وهكذا، وصلت الأمور إلى حد الانفجار الحتمي، لكن هذا الحد لم يبلغ مداه فجأة، بل كان يعتمل في المرجل وعلى مهل، وكانت نقطة التحول (بالنسبة لـ”حماس”) عقب معركة سيف القدس في أيار 2021، أي حين أدركت “حماس” ضرورة التغيير والتحرر من قواعد الاشتباك والمعادلات التي حددت علاقتها بإسرائيل، والتي باتت مصدر حرج لها، وأدركت أن مصيرها صار على المحك، خاصة مع تدهور الأحوال المعيشية في غزة، وفقدان “حماس” العديد من مصادر تمويلها وحلفائها في الإقليم، وبعد فشل كل محاولاتها دخول المجتمع الدولي ونيل اعتراف رسمي بسلطتها، فكان عليها قلب الطاولة على الجميع.
هنا يجدر الحديث عن التحولات السياسية والفكرية لدى الحركة، فمنذ دخولها السلطة، ومن ثم سيطرتها على القطاع فعلت “حماس” كل ما بوسعها لنيل اعتراف إقليمي ودولي بها، بصفتها حركة سياسية ولاعباً أساسياً ومهماً في المنطقة، وبذلت جهوداً كبيرة من أجل دخول نادي المجتمع الدولي، واللعب ضمن قوانينه وقواعده، وأبدت ما فيه الكفاية من المرونة والبراغماتية لتحقيق هذا الهدف.
في البداية قبلت “حماس” الدخول في السلطة الوطنية (وتحت مظلة أوسلو) حين قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية في 2006، وبالفعل، نجحت في الانتخابات، ولم تدخل السلطة وحسب، بل صارت هي السلطة نفسها، إذ هيمنت على المجلس التشريعي، وشكّلت حكومة حمساوية، وبدأت تتصرف كسلطة سياسية.
وقد صرح هنية أنه يسمح لوزراء حكومته التعامل مع نظرائهم الإسرائيليين في الحاجات المدنية والإنسانية، ما عدا القضايا السياسية.
وبدأت “حماس” تطرح مبادرات سياسية تارة بشكل معلن وواضح، وتارة بطريقة مواربة من خلال أطروحات ومقالات لشخصيات مقربة منها، أو محسوبة عليها، مبادرة أحمد يوسف مثالاً، ومبادرة دويلة غزة، والحدود المؤقتة.
ثم صرحت علانية بقبولها الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وأميركا، وحينها صرح موسى أبو مرزوق بأن المفاوضات جائزة شرعياً، وليست من المحرمات.
ثم صرحت علانية، وفي أكثر من مناسبة، بقبولها بالحل السياسي القائم على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود الـ67، وعاصمتها القدس مع حل قضية اللاجئين.
وطرحت عدة مرات (أثناء وبعد الانتفاضة الثانية) هدنة طويلة الأمد من 10 إلى 20 سنة، مقابل وقف العمليات المسلحة.
كما تطرقت مراراً وتكراراً لقضايا الحل السياسي على أساس التسوية السلمية، فمثلاً في برنامجها السياسي الانتخابي العام 2006، وكذلك في تبنيها وثيقة الأسرى، وفي بيان حكومة الوحدة الوطنية، وفي عشرات التصريحات لقياداتها والناطقين باسمها، كانت تدور في فلك التسوية السلمية، بقبولها لها وفقاً لمعايير الشرعية الدولية.
وقد توجت هذه التغيرات بإصدارها وثيقة سياسية رسمية، أعلنت عنها من الدوحة في نيسان 2017، واعتبرت بمثابة دستور “حماس” الجديد، وبديلاً عن ميثاق “حماس” التي أعلنته في تموز 1988، ربما كان البند الأهم في الوثيقة قبول “حماس” بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران.. وعدم ذكر أي إشارة أو جملة بخصوص القضاء على إسرائيل.
حتى أن “حماس” قررت في 2018 اعتماد المقاومة الشعبية السلمية، على أمل إيصال رسالة مفادها أن المقاومة الشعبية بديل عن القوة العسكرية.
وهكذا، وبينما كانت القيادة السياسية للحركة تعلن عن تفاصيل واقعيتها السياسية، واستعدادها للتنازل وإبداء المرونة المطلوبة، كانت تلاقي الصد العالمي، وتجاهل هذه الإشارات، وعدم الاعتراف بها، بل ومحاولات إدراجها على قائمة الإرهاب. رغم أن موافقة إسرائيل على مشاركة “حماس” في انتخابات 2006 جاءت بعد ضغوطات أميركية عليها، ومن خلال قطر، وكذلك نقل مقر المكتب السياسي لـ”حماس” إلى الدوحة جاء بتعليمات أميركية، بحسب ما أوضحت سفارة قطر في واشنطن.
ويبدو أن أميركا أرادت توريط “حماس” بإدخالها اللعبة السياسية، ثم أخذت تراقبها، لكنّ اللغة المزدوجة والسياسة المواربة لقادة “حماس” خلقت عائقاً أمام الدول الكبرى لقبول “حماس” والاعتراف بها. فيما اختارت إسرائيل شيطنة الحركة أمام الرأي العام، ومواصلة الحصار على غزة، لأنها تفضل “حماس” المتشددة والمصنفة كحركة إرهابية على “حماس” العقلانية والمعتدلة، وفوق ذلك تحدث نتنياهو علانية عن الفوائد التي تجنيها إسرائيل من انتهاج سياسة الفصل بين الضفة والقطاع كوسيلة لتقويض فرص إقامة الدولة الفلسطينية. ولتحقيق ذلك قررت احتواء “حماس” وحشرها ضمن معادلة “التوازن العنيف”، ومع استمرار الحصار لجأت “حماس” للقوة العسكرية واستخدامها كوسيلة للتفاوض مع إسرائيل، لكن تدريجياً.
المهم في النتيجة أن “حماس” شعرت بالإحباط جراء تعنت المجتمع الدولي، وتواطُئه مع إسرائيل في حصارها الخانق على قطاع غزة، ورأت أن استمرار الوضع الحالي يقلص خياراتها، ولا يترك لها مجالاً سوى اللجوء للقوة، أو ترك سكان غزة يواجهون الموت البطيء دون أن ينظر لهم أحد، والإذعان في الضفة الغربية للفرضية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين قد هزموا، وبأنه يتحتم عليهم البقاء محصورين ومخنوقين داخل كانتونات معزولة. ومن الواضح أن “حماس” رفضت الخضوع لهذا الواقع الظالم، وقررت المواجهة عسكرياً.
وهنا يجدر التذكير بأمرين، الأول: أن “حماس” هي بدايةً حركة إسلامية تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، والذين هم مرجعيتها، ومشروع “حماس” لا ينفصل عن مشروع الإسلام السياسي، بل هو آخر معقل لهذا المشروع، وغزة هي آخر بقعة جغرافية في المنطقة العربية يحكمها ويديرها الإسلام السياسي؛ لذا لن يكون سهلاً بأيّ حال التفريط بحكم “حماس”، بل من الضروري جداً أن تُثبت سلطة “حماس” نجاحاً على الأرض، وأن تقدم نموذجاً ملهماً، أو على الأقل أن تواصل صمودها حتى آخر نَفَس. والثاني: طبيعة تحالفاتها الإقليمية، وارتباطاتها مع كل من إيران، تركيا، قطر، وهي تحالفات تقتضي منها التزام سياسات معينة.
كما يجدر التنويه أيضاً أن تياراً وطنياً مهماً نبت من داخل “حماس”، ونشأ وتطور بعد انطلاقتها (خلافاً للتيار المحافظ التقليدي الذي نشأ قبل انطلاقة “حماس”، حين كانت فرعاً للإخوان المسلمين)، وهذا التيار الوطني (وأغلبه من “كتائب القسام”) له أطروحاته وتوجهاته وتحالفاته المختلفة والمتباينة عن التيار المحافظ الذي ظل ممسكاً بقيادة المكتب السياسي.
وهذه المعطيات ينبغي فهمها قبل الانتقال بالحديث عن تحولات “حماس” في مفاهيمها العسكرية وأساليبها في المقاومة، التي أعلنها بصراحة ووضوح الشهيد “صالح العاروري”، حين قدم الرواية الرسمية لـ”حماس” بشأن “طوفان الأقصى”، مؤكداً أن التجهيز والإعداد والتخطيط للهجوم بدأ تحديداً بعد معركة سيف القدس في أيار 2021، ثم جاء خطاب “أبو عبيدة”، وأعاد التأكيد على أن نقطة التحول والاستعدادات والتدريبات بدأت منذ ذلك التاريخ.