف”، نحن لا نتسامح معه، نحن نهتف به”.
قال جمال: “أنا أتحدث بوصفي فلسطينياً، هذا هتاف تستخدمه الغالبية العظمى من الفلسطينيين. إنه يصف مدى حرمانهم من حقوقهم في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، ويتضمن ذلك إذا كانوا مواطنين بدولة إسرائيل أو إذا كانوا يعيشون تحت الاحتلال العسكري. إنه لا يسعى بدون أي شكل أو أي أسلوب لإلغاء حقوق أي شخص آخر”.
ينبغي للأشخاص الذين يعتقدون أن هذا الهتاف يمثل دعوة لإبادة اليهود الذين يعيشون في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة، أن يتوقفوا وقفةً من أجل التأمل.
من هم المتطرفون؟
استُخدم شعار من النهر إلى البحر عن طريق جميع الساسة في حزب الليكود منذ عام 1977. فقد ورد في بيان حزب الليكود في ذلك العام: “بين البحر والأردن، لن تكون هناك إلا سيادة إسرائيلية”.
لذلك فإن مكمن الخلاف هو: لن تكون إبادة جماعية حين يستخدم القادة اليهود العبارة، لكنها ستكون إبادة جماعية عندما يستخدمها الفلسطينيون، سواء أكانوا مسيحيين أو مسلمين. في تعريف معاداة السامية، الذي يأخذ في التوسع، والذي لا يُسمح بالجدال حوله، فإن كل أوجه الانتقاد الموجهة إلى إسرائيل يُحكم عليها بأنها معاداة للسامية.
ومثلما تكشّف في أحداث الجمعة 23 فبراير/شباط، صار واضحاً أن هذا الجدال لم يكن متعلقاً بالعقل أو العدالة، بل كان متعلقاً بالعاطفة والتشويه. وقد خلا كذلك من أية أدلة، المثير للفضول أنه ليست هناك أية تهديدات موجهة إلى النواب يجري التحقيق حولها عن طريق الشرطة أو مدير النيابات العامة.
استُدعيت إلى الأذهان ذكرى جو كوكس، النائبة البريطانية التي اغتيلت في دائرتها، في يونيو/حزيران 2016. المشكلة الصغيرة أن النائبة جو كوكس اغتيلت على يد يميني متطرف. وقد خُصص لثلاث نائبات حراس شخصيون على حساب الخزانة العامة، ولكن هنا تنبع المشكلة الثانية: مَن يكون المتطرف، وماذا يكون؟
إذا كان لحكومة وزير المساواة والمجتمعات المحلية، مايكل غوف، أن تفعل ما يحلو لها، فإن تعريف التطرف سوف يستهدف الأشخاص الذين على صواب (أي المجلس الإسلامي البريطاني، وحملة التضامن مع فلسطين)، لكنه سوف يستثني الأشخاص الذين على خطأ، والذين يصادف أنهم أيضاً أعضاء في حزب المحافظين (لي أندرسون، وليز تراس، وسويلا برافرمان، وروبرت جينريك).
من حسن حظ الديمقراطية في بريطانيا، أن المحاكم لا تزال تعمل باستقلالية عن الحكومة، وقد دأب المحامون على منع صياغة تعريف التطرف بالطريقة التي صيغ بها مشروع قانون الأمن ومكافحة الإرهاب لعام 2015. لكن الحالة المزاجية التي يخلقها طرف مجلس العموم ليست من أجل رفض الصعوبة القانونية الأساسية.
وفي ظل عجزها عن صياغة تعريف ملزم قانونياً للتطرف، استعانت الحكومة بمصدر خارجي لحل المشكلة عن طريق تأسيس لجنة مكافحة تطرف (CCE)، يرأسها أشخاص أصحاب سجل حافل بالتحزب حول هذه القضية.
أولاً جاءت سارة خان، التي حاولت إعادة توصيف التطرف غير العنيف بأنه “تطرف بغيض”. في ظل رئاسة سارة خان للجنة مكافحة التطرف، وسعت اللجنة نطاق مكافحة التطرف كي لا يقتصر على التركيز على التطرف الإسلامي، بل أيضاً على الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة والأيديولوجيات الأخرى. أيدت سارة خان “نهجاً يركز على الضحايا” لمكافحة التطرف.
وبعد ذلك جاء روبرت سيمكوكس، الذي خلفها في منصب مفوض مكافحة الإرهاب. وُصف تعيينه عن طريق منظمة Mend، وهي منظمة دفاع عن المسلمين، بأنه “مقلق للغاية بالنسبة للمجتمعات المسلمة”. حيث عبر سيمكوكس الأطلسي كي يعمل مع المراكز الفكرية اليمينية الداعمة لمهاجمة المجتمعات المسلمة.
حيث بين عامي 2008 و2011، عمل سيمكوكس في مركز التماسك الاجتماعي (CSC)، وهي المنظمة التي وصفها أحد مؤسسيها، وهو ماثيو جاميسون، بأنها “حيوانة متوحشة”، وأنها “منظمة عنصرية ومعادية للمسلمين بصورة عميقة”.
وفي عام 2016، شغل سيمكوكس منصباً جديداً، وهو زميل بحوث في مركز مارغريت تاتشر للحرية، التابع لمؤسسة التراث (The Heritage Foundation) الأمريكية، التي كانت مهمة للغاية لإدارة ترامب، لدرجة أن صحيفة The New York Times وصفتها في 208 بأنها “تزود حكومة ترامب” بالموظفين.
بالإضافة لذلك، في مقال يعود لعام 2019 كتبه لمؤسسة التراث، رفض سيمكوكس رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، معتبراً إياه “مفهوماً مراوغاً”. كتب سيمكوكس: “الغموض والالتباس المحيط بمعنى الإسلاموفوبيا يسمح للإسلاميين باستخدام المصطلح لإسكات أي انتقاد موجه لدينهم، وفرض قانون تجديف غير رسمي خلسةً”.
وبسجل حافل كهذا، يصعب وصف سيمكوكس بأنه حَكمٌ محايدٌ في قضيةٍ تعد جوهريةً بالنسبة للعلاقات المجتمعية بالمملكة المتحدة، بل الأصح وصفه بأنه أحد مشجعي تصنيف التطرف الخاص باليمينيين.
جرعة سامة
امزج التهاون المتأصل تجاه خطاب الكراهية الموجه للمسلمين داخل حزب المحافظين، مع استخدام مستشارين يرون الفوائد الانتخابية الكامنة في التلاعب بنظرية الاستبدال العظيم، امزج كل هذا مع قضية فلسطين، وسوف تحصل على جرعة سامة حقاً، جرعة قادرة على إشعال فتيل التوتر المجتمعي وتقويض حرية التعبير.
وقد برز الأمر في الواجهة عندما أبلغ لي أندرسون قناة GB News بأن الإسلاميين يسيطرون على عمدة لندن صادق خان. قال لي أندرسون: “لا أعتقد أن الإسلاميين سيطروا على بلادنا، لكن ما أعتقده هو أنهم سيطروا على (صادق) خان، وسيطروا على لندن… سلَّم (خان) عاصمتنا لزملائه”.
جاءت تعليقاته في أعقاب مقالة لوزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان، في صحيفة The Daily Telegraph، التي كتبت فيها أن “الحقيقة هي أن الإسلاميين، والمتطرفين، والمعادين للسامية، يتحكمون بزمام الأمور الآن”.
رفض أندرسون الاعتذار، وعُلقت عضويته في البرلمان عن حزب المحافظين، لكن ذلك القرار شابه الكثير من التردد.
قالت سعيدة وارثي ذات مرة، الرئيسة السابقة لحزب المحافظين: “إذا كانت هذه التعليقات قد أُدلي بها وكانت معادية للسامية أو معادية للمثليين، لسُحبت على الفور. مثلما قال صادق خان، لا يمكن أن يكون لدينا تسلسل هرمي للعنصرية داخل الأحزاب السياسية”، وذلك خلال حديثها مع Channel 4 News.
غير أن مثل هذا التسلسل الهرمي موجود الآن بالفعل لدى طرفي مجلس العموم، وتأكدوا أنه سوف يستخدم لكتابة قوانين جديدة، وبذلك لن يزول اليمين، بل سيستمر في دفع الحدود، إلى أن تُفقد حرية التعبير.
وبناء عليه، تتحول اليوم التظاهرات الأسبوعية بأرقام قياسية، التي تستهدف دعم فلسطين، إلى “حشود غوغاء”. ولا يسمح لأي ممثل لحزب العمال في أي مستوى بالمشاركة فيها؛ إذ يتعرضون للمضايقات والتخويف من قيادة حزبية فقدت أي ادعاء بالاستقلالية على صعيد هذه المسألة.
لا يُبدي حزب العمال أي معارضة ضد حكومة تتصدى لإرادة محكمة العدل الدولية التي عبرت عنها بوضوح، والتي أمرت إسرائيل بالامتثال لاتفاقية الإبادة الجماعية، واستهزأت بهذه الإرادة عن طريق مواصلة إمداد إسرائيل بالأسلحة.
سلام الصمت
في الأسبوع الماضي، جادلت المملكة المتحدة في محكمة العدل الدولية بأن الإجراءات القانونية يجب أن تُنحى جانباً، من أجل السماح بأن تُستأنف المفاوضات السياسية حول دولة فلسطينية.
وكأنه جاء في اللحظة المناسبة، نسف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حجة المملكة المتحدة بادعائه أن أمن إسرائيل سيكون متضارباً بوجود دولة فلسطينية، إذ كتب نتنياهو على موقع X (تويتر سابقاً): “لن أساوم على السيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب [نهر] الأردن، وهذا أمر يتعارض مع [إقامة] دولة فلسطينية”.
مرة أخرى، كبلت المملكة المتحدة نفسها خلف مفاوضات لن تقود إلى أي مكان في ظل وجود هذه القيادة الإسرائيلية أو أية قيادة أخرى، إذ إن أنصار الوضع الراهن ليس في أذهانهم سوى دولة واحدة: إسرائيل.
ومن ثم فإن هذا هو السؤال: مَن الديمقراطيون الحقيقيون، هل هم النواب داخل البرلمان، أم المتظاهرون خارجه؟ ومن الذي يمثل الشعب البريطاني أفضل تمثيل حول هذه القضية؟ ومن الذي يقوض الديمقراطية البريطانية؟ أهُمُ الفلسطينيون الذين تُذبح عائلاتهم في غزة، أم أنه التحالف غير المقدس بين المحافظين الجدد والعنصريين المعادين للإسلام، الذين يسعون لتشويه وتجريم أية مناقشة حول إسرائيل، حتى تُمحى أية صورة منها في هذه البلاد كلياً. وأي من المعسكرين يدعم القانون الدولي؟
لا ينتمي رئيس مجلس العموم البريطاني ليندسي هويل إلى أي منهما، لكنه يرضخ أمام التخويف. فقد نكث بوعده للحزب الوطني الاسكتلندي بأن يسمح بتصويت ثانٍ على اقتراح وقف إطلاق النار.
إن السلام لن يستعاد في فلسطين عبر منح إسرائيل حرية التصرف المطلقة، لكن سلاماً من نوع ما يمكن أن يُفرض في شوارع لندن، وسيكون هذا سلام الصمت، فهل هذا هو ما صارت عليه بريطانيا؟