من المثير للسخرية كيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي عارض بشدة إنشاء دولة فلسطينية، جعل من إقامتها أمرا لا رجعة فيه بسبب سياساته المضللة ونزعته الأيديولوجية المتطرفة. إن الطريقة التي أدار بها حرب غزة لم تؤد فقط إلى حتمية قيام دولة فلسطينية، بل إلى نهايته السياسية.
إن الاعتراف الأخير بالدولة الفلسطينية من قبل إسبانيا وأيرلندا والنرويج هو أحدث ضربة لسياسة نتنياهو المضللة بشكل فظيع تجاه الفلسطينيين والتي اتبعها طوال حياته السياسية لمنعهم من إقامة دولتهم الخاصة خلال فترات حكمه كرئيس للوزراء كما قال مرارا وتكرارا.
ويأتي هذا الاعتراف بالإضافة إلى الأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بالدولة الفلسطينية. في الحقيقة، لا ينبغي أن يكون أي مما سبق مفاجئا، إذ كانت الكتابة على الحائط لعقود من الزمن، وكانت مسألة وقت فقط قبل أن تتكشف هذه الحتمية. وكان القرار الأخير الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو، واتهامه بارتكاب جرائم حرب، بمثابة توبيخ مهين آخر لنتنياهو بسبب قسوته في الطريقة التي يدير بها حرب غزة.
إن الموت والدمار المروعين اللذين لحقا بإسرائيل والفلسطينيين في غزة نتيجة لهجوم حماس في أكتوبر 2023 والذي أدى إلى ذبح 1200 إسرائيلي والحرب المستمرة وغير المسبوقة ضد حماس التي قتلت 35000 فلسطيني، والمعاناة الإنسانية التي لا توصف قد خلقت نموذجا جديدا. لقد أصبح إنشاء دولة فلسطينية، وهو الأمر الذي قاومه نتنياهو بشكل خاص طوال الأعوام الستة عشر الماضية، في مقدمة ومركز البحث عن حل دائم للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
ولم يكن بوسع وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث إيدي أن يوضح الأمر بشكل أوضح عندما قال “إن حقيقة أن هذه الحكومة الإسرائيلية، بقيادة نتنياهو، كانت واضحة للغاية إلى درجة أنها لا تنوي التفاوض مع الجانب الفلسطيني وكانت متقبلة للغاية بل وحتى الداعمة للمستوطنات الجديدة غير الشرعية، كل ذلك ساهم في قرار الاعتراف. وبمعنى آخر، إنه رد فعل على ذلك”.
يتمثّل البعد المأساوي للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني كونه أن غالبية الإسرائيليين صدقوا حجة نتنياهو الكاذبة بأن الدولة الفلسطينية ستشكل خطرا وجوديا على إسرائيل، وبالتالي فإن استمرار الاحتلال ضروري لمنع الفلسطينيين من تحقيق تطلعاتهم إلى إقامة دولتهم. ولكن ما هو البديل لحل الدولتين؟ بعد 57 عاما من الاحتلال – حتى الأحمق كان سيستنتج أن الاحتلال غير قابل للاستمرار – كم من الموت والدمار يجب أن يتحمله كلا الشعبين قبل أن يفهم نتنياهو وأتباعه المضللون بشكل أعمى أنه حتى إذا استغرق الأمر مئة عام أخرى وموت مليون فلسطيني، فلن يستسلم الفلسطينيون أو يتنازلوا أبدا عن إقامة دولة خاصة بهم.
والأمر الذي يزيد حيرة أيضا هو أن العديد من الإسرائيليين اليمينيين يواصلون الشكوى من العنف الفلسطيني. إنهم يتجاهلون الفهم الأولي بأن أي شعب يعيش في العبودية لعقود من الزمن في ظل أقسى الظروف سوف ينتفض ضد المحتل، خاصة عندما يكون له حق مشروع في أن تكون له دولة خاصة به، وهو ما يكرسه نفس قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1947 الذي منح اليهود الحق في إقامة دولتهم المستقلة.
وبالنسبة إلى 80 في المئة من جميع الإسرائيليين (أولئك الذين ولدوا بعد عام 1967)، أصبح الاحتلال هو حالة وجود طبيعية بغض النظر عن المعاناة اليومية وسوء المعاملة اللاإنسانية في الكثير من الأحيان للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تعرضوا لها وما زالوا يتعرضون لها.
كتبت في العاشر من يناير 2024 “للأسف، استغرق الأمر الحرب بين إسرائيل وحماس لإيقاظ الجانبين على واقعهما المأساوي. عليهما أن يدركا الآن أنه لن تكون هناك عودة إلى الوضع الذي كان قائما من قبل. إن الظروف التي أدت إلى الحرب بين إسرائيل وحماس عززت المطلب الذي لا مفر منه لحل الدولتين. ببساطة، لا يوجد خيار آخر قابل للتطبيق سوى مواصلة الصراع الدموي لعقود قادمة”.
ولكن بعد ذلك، ما الذي سيتطلبه الأمر لنتنياهو ووزرائه المسيانيين، وخاصة بن غفير وسموتريتش، ليستيقظوا ويدركوا أن كل يوم يمر دون حل، لن يُقتل المزيد من الإسرائيليين والفلسطينيين عبثا فحسب، بل إنّ حلّ الصراع سوف يصبح أيضا أكثر صعوبة من أي وقت مضى، وسوف يتطلب الأمر ثمنا متزايدا من الدماء والأموال من كلا الجانبين دون أي احتمال لتغيير المطلب الذي لا مفر منه لإقامة دولة فلسطينية من أجل التوصل إلى تعايش سلمي مستدام.
إن العقبات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف النبيل هائلة؛ هناك البعد النفسي للصراع الذي يجب تخفيفه، المطالبات الإقليمية والمطالبات المضادة، والنزاع حول إدارة جبل الهيكل (الحرم الشريف)، والمخاوف المتبادلة بشأن الأمن، والوضع النهائي للقدس، وأكثر من ذلك. ولكن بعد ذلك، وبغض النظر عن مدى تعقيد هذه القضايا المتضاربة، فإنها سوف تصبح أكثر صعوبة وخطورة في غياب السلام القائم على حل الدولتين.
صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي مؤخرا “لا يزال الرئيس يؤمن بالوعد وإمكانية التوصل إلى حل الدولتين. إنه يدرك أن الأمر سيستغرق الكثير من العمل الشاق. سيتطلب الأمر الكثير من القيادة الحكيمة هناك في المنطقة، خاصة على جانبي القضية، والولايات المتحدة ملتزمة بشدة برؤية هذه النتيجة في نهاية المطاف”.
وبينما أشيد بموقف الرئيس بايدن ومشاعره في ما يتعلق بمتطلبات الدولة الفلسطينية، فإنه يحتاج إلى تحريك الإبرة إلى أبعد من ذلك وتحذير نتنياهو من أنه لم يعد بإمكانه اعتبار الموقف الأميركي المتمثل في أن إنشاء دولة فلسطينية يجب أن يأتي من مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية مباشرة.
وبينما قد يختار بايدن، لأسباب سياسية، عدم السير على خطى رؤساء وزراء إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أنه يجب، على الأقل، أن يسمح للسلطة الفلسطينية بإعادة تأسيس بعثتها في واشنطن وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية. هذا إذا كان بايدن ملتزما حقا بهذه النتيجة، فيجب عليه إثبات ذلك من خلال اتخاذ إجراءات حقيقية على الأرض. هذا هو الوقت الذي تكون فيه هناك حاجة حقيقية إلى القيادة، ولا يستطيع أي رئيس دولة في جميع أنحاء العالم أن يثبت ذلك في هذه الساعة الحاسمة أكثر من الرئيس بايدن لتقريب حل الدولتين إلى الواقع.
من المؤكد أن بايدن يؤمن بما قاله رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز “هذا الاعتراف ليس ضد أحد؛ وهو ليس ضد الشعب الإسرائيلي. إنه عمل لصالح السلام والعدالة والاتساق الأخلاقي”. ويمكنني أن أضيف أن ذلك واجب أخلاقي قامت عليه إسرائيل نفسها. لقد حان الوقت لكي يدفع نتنياهو ثمن جر إسرائيل إلى هذا المستنقع المحفوف بالمخاطر. ولكن مرة أخرى، فإن الذي قاوم إنشاء دولة فلسطينية بكل ما أوتي من قوة جعل من احتمال قيامها الآن أكثر من أي وقت مضى.