كيف تتعامل الشركات التكنولوجية مع ثورة الذكاء الاصطناعي؟
التوظيف لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يحدث تأثيرًا كبيرًا في سلوكنا الرقمي، كما ذكر بيل غيتس، في شهر مايو/أيار العام الماضي، حين قال إن هذه البرمجيات ستؤثر جذريًّا في سلوكيات المستخدم الرقمية.
أصبحنا على أعتاب ثورة جديدة في عالم ذكاء الآلة، وهي هذه المرة ثورة حقيقية تسعى معها أوبن إيه آي، وغيرها من الشركات الكبرى في المجال، بكل جهدها للبحث عن منتج طموح آخر يمكنه أن يصبح ثوريًّا في المستقبل القريب، تمامًا كما فعل روبوت “شات جي بي تي” منذ بداية انطلاق رحلته.
تعمل الشركة على تطوير النماذج الحديثة المتقدمة المعروفة باسم وكلاء الذكاء الاصطناعي (AI Agents) بهدف أتمتة كل مهام العمل تقريبًا، خاصة العمليات المعقدة؛ مما يقلل الاعتماد على العنصر البشري في هذه العمليات، وفقًا لتقرير جديد صدر في شهر فبراير/شباط الماضي. وفقا للجزيرة.
النماذج التأسيسية
تضم أنظمة الذكاء الاصطناعي مجموعة من النماذج، بدءًا من النماذج التأسيسية إلى النماذج اللغوية المتطورة ثم النماذج التي تتمتع ببعض الاستقلالية. يأتي بعد النماذج التأسيسية الوكلاء المستقلون، أو وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهي نماذج جديدة متطورة مثل مشروع (AutoGPT)، تقدم مستوى أعلى من التعقيد في معالجة المهام، مما يعني إضافة طبقات جديدة من الميزات والقدرات المتطورة في كل نموذج.
الاستقلالية هنا تعني أن هذا النموذج قادر على الاستجابة للمؤثرات والمحفزات الخارجية دون الحاجة إلى تدخل بشري، بمعنى امتلاكه لإمكانية التكيّف والتفاعل مع مختلف الظروف والأحداث دون برمجة مسبقة، وهو يعمل في ذات الوقت بما يخدم الهدف الأساسي لمطوره أو المستخدم الذي يتحكم فيه.
المساعد الشخصي الشامل
وفي مؤتمر “بيلد 2024” الذي تنظمه مايكروسوفت سنويًّا، كان أحد أهم الإعلانات هو تطوير المساعد الذكي “كوبايلوت” ليصبح ضمن وكلاء الذكاء الاصطناعي، إذ صممت الشركة هذا المساعد بأسلوب جديد يغير من شكل الأعمال عبر أداء المهام التي تتطلب عادة تدخل الإنسان.
وكذلك في مؤتمر غوغل آي/أو الأخير، عرضت الشركة نسخة أولية لما تأمل أن يصبح المساعد الشخصي الشامل، وأطلقت عليه “مشروع أسترا” (Project Astra)، وهو مساعد متعدد الوسائط يعمل بالذكاء الاصطناعي في الوقت الفعلي ليتمكن من رؤية العالم ومعرفة أماكن الأشياء وأين تركتها، كما أن بإمكانه الإجابة عن الأسئلة ومساعدتك في القيام بأي شيء تقريبا، وهو نوع من وكلاء الذكاء الاصطناعي أيضًا، وهي روبوتات لا تكتفي بالردود على الأسئلة بل تنفذ مهامّ مختلفة نيابة عن المستخدم.
روبوتات المحادثة
لذا، قد يقودنا التطور الحالي إلى ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام، إذ يمكن لتلك النماذج الجديدة التفاعل مع البشر بعدّة أساليب معقدة، ويمكنها اتخاذ قرارات بصورة مستقلة في مجالات متنوعة؛ لتصبح حينها جزءًا لا يتجزأ من كل تفاصيل حياتنا، وتؤثر في أهم قراراتنا، وربما ما حدث مع الباحث البلجيكي يمنحنا لمحة بسيطة عن مدى تأثير تلك التقنيات في حياتنا مع هذا الاندماج الجديد، وهو ما يطرح سؤالًا مهمًّا: إلى أين يمكن أن تأخذنا تلك القدرات الخارقة الجديدة في عالم يتزايد فيه اندماج البشر مع الآلات في غلاف معلوماتي واحد؟
السمة المميزة لتلك الأنظمة هي قدرتها على العمل وفق حلقة برمجية مستمرة، لتوليد تعليمات وقرارات ذاتية باستمرار، لتتمكن من العمل باستقلالية دون الحاجة إلى التوجيه البشري المنتظم، كما هو الحال مع روبوتات المحادثة التي يجب أن تُدخل لها تعليمات مع كل سؤال لتمنحك الإجابة.
أنظمة القيادة الذاتية
لا يمكن التنبؤ بسلوك أو أفعال الوكلاء المستقلين، وبإمكانهم إنتاج سيناريوهات ومسارات عمل مختلفة والاختيار بينها لتحقيق الهدف النهائي الذي يرغب فيه المستخدم، وكل هذا دون الحاجة إلى تدخل منك بمزيد من التعليمات.
لذا، يمكن استخدامها في بيئات معقدة ومتغيرة مثل تصميم الروبوتات وألعاب الفيديو وتحليل الخدمات المالية وأنظمة القيادة الذاتية وخدمة العملاء وإنتاج المساعد الشخصي الفائق الذكاء.
كما يمكنها استخدام محركات البحث والأدوات الحسابية لإنجاز أي نوع من المهام المسندة إليها، وهو ما يقدم بعدًا جديدًا تمامًا لحل المشكلات، إذ تتعامل معها وتعالجها بأسلوب منهجي خطوة بخطوة، بما يشبه أسلوب التفكير البشري في هذا السياق.
المهام الرقمية
من ضمن إمكانياتها مثلًا تصفح الإنترنت واستخدام التطبيقات المختلفة على أجهزة المستخدم، والاحتفاظ بذاكرة قصيرة أو طويلة الأمد، والتحكم في أنظمة تشغيل الحاسب، وإدارة المعاملات المالية، واستخدام النماذج اللغوية لتنفيذ مهام مثل التحليل والتلخيص وتقديم الآراء والإجابة عن الأسئلة.
تلك الإمكانيات تؤهلها للتعامل مع المهام الرقمية كأنها مساعد بشري؛ مما يجعلها متعددة الاستخدامات وذات قيمة كبيرة في سياقات مختلفة داخل العمل. ولهذا يعتبرها بعض الخبراء أول خطوة نحو وصولنا إلى مفهوم الذكاء الاصطناعي العام.
تصنيفات المسافرين
الخطوة الأولى ستبلغه برغبتك في قضاء إجازة في شهر يوليو/تموز وتحدد له ميزانية معينة وتخبره بتفضيلاتك في الوجهة التي تريدها، وهذا هو هدف النظام. حينها سيبدأ المساعد في البحث داخل مواقع السفر المختلفة على الإنترنت، ويبحث في الوجهات المناسبة، ويقرأ آراء المسافرين وملاحظاتهم عنها، ثم يخزن المعلومات عن أفضل الأماكن التي ظهرت في تصنيفات المسافرين في هذا الوقت من العام.
بعدها سيقترح عليك ملخصًا بأفضل وجهات السفر التي وجدها لشهر يوليو وفقًا لتقييمات وآراء المسافرين، ويحدد لك أفضل الوجهات التي تناسب تفضيلاتك وميزانيتك الشخصية، ثم يضع النظام قائمة يحدد فيها أولويات اختياراتك بناءً على تفضيلاتك، ويسألك: هل يبحث عن رحلات طيران وفنادق في هذه الوجهة؟
بعد موافقتك، ينتقل إلى التحقق من رحلات الطيران وحجوزات الفنادق وغيرها من التفاصيل الخاصة بالمكان، مع الحرص على أن تتوافق كل التفاصيل مع تفضيلاتك. وبمجرد تقليص نطاق الاختيارات، والوصول إلى أفضل فندق ورحلة، يعرضها لك ويخبرك بأنه وجد عرضًا مميزًا في فندق 4 نجوم به شاطئ خاص، مع رحلة طيران بسعر مناسب.
الأنظمة الآلية المستقلة
هنا ستمنحه الضوء الأخضر ليحجز الرحلة والفندق، وهذا ما سيفعله فعلًا، لينهي هذا الهدف بنجاح ويرسل إليك تأكيدات الحجوزات على بريدك الإلكتروني. ثم في النهاية يستعد للمهمة التالية التي ستخبره بها بخصوص تلك الرحلة.
هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي، الذي يملك فيه القدرة على التفكير بصورة مستقلة مع أداء مهام معقدة ومتنوعة، بدلًا من مجرد تخمين الإجابة، أصبح أمرًا واقعًا خلال الفترة الماضية، ويتطور بصورة متسارعة للغاية؛ إذ يوجد أكثر من مشروع طموح لشركات ناشئة بهدف تطوير مثل هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء مثل مشاريع “AutoGPT” و”AgentGPT” و”BabyAGI”، حتى الشركات العملاقة مثل مايكروسوفت وميتا وغوغل لديها خططها الخاصة لتطوير هذا المساعد مستقبلًا.
المساعد الشخصي
عند دمج هذه الكيانات داخل هذا المساعد الشخصي الذكي، يمكنها أن تصبح العقل المحرك لمختلف أنواع الأنظمة الآلية المستقلة القادرة على التواصل مع مكونات البرمجيات والأجهزة المختلفة الأخرى بل والتحكم فيها.
هذا التوظيف لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يحدث تأثيرًا كبيرًا في سلوكنا الرقمي، كما ذكر بيل غيتس، في شهر مايو/أيار العام الماضي، حين قال إن هذه البرمجيات ستؤثر جذريًّا في سلوكيات المستخدم الرقمية، وإن الأمر المهم هو “مَن سيفوز بسباق المساعد الشخصي الفائق الذكاء، لأنك لن تستخدم أبدًا مواقع البحث على الإنترنت مرة أخرى، ولن تذهب أبدًا إلى مواقع الإنتاجية، ولن تطلب شراء احتياجاتك من موقع أمازون بعد الآن”.
اقرأ أيضا| مارك زوكربيرغ: تحديث شامل لتطبيقات ميتا
وفي نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، كتب بيل غيتس تدوينة مفصّلة يتحدث فيها عن شغفه بعالم البرمجيات، وعن توقعه أنها ستصبح أكثر ذكاءً في المستقبل القريب. وقد وصف البرمجيات بأن إمكانياتها محدودة في الوضع الحالي؛ مما يتطلب عدّة تطبيقات منفصلة لتنفيذ مهام مختلفة.
الأنشطة الرقمية
إلا أنه يتوقع أن تتطور البرمجيات في السنوات الخمس المقبلة إلى “وكلاء الذكاء الاصطناعي” التي تفهم لغة البشر وتتجاوب معها، وتدير مختلف الأنشطة الرقمية بناءً على معرفتها بتفضيلات المستخدم الشخصية. فخلافًا لروبوتات المحادثة الحالية المنفصلة المخصصة لمهام محددة، سيتعلم هؤلاء الوكلاء من تفاعلات المستخدم معهم ويتحسنون بمرور الوقت، مما يوفر تجربة استخدام متكاملة.
وبجانب تغيير سلوكنا الرقمي على الإنترنت، يتوقع غيتس تحولًا جذريًّا في مختلف المجالات بسبب هذه البرمجيات الجديدة، خاصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والإنتاجية والترفيه. باختصار، يتوقع غيتس أن تلك البرمجيات ستحدث تغييرًا ثوريًّا في الحوسبة وفي حياتنا اليومية، وهو ما يمثل نقلة نوعية عمّا يشهده المجال التقني حاليًّا.
روبوت شات جي بي تي
وقد أكّد بيل غيتس أيضًا أنه مع التقدم والتطور في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة عبر استخدام النماذج اللغوية الكبيرة، فإننا نتجه نحو مستقبل ينتشر فيه التفاعل مع أجهزة الحاسب عبر المحادثات ويصبح أمرًا شائعًا ومألوفًا أكثر، مع اندماج كامل لهذه البرمجيات داخل مهامنا اليومية.
يمكن لهذا النظام الجديد أن يكون ثوريًّا فعلًا، ويغير الأسلوب الذي نستخدم به أجهزتنا التقنية جذريًّا. لكن، المخيف في الأمر أيضًا أننا سنمنح مقعد القيادة ومفاتيح التحكم للشركات التي تنتج هذه البرمجيات، مثل أوبن إيه آي، وربما غوغل وميتا ومايكروسوفت. والسؤال الآن: هل نحن على استعداد لنسمح لروبوت “شات جي بي تي” باستخدام أجهزتنا بالكامل نيابةً عنّا؟
قرارات أخلاقية
عندما يكون نموذج الذكاء الاصطناعي قويا ويقدم إجابات مفيدة، فلن يملك البشر حافزا لبذل أي مجهود عقلي إضافي، وبهذا يسمحون للذكاء الاصطناعي بتولي القيادة بدلا منهم، في حين أنه مجرد أداة مساعدة، ولا ينبغي منحه تلك القوة في إصدار الأحكام النهائية أو اتخاذ قرارات تخص العمل.
اتخاذ الآلة الذكية لتلك القرارات سيكون في محل شك على الأقل من الناحية الأخلاقية، لأن تطوير تقنيات ذكية ومستقلة بهذا المعدل السريع سيؤدي في النهاية إلى اضطرار تلك الأنظمة إلى مواجهة قرارات أخلاقية، كما أشارت إليه كاترين ميسلهورن أستاذة الفلسفة بجامعة جورج أغسطس في غوتنغن بألمانيا.
تطوير أنظمة ذكية
إذ تؤكد ميسلهورن أهمية الوكلاء الأخلاقيين الاصطناعيين الذين يمكنهم تحليل وفهم الجوانب الأخلاقية المتعلقة بسياقات معينة واتخاذ قرارات تحترم تلك الجوانب، فمثلا قد تواجه المركبات الذاتية القيادة مواقف يكون من المحتم فيها إيذاء أو حتى قتل شخص أو أكثر من أجل إنقاذ آخرين.
وتشير ميسلهورن إلى أن الأخلاق المصطنعة ليست مجرد خيال علمي، بل هي جزء مهم يجب التفكير فيه اليوم، مما قد يساهم في تطوير أنظمة ذكية قادرة على التعامل مع المواقف الأخلاقية بطريقة تعكس القيم البشرية، مثيرةً تساؤلات حول القرارات التي يجب ألا نتركها للآلات.
ثم ستطرأ مشكلات الخصوصية، وهي أن تلك الأنظمة لن تحتاج للتنبؤ بما تعرفه عن المستخدم، بل إنها ستعرف كل شيء عنه وعمّا يفعله ويرغب فيه فعلًا. إن كنّا نعتقد أن فيسبوك يعرف الكثير بشأن ما نفكر فيه، فما علينا سوى أن نتخيل مدى حجم ما سيعرفه هذا المساعد الشخصي الجديد الفائق الذكاء.