يرتبط البلدان الكبيران روسيا وإيران بعلاقات تجارية مقبولة، وتصل التبادلات المباشرة بينهما إلى 5 مليارات دولار، وقد تعاونا سياسياً وأمنياً في ملفات دولية ساخنة، خصوصاً في سوريا، وعلى درجة أقل في أوكرانيا، بينما لا تتوافر معلومات كافية لتوضيح كامل صورة الرؤية الروسية للملف إيران النووي، رغم أن موسكو كانت شريكة في اتفاقية 5 + 1 التي تمَّ توقيعها عام 2015. لكن مركز الصدارة في هذه الاتفاقية احتلته الولايات المتحدة الأميركية، والمعلومات المتداولة في حينها تُشير الى أن إدارة الرئيس باراك أوباما قدَّمت هدية إلى طهران مقابل موافقتها على المعاهدة، وهي عبارة عن تفويض أو “قبة باط” مكَّنت إيران من الانفلاش في بلاد المشرق العربي، وفي اليمن من دون أي معارضة، رغم أن الرئيس دونالد ترامب عاد وانسحب من هذا الاتفاق عام 2018.
هذا التعاون الروسي – الإيراني لا يكفي لحرف أنظار موسكو عن مغريات أخرى أكثر فائدة لها، لا سيما في العلاقة مع تركيا، حيث تجاوز التبادل التجاري معها 55 مليار دولار، ويطمح البلدان إلى إيصاله إلى 100 مليار، ويبدو أخصام ايران في الولايات المتحدة وعلى الساحة العربية، على استعداد لتعويض روسيا أي خسائر قد تحصل جراء تراجع تعاونها مع طهران.
تراكضت إيران ثمَّ روسيا الى الساحة السورية عام 2014 عندما شعرا أن حليفهما بشار الأسد يواجه خطراً مؤكداً، قد يُطيح بنظامه. فلإيران مصالح ميثولوجية واقتصادية وأمنية يحميها الأسد في سوريا، ولروسيا مصالح جيوسياسية تتمثل في وجود قواعد عسكرية استراتيجية على الساحل السوري الذي يقع وسط شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو من أهم البحار في العالم على الإطلاق، وسوريا ذات أهواء روسية قديمة، وجيشها مُجهَّز بالأسلحة الروسية، ولموسكو استثمارات كبيرة في البلاد.
اقرأ أيضا.. روسيا تسجل انتصارا جيوسياسيا: جورجيا تعويضا من سوريا
بدأت مصاعب المساكنة السياسية بين البلدين الصديقين اللدودين على الساحة السورية تظهر منذ أكثر من عام، فقد جَنَحت إيران إلى فتح جبهة عسكرية واسعة مع إسرائيل بواسطة حلفائها، أو أذرعتها في غزة وفي لبنان، ويبدو أن هذه الحرب لم تكُن مُنسقة مع موسكو، ولا مع البيئة العربية والإسلامية المحيطة، وبالغت طهران في استثمار الساحة السورية الاستراتيجية في المعركة، رغم الضغوط التي مارستها موسكو على النظام السوري لكي لا ينخرط بالحرب. ومن ميدانيات العمل العسكري تبين أن الشكوك بدأت تتسلَّل إلى بنات أفكار الجهتين، وتبادل الاتهامات بين الحليفين خرج إلى العلن في أكثر من مرَّة إبان العمليات العدوانية التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف إيرانية. واتهم مسؤولون في الحرس الثوري بعض الضباط والأفراد المقربين من روسيا بتسريب معلومات أمنية عن المجموعات الموالية لإيران لجهات على صلة بإسرائيل، وهي لم تقُم بأي جهد لردع الطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف مواقع في سوريا، ومنها مواقع قريبة من قواعد عسكرية روسية (كما في عملية الإنزال الاسرائيلية على مصانع الصواريخ في مصياف). وروسيا أخذت موقفاً محايداً نسبياً في الحرب، ويبدو أنها أعطت ضمانات لإسرائيل بعدم تورّط النظام السوري في الحرب وأبعدته نسبياً عن منظومة “وحدة الساحات” الممانعة التي تقودها طهران.
تؤكد المعلومات المتوافرة من أكثر من جهة؛ أن موسكو طلبت من الأسد مباشرة حوار جدي مع المعارضة لإجراء بعض التعديلات على الدستور، احتراماً للقرار الدولي 2254، ووفقاً لمقررات منصة “استانا” التي رعتها روسيا وتركيا وايران، كما أنها طلبت من الأسد لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأن ذلك يُنتج بعض التوازن ويساعد النظام على وقف تراجعه المُتسارع، لكن الأسد لم ينفذ أياً من الوعود في هذا الاتجاه، او أنه لم يكُن قادراً على تحقيق هذه الرؤى. وقد أدرك الروس أن بشار الأسد غير قادر على الإيفاء بأي من وعوده، أو أنه أصبح أسيراً لدى الحرس الثوري الإيراني، ولدى بعض الذين ينسِّقون معه داخل الجيش، لا سيما الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد.
وقد أُضيفت هذه المعطيات الى الاختناق الروسي من ممارسات غير مقبولة، يقوم بها الأسد والمقربون منه في صناعة المخدرات والتجارة بها، وفي تنفيذ إعدامات لمعارضين من دون أي مُحاكمة، كما في القيام بعمليات تعذيب رهيبة للسجناء، وكل ذلك يُسيء إلى سمعة روسيا، كونها ترعى النظام وتحميه. والمفاوضات التي أجراها ضباط روس في مدينة السويداء الجنوبية خلال السنة الماضية، للتخفيف من حدة انتفاضتهم ضد الأسد، أكدت لهم أن رجال الدين الدروز في المحافظة لا يمكنهم السكوت عن ترويج النظام المخدرات بين أبنائهم، الوضعية ذاتها حصلت في محافظة درعا التي حيدها الروس من مواجهة النظام بمصالحات لم يحافظ عليها مناصرو الأسد، وأجهضوها.
واضح أن نجاح الثورة السورية لم يكُن ليحصل بهذه السهولة، في ما لو كان موقف روسيا معارضاً بشدة للتغيير، وعلى أقل تقدير كان بإمكان القوات الروسية أن تحمي قوات النظام وتدفعها إلى قتال المعارضة في مناطق الساحل المحصنة. لكن يبدو من المؤكد أن روسيا فضَّلت مجاملة تركيا، وتوليف رسالة تحضيرية إلى الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وإرضاء الرأي العام “السني” على الساحة العربية والقوقازية، وهي لا تريد أن تتحوَّل سوريا بالكامل الى ساحة صافية لمحور الممانعة بقيادة فقهية إيرانية، كما أنها لا تريد الاشتباك مع طهران لمنع ذلك، بينما المعلومات تؤكد أن روسيا تلقت ضمانات لقواعدها. أما قادة المعارضة فقد التقطوا هذه الإشارات وشرعوا لتحقيق النصر المُبين.