أذكر جيدًا تاريخ 23 سبتمبر/ أيلول عام 2000، عندما استقللت الطائرة لأول مرة في حياتي، متوجهًا إلى أوكرانيا لبدء مشوار الدراسة الجامعية.
كانت طائرة قديمة كباص “الهوب هوب” المعروف في أوساط السوريين؛ لكن اللافت أكثر كان في لحظة دخولها، فقد كانت مقسومة إلى نصفين، المقدمة للركاب (ومعظمهم طلاب وأسر)، والمؤخرة لكميات كبيرة من الأحذية و”الشحاطات”.
رائحة لاصق “الشعلة” من تلك الأحذية كانت قوية تملأ الطائرة، وبعد نحو 3 ساعات من “الشم” على متنها نزل الركاب بين من يؤلمه رأسه ومن يشعر بالدوار والغثيان، كما لو كنا “حشاشين” بلا خبرة.
اقرأ أيضا.. ماذا يخبئ المستقبل للسوريين في ما يخص الليرة السورية
ورغم ذلك، ترك الأمر في ذهني فكرة إيجابية، فالطائرة في النهاية كانت تابعة لشركة خاصة تتحرى أرخص الأسعار، لكنها تحمل جزءًا من صادرات بلادي، وأنا أعرف أن تجارها لا يوفرون وسيلة، حتى وإن خرجت عن المألوف.
صدارة التبادل التجاري
وبالفعل، كانت أوكرانيا خلال أعوامي الأولى فيها مليئة بالبضائع السورية في شتى المجالات، وكان تجارها يعرفون جيدًا أسواق وأحياء مدن كدمشق وحلب.
اندلاع الثورة السورية كان بداية تحول في العلاقات مع أوكرانيا، فالخارجية الأوكرانية انتقدت “الأوغاد” الذين يمارسون العنف بحق المتظاهرين السلميين، لكنها كانت خائفة على نحو 5 آلاف من رعاياها في سوريا
ذلك كان مدعاة للفخر والسعادة، لكنه لم يطل، فالحال تغير تدريجيًا لصالح المنتجات التركية والصينية، التي غزت أسواق أوكرانيا، حتى اختفت تمامًا بضائع سوريا. السبب لم يكن في مستوى الجودة وعدم القدرة على المنافسة، بل في حجم الضرائب التي فرضت وزادت شيئًا فشيئًا على المصدرين في القطاع الخاص وشركات الطيران، حتى بات نشاطهم “بلا جدوى”.
على مستوى القطاع العام كان الوضع مختلفًا، ووصل حجم التبادل بين البلدين إلى 2 مليار دولار، وفق ما أعلنه مسؤولون أثناء زيارة أجراها بشار الأسد إلى كييف في 2-3 ديسمبر/ كانون الأول 2010، لتتصدر سوريا قائمة الدول العربية في العلاقات التجارية مع أوكرانيا عندئذ، وتتفرد بتنظيم معارض لمنتجاتها في كييف.
بداية تحول عكسية
اندلاع الثورة السورية بعد أشهر قليلة كان بداية تحول، فالخارجية الأوكرانية انتقدت “الأوغاد” الذين يمارسون العنف بحق المتظاهرين السلميين، لكنها كانت خائفة على نحو 5 آلاف من رعاياها في سوريا، فلم تصعّد خطابها أكثر.
ربما من السابق لأوانه الحديث عن عودة العلاقات وتطويرها بين دمشق وكييف أو غيرها، لكن الأرضية باتت متوفرة بسقوط الأسد
وبالطبع كانت التجارة ضحية لبداية سوء العلاقة، الذي تفاقم كثيرًا بوصول الموالين للغرب إلى السلطة في كييف عام 2014، ومسارعة نظام الأسد إلى اعتبار أن القرم المحتلة أرض روسية، وتأييده الحراك الانفصالي الموالي لروسيا في جنوب شرق البلاد حينها أيضًا.
لكن الأسوأ من ذلك كله جاء في فبراير/ شباط 2022، بتأييد نظام الأسد لروسيا في حربها على أوكرانيا، وإرسال نحو 300 “جندي سوري متطوع” للقتال على جبهات كييف، وفق ما أعلنه الأوكرانيون آنذاك.
بطبيعة الحال، أعلنت أوكرانيا قطع العلاقات مع سوريا، وطردت بعثتها الدبلوماسية، ثم أغلقت السفارة؛ وتراجع التبادل التجاري من الصدارة إلى الصفر، ووضع السوريون لفترة وجيزة في زاوية الشك والتخوين، داخل مجتمع أوكراني لا يدرك جيدًا الفرق بين مؤيدي الأسد ومناوئيه.
النظرة إلى إمكانات ومكانة سوريا تراجعت على جبهات السياسة والاقتصاد؛ بسبب مواقف الأسد، فلم يبقَ لسوريا أي اسم في الأسواق الأوكرانية، إلا في بعض محلات وأكشاك تقدم “الشاورما السورية” على أنها ألذ وأكثر تميزًا.
لم تعد هذه المواقف على عامة السوريين بأي فائدة ملموسة تذكر، لكنها قوبلت بابتسامة رضا من روسيا في وجه بشار الأسد، الذي حمت نظامه وساعدته على صد الثورة 9 سنين.
فرحة وسخرية
وفي هذه الأيام، بعد أكثر من 13 عامًا على بداية الثورة، سقوط نظام الأسد لم يكن فرحة للسوريين فقط، فرغم الحرب المستمرة في أوكرانيا، نجد اهتمامها الإعلامي منصبًا على ما حدث وسيحدث في سوريا.
والأسد صار اليوم موضع نكات وسخرية بين الأوكرانيين؛ فهم يذكرون قوله مستهزئًا في يوم ما: “لا يهرب إلا القاتل والفاسد”، وقوله أيضًا: “أنا لست يانوكوفيتش لأهرب إلى روسيا”، ثم فر ولجأ مع أسرته وأموال طائلة إلى روسيا، تمامًا كما فعل الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش في 2014.
ربما من السابق لأوانه الحديث عن عودة العلاقات وتطويرها بين دمشق وكييف أو غيرها، لكن الأرضية باتت متوفرة بسقوط الأسد، والنوايا موجودة، والفعل لا ينقصه إلا استقرار ونهوض سوريا.