عندما وقعت هزيمة 67 أطلق المصريون كعادتهم سيلا من النكات ساخرين من الموقف الهزلى الذى حدث من أنفسهم وقياداتهم. وقد علم الشعب المصرى بالتدريج أن سيناء وغزة والضفة الغربية لنهر الأردن والجولان السورية قد احتلت من الصهاينة، وكانت غزة فى ذلك الوقت تحت الإدارة المصرية، وجاءت إحدى النكات المعبرة عن ضياع غزة من مصر، أن الرئيس جمال عبدالناصر أحس بألم فى صدره فذهب إلى الطبيب وبعد الكشف عليه جيدا قال الطبيب: «اطمئن يا ريس، كانت «غزة» و«راحت» .
وعندما عاد الوعى للشعب المصرى وأدرك أن جيشه لم يحارب حربا حقيقية وقف خلف الزعامة السياسية التى تأكد من وطنيتها وتم بناء الجيش بسرعة مذهلة أو فلنقل أعيد الترتيب والنظام وكان الشعب كله يتطلع إلى معركة مع الصهاينة تعيد الكرامة وجميع الأراضى العربية المنهوبة وفى 1973 انتصر الجيش المصرى، وقام السادات بزيارة القدس ليصنع السلام ويستعيد الأراضى العربية حيث أنه أدرك أن العالم كله بدأ فى نبذ العنف وأن معظم النزاعات فى العالم انتهت على موائد المفاوضات وأنه لا أمل فى استعادة الأراضى العربية بالقوة المسلحة أو بالعنف وهكذا وقف العالم احتراما للسادات وفى فندق مينا هاوس ارتفعت أعلام فلسطين والأردن وسوريا ومصر على مائدة مفاوضات مع إسرائيل.
وكان السادات ومصر فى ذلك الوقت فى قمة التألق السياسى العالمى لأنه أراد السلام وأحرج إسرائيل أمام العالم حيث كانت تتشدق بأنها تريد السلام أما العرب فلا يريدون ومع السادات ثبت العكس وكان هناك أمل أن تعود غزة والضفة الغربية والجولان على طريقة سيناء لكن الأطراف لم تحضر وقاموا بتخوين السادات ومقاطعة مصر، مع أن عبدالناصر هو الذى أعطى شرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقها من مصر عام 1969 وأن تكون المتحدث الوحيد عن قضية فلسطين بعد أن كان الملك حسين وغيره من الحكام العرب يتحدث باسم القضية .
واستكمل السادات هذه الخطوة بأنه قدم الفرصة لياسر عرفات ليتحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نهاية السبعينيات حيث تحدث فى خطاب رائع للعالم قائلا: «أتيت إليكم أحمل غصن الزيتون فى يدٍ وفى اليد الأخرى البندقية»، وبعد موت السادات سار ياسر عرفات على طريقه واستعاد غزة وأريحا للفلسطينيين كجزء من مفاوضات شاملة حول القضية وهكذا عادت غزة جزئيا وفى مفاوضات عرفات ــ كلينتون فى نهاية التسعينيات رفض عرفات بند عدم عودة اللاجئين أو تعويضهم وبعد وفاة ياسر عرفات جاء أبو مازن وقدم نفسه للعالم كرجل سلام، وحتى 2007 كان العالم يتوقع مفاوضات سلام تنتهى بحل الدولتين أحدهما فلسطين وعاصمتها القدس.
لكن حدث انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية، وتجمد كل شىء لأن إسرائيل اعتبرت بهذا الانقلاب أن منظمة التحرير انهزمت امام الإرهاب ولا تفاوض معها إلا أنه بعد مقتل الطفل الفلسطينى محمد أبو خضير وإحراقه والتمثيل بجسده بدأت ظهور صحوة أمريكية أوروبية كانت فى طريقها لتغيير مسار المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية المتوقعة، والتركيز على ضرورة الانسحاب الكامل من كل الأراضى التى أحتلت عام 1967، لقد ظهر وجه إسرائيل الهمجى فى قتل الطفل الفلسطينى.
وضاق العالم ببلطجة إسرائيل وتعنتها وبدأ نتنياهو يمهد إلى تجاوب بل نوع من التوافق مع جهود وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى الذى أقنعه بأن السلام بين المتحاربين أصبح قناعة كونية، وأن الحرب بين دولتين متحاربتين لا توجد على خريطة العالم إلا فى الشرق الأوسط وأن حجة نتنياهو والعالم الذى يؤيده بأنه لا توجد السلطة الفلسطينية التى يتحاور معها هل هى منظمة التحرير أم فتح أم حماس.. أم الجهاد أم باقى المنظمات الإرهابية قد سقطت بالمصالحة الفلسطينية وبينما الكل يتهيأ لهذه الخطوة تم اختطاف ثلاثة شبان إسرائيليين وقتلهم، وكانت الفرصة الذهبية لنتنياهو أن يشعل المنطقة، لينسف العملية السلمية المعتمدة على حل دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، وتم مؤتمر صحفى فى مصر بين وزير الخارجية المصرى ووزير الخارجية الأمريكى وسكرتير الأمم المتحدة والأمين العام للجامعة العربية على أساس المبادرة المصرية وبعدها حدث مؤتمر دولى فى باريس يتكون من سبع دول ضمنها تركيا وقطر لوقف إطلاق النار وظهر خالد مشعل قبل ذلك بيوم واحد يعلن عن شروطه لوقف إطلاق النار، ولم يظهر فى كل هذا رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس!!
كتب إحسان عبدالقدوس فى بداية الستينيات قصة قصيرة بعنوان «القضية نائمة فى سيارة كاديلاك» وبعد كل هذه السنوات نواجه عدة أسئلة ترى هل استيقظت القضية فعلا بما يحدث الآن خاصة بعد ظهور قطر وتركيا يتحدثان باسم الفلسطينيين فى غيابهم وهو ما تم رفضه منذ خمسين عاما؟ أم انتقلت القضية نائمة من السيارة الكاديلاك إلى سيارة مرسيدس حديثة؟ والسؤال الثانى: هل يريدونها دولة أم فصائل؟ وأيهما الاختيار الأقرب إلى الذهنية العالمية اليوم؟ والسؤال الثالث لماذا تؤيد أمريكا داعش وجبهة النصرة والإخوان وغيرهم لتقسيم البلدان العربية وفتنة جيوشها ثم تأخذ موقفا مضادا من نفس الفصائل فى فلسطين؟! والسؤال الأخير هل كانت قريحة الشعب المصرى عام 1967 بنكتته الساخرة «غزة وراحت» والأدب المصرى عن نوم القضية فى السيارة، أكثر فهما وإدراكا ووعيا بالقضية الفلسطينية من الرؤساء العرب وقيادى فلسطين هذه الأيام؟!