استقلال، إزالة الاستعمار، حكم ذاتي.. تتلاحق، تتقاطع وتتناقض المصطلحات التي تصف الواقع الكاليدوني، ضاربة للجميع موعدا مع التاريخ، لكن ليس بالمعنى المتعارف المعتاد المحدد للحظات الحاسمة، بل بدعوة ملحة إلى مراجعة تاريخ علاقة فرنسا بإحدى مقاطعاتها، التي تطرح بكل بساطة ملفا قديما – جديدا ألا وهو مسألة الحكم الذاتي. في كاليدونيا الجديدة، تتقاطع الرهانات السياسية والاجتماعية، راسمة الإطار الذي يسمح وحده بفهم آليات أزمة طال أمد وضع حد لها أو لنقل تخفيفها.
نستفيد بالتأكيد حين نتذكر الإطار الاستعماري العام، الذي رسمه تاريخ 1853 وهو التاريخ الذي وضع الواقع الكاليدوني في سياق المخطط الاستعماري الذي كانت تشارك فيه فرنسا، إلى جانب قوى أخرى في منتصف القرن التاسع عشر.
ليس من الغريب أن تعمد الدولة المركزية إلى نقل بعض من صلاحياتها إلى المقاطعة، أو المحافظة المعنية لتنفيذ تصحيحات توازنية اقتصادية وتنموية وثقافية تراعي الهوية المحلية.
نستفيد بالتأكيد عندما نتذكر أن المواد الأولية التي تفعل دواليب الاقتصاد قد نضطر إلى جلبها من بعيد، كما تقضي حالة النيكل، معدن وعصب الإنتاج الكاليدوني، الذي تستمر فرنسا في استخراجه إلى الآن لتصنيع سياراتها الكهربائية.
لكن التاريخ بمفرده ليس كافيا للرد على تساؤلات، لن تفوت قارئنا عند رؤيته مشاهد عنف وأعمال شغب من الصعب التصديق بأنها تدور داخل مقاطعة فرنسية. أول قرينة يمكن أن تساعد على فهم أكبر للموضوع، أن مثل هذه الأحداث ليست جديدة بل متكررة. وقد يساعدنا على فهم ذلك أن كاليدونيا منطقة فقيرة، وإن اختلال التوازن الاقتصادي بين الإثنيات المكونة للنسيج الاجتماعي الكاليدوني، أمر واقع، وأن الفجوة في مجال التكوين بين المتساكنين الكاليدونيين والأوروبيين هائلة.. وبالتالي فإن أي خطوة تروم ضم من يعتبرون أكثر غنىً ووفرة، ووصلوا إلى كاليدونيا من أوروبا ومن باقي أنحاء العالم حديثا فقط، في قانون انتخابي جديد، إنما هو خطوة تقرأ ليس على أساس الاعتدال والتناصف، بل على أساس مفاقمة الشروخ والاختلالات.
كانت اتفاقيات ماتينيون ثم نوميا، اتفاقيات اشتهرت بفهم أكبر لخصوصيات منطقة تحتاج إلى استقلالية اتخاذ القرارات، التي تخصها أكثر منه إبرام اتفاقيات توهم الرأي العام بأن الأمور تتطور نحو الانفصال، فإن تكون المجالس البلدية والمحلية مثلا منتخبة من السكان الموصوفين بالأصليين، من دون أن يشمل ذلك حديثي العهد في البلد، أمر يفهم ويندرج ضمن مخطط التطوير التنموي والمؤسساتي الذي يقع على عاتق الجمهورية تحقيقه. فلنقرأ السؤال الذي كان قد طرحه الاستفتاء المنبثق عن اتفاقية 1988 على كل الفرنسيين وليس مجرد متساكني كاليدونيا الجديدة: «هل توافقون على مشروع القانون المطروح على الشعب الفرنسي من قبل رئيس الجمهورية، المتضمن لأحكام تنظيمية وتحضيرية للحكم الذاتي في كاليدونيا الجديدة؟». حينذاك، ثمانون في المئة ممن شاركوا في الاستفتاء كانوا قد صوتوا بنعم.
منذ البداية، بقيت مسألة الحكم الذاتي هي مربط الفرس في كاليدونيا. والمبدأ مبدأ مؤسساتي له أهمية كبيرة، وتوجد أكثر من منطقة في العالم، إما خاضعة للحكم الذاتي فعلا، وإما في طور تبني الحكم ذاته. والأمر يفهم أيضا ثقافيا أولا. فليس من الغريب أن يجاور القانون العرفي قانون الحق العام في تنظيم بعض من مناحي الحياة، كالعلاقات العائلية مثلا، كما ليس من الغريب أن تعمد الدولة المركزية إلى نقل بعض من صلاحياتها إلى المقاطعة، أو المحافظة المعنية لتنفيذ تصحيحات توازنية اقتصادية وتنموية وثقافية تراعي الهوية المحلية.
لن يكون هناك حل للإشكالية الكاليدونية من دون تحاور وتفاوض، وسيبقى الموضوع الأساسي التعمق في محددات الحكم الذاتي وبلورة محتواه أكثر. وإذا كانت الدولة المركزية قد قطعت خطوة بتعليق مشروع تعديل القانون الانتخابي، إلا أن الخطوة تظل في كل الأحوال بيروقراطية فنية ولن تكون كافية.