أي أثر لـ “طوفان الأقصى” على سوريا؟ إنه السؤال الأكبر عن تداعيات الحرب التي ارتكبت فيها إسرائيل “إبادة جماعية” ضد أهل غزة، وجاءت ارتداداتها أسرع مما تصور كثيرون، فسقط نظام بشار، وانتهى حكم “آل الأسد” بعد ثلاثة وخمسين عامًا، ومعه جاء السقوط الثاني لحكم حزب البعث بعد رحيله عن حكم العراق عام 2003.
هذا الارتداد جاء من زوايا عدة:
أولها هو النموذج الذي قدمته فصائل المقاومة الفلسطينية في مواجهة جيش نظامي، فكان ملهمًا، إلى حد كبير، لـ “هيئة تحرير الشام”، فبدأت هجومها على الجيش السوري فور إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، معتقدة، هذه المرّة، بأن تحقيق النصر على خصمها آتٍ لا محالة.
والثانية -وهي الأكثر تأثيرًا، هي أن سعي إسرائيل والولايات المتحدة، لقطع الحبل السري بين إيران والمقاومة اللبنانية، أدى إلى خلخلة نفوذ أولئك الحلفاء الذين كان الأسد يعتمد عليهم في استمرار حكمه، ما عجل بسقوطه. لقد كان أحد أهداف تل أبيب هي إخراج إيران من سوريا، وإنهاء خط الإمداد الواصل إلى البقاع والجنوب في لبنان عبر محافظة حمص، وإضعاف الوجود الروسي في سوريا أيضًا، ولم يكن هذا ليتم إلا على حساب حكم الأسد.
وجاء كل هذا ضمن إطلاق المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين على الضربات – التي شرعتا في توجيهها إلى القوات الإيرانية فوق أرض سوريا، وكذلك الفصائل المتحالفة معها، بل الجيش السورى نفسه، – مصطلح “المعركة بين الحروب”، على أساس أن هذا يمثل “عملية دفاع متقدم” أو “ضربات استباقية”، تحرم إيران من استخدام أرض سوريا لشن هجمات ضد إسرائيل، وقبلها تمنع وصول أسلحة متقدمة إلى حزب الله.
وما إن بدأ سريان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، حتى أعطيت الفصائل المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” ضوءًا أخضر، للهجوم على المناطق التي يديرها النظام السوري، وتحل فيها محل قوات من الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، والحشد الشعبي العراقي.
اقرأ أيضا| هل تنوي إسرائيل إدامة احتلالها لقطاع غزة؟
وكانت غاية إسرائيل من هذا هو النيل من القوات المناوئة لها، بإشغالها في حرب أهلية تستنزف قواها، لكن الأمور سارت في اتجاه أقصر زمنًا، وأعمق أثرًا، مما قدرت تل أبيب، إذ تمكن المقاومون المسلحون السوريون ومن يعاونهم من مقاتلين جاؤوا من خارج سوريا، من إسقاط نظام الأسد في عشرة أيام فقط.
هذه السرعة جعلت بعض المحللين في إسرائيل نفسها يتحدثون عن الخطأ الكبير الذي ارتكبه الجيش الإسرائيلي حين أفرط في توجيه ضربات متتابعة وقاسية وممنهجة للجيش السوري والحرس الثوري والحشد الشعبي على أرض سوريا، والذي أدى إلى إنهاكها وتفككها بعض الشيء، مما سهل المهمة على الزاحفين من الشمال والغرب إلى دمشق، لتسقط تحت أقدامهم المدن والبلدات والقرى التي كانت تحت حكم الأسد.
ففي تحليله للدور الذي يمكن أن تلعبه هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها في إضعاف الوجود الإيراني الداعم لحزب الله، رأى الباحث البارز في جامعة تل أبيب هاريل تشوريف خلال حرب إسرائيل ضد حزب الله: “الخيار الأفضل لإسرائيل الآن هو إضعاف هذه القوى جميعًا، وبشكل متبادل، دون إعطاء فرصة لأي منها لتحقيق انتصار حاسم”.
كان المخطط، إذن، حرب استنزاف طويلة يهلك فيها الجميع على أرض سوريا، لكن إسرائيل والولايات المتحدة فوجئتا بانهيار الجيش السوري، وخروج إيران سريعًا لتحمي قواتها، وتراجع الحشد الشعبي إلى العراق رابطًا قراره بموقف الحكومة في بغداد، وعدم مشاركة حزب الله إثر تداعيات الحرب الحالية، وحتى لا يعمق ضرره، إثر الضربات الإسرائيلية الموجعة له على أرض لبنان.
والأثر الثالث يرتبط بهوية المقاومة الفلسطينية، كما يقول الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن هنية، “فرغم تصنيف حماس والجهاد الإسلامي منظمتين إرهابيتين لدى إسرائيل والولايات المتحدة ودول في أوروبا، فإن العالم لم يتوقف طويلًا، ولا في جدية، أمام هذا التوصيف والتصنيف، وتعامل مع المقاومة على أنها “حركة تحرر وطني” تواجه “قوة احتلال استيطاني”.
الأمر نفسه انسحب على “هيئة تحرير الشام” ومن معها من فصائل “جهادية” أو “إسلامية متشددة”، قريبة في أفكارها من “تنظيم الدولة” و”تنظيم القاعدة” و”التنظيمات الجهادية المحلية” في سوريا، إذ تعامل معها العالم تحت عنوان “المعارضة المسلحة” و”قوة ردع العدوان”، التي تسعى إلى تحرير سوريا من قبضة نظام حكم مستبد، فلما أظهرت قدرة على الفعل في الواقع بهزيمة الأسد، تعالت أصوات في الغرب إلى رفع اسمها من قائمة الإرهاب، وفتح باب عريض للتعامل معها، بحكم ما آلت إليه الأمور في دمشق.
وهنا يأتي الأثر الرابع لطوفان الأقصى على المسألة السورية إذ كانت تجربة المقاومة الفلسطينية في تسويق صورة وخطاب وبرهان ناجع إلى العالم، بعيدًا عن السرديات التقليدية، التي سعت إسرائيل إلى تكريسها عن حماس والجهاد الإسلامي خصوصًا، ملهمةً للفصائل السورية المسلحة، فعدلت خطابها الموجه للآخر، وأضفت عليه مسحة مدنية أو حداثية إلى حد واضح، ولو بشكل دعائي، وفكت ارتباطها بالتنظيمات الجهادية التقليدية، وعمقت الصورة السلبية للنظام السوري الحاكم، ووجهت نداءات إلى الداخل السوري ترتبط بالديمقراطية والتحرير وإعادة بناء دولة موحدة، وكان لهذا أثره الكبير في نجاح مهمتها.
أما الأثر الخامس فيرتبط بتعلم الفصائل السورية المسلحة من تجربة التخطيط الجيد، والتجهيز القوي، الذي تحلت به المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومنحها قدرة على الصمود في وجه الجيش الإسرائيلي المدجج بأحدث وأعتى أنواع الأسلحة. ففي مساحة صغيرة، على غرار غزة، بمحافظة أدلب التي كانت تسيطر عليها الفصائل المسلحة عملت على التخطيط بدقة، والتدريب بهمة عالية، على مدار عام كامل أو يزيد؛ بغية حيازة القدرة على تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، وهو ما آتى أكله فور شروعها في شن هجوم على حلب، ثم حماة فحمص، حتى دخلت إلى دمشق وأسقطت نظام بشار الأسد.
والأثر السادس يتعلق بالنظام العربي كله، وفي مقدمته النظام السوري المنضوي ضمن “محور المقاومة، فقد أظهر هذا النظام عجزًا عن نصرة أهل غزة، إذ استمرت السلطة في سوريا على حالها القديمة بعدم الرد المباشر على إسرائيل، رغم الضربات المتوالية التي تلقاها الجيش السوري وحلفاؤه، والعمليات النوعية التي استهدفت قيادات للمقاومة في دمشق. هذا الانكشاف جعل قطاعًا من الجمهور العربي متقبلًا لفكرة تساوق أنظمة الحكم مع المشروع الإسرائيلي، أو على الأقل عجزها عن صده ورده، ما يفتح قوس السؤال عن إمكانية تغير المعادلة بإسقاط هذه الأنظمة، عملًا بالرؤية التي يتبناها البعض من أن تحرير القدس يبدأ من تحرير بعض العواصم العربية، وهو ما سيطر على جانب مهم من الجدال العربي على مواقع التواصل الاجتماعي فور سقوط نظام بشار الأسد.
اليوم يستمر أثر الطوفان بشكل مغاير، إذ تتجه الأنظار إلى من وصلوا إلى الحكم في دمشق، وما إذا كانوا سيتبعون خطى الأسد في الصمت على العدوان الإسرائيلي من عدمه، لا سيما بعد أن شرع الجيش الإسرائيلي في توجيه ضربات موجعة للقواعد العسكرية ومخازن الأسلحة التابعة للجيش السوري، وإنهاء اتفاق فض الاشتباك لتحتل إسرائيل جزءًا من الجولان بعد انسحاب الجيش السوري منه، وتتحدث جهارًا نهارًا عن تفكيرها في التوغل داخل الأرض السورية لإقامة منطقة عازلة.