أذكر جيداً شعوري عندما كتبت المادة الأولى باسمي المستعار “كارمن كريم”، وكيف كنت أرتجف خوفاً وكأن الجلاد يقف خلف الباب، متحمسة ومترددة في الوقت ذاته وفي أحيان أخرى تساءلت: “هل يستحق الأمر؟”.
اخترت اسمي المستعار بعناية، لطالما أحببت اسم كارمن، هناك شعور داخلي يصعب تفسيره يخبرك أن هذا الاسم يلائمك ويعكس تجربتك، شيء عميق داخلي قادني نحو كارمن، لكن اختيار الاسم لم يكن التحدي الأصعب. التحدي الحقيقي بدأ مع كتابة أول مادة، حيث أصبحت الأمور أكثر ثقلاً على المستوى النفسي.
في كل المواد التي كتبتها تحت اسمي المستعار، كان ظل الأسد يخيم فوق رأسي، وثقل الخوف يستقر فوق كتفي، وكأنه يعذبني بالخوف. لم تكن كتابة أي مادة سهلة، لا نفسياً ولا حتى على صعيد جمع المعلومات أو التواصل مع المصادر، فقد كان هاجس كشف هويتي يطاردني باستمرار.
لم تساعدني سرية اسمي المستعار في النجاة من تهديدات النظام، إذ يكفي أني أعمل مع موقع يُصنف “معارضاً للنظام السابق”، كافياً لجعلي هدفاً للتهديدات المباشرة وغير المباشرة. حتى بتُّ أخشى الخروج في فيديو أتحدث فيه عن موضوع عادي كالفقر في سوريا، امتدت أيدي النظام السوداء لتسبقني حتى إلى لبنان، تلاحقني حيث ظننت أنني قد أجد بعض الأمان.
في سوريا، لجأت إلى طرق بسيطة لحماية نفسي، لاحقاً اكتشفت أني لم أعرف شيئاً عن الأمن الرقمي الذي كنا محرومين منه في سوريا، ربما كانت الصدفة، أو مجرد الحظ، هو ما أنقذني من المصير الذي كنت أخشاه.
كنت أحذف مقالاتي من الحاسوب، وأحتفظ بالمواد غير الجاهزة على “فلاشة” أخبئها في مكان سري، متجنبة ترك أي أثر على جهازي الشخصي. تحسباً للأسود، وضعت خطة لوقت الطوارئ، كان لي صديق يعمل مرغماً مع النظام لكنه يعارضه سراً، وكنت أعتمد عليه لإبلاغ عائلتي أو مساعدتي إذا تم اعتقالي، أعطيت رقمه لأختي وقلت لها: “إذا اختفيت شي يوم أو أخدني الأمن دقي لهرقم”.
ثم شعرت أن البلاد بدأت تلفظني، في أحد الأيام، تعرضت لتحرش لفظي من جنود النظام، على حاجز في الطريق الذي يصل عقربا بجرمانا، طلبوا تفتيش حاجياتي، وكادوا يفتشون حاسوبي، لكنهم لسبب ما – أو ربما لجهلهم بكيفية البحث داخله – تركوني وشأني، في ذلك اليوم تحديداً لم أخبئ الفلاشة كما اعتدت وكانت موضوعة في مكان مكشوف كما أني لم أحذف كل المواد عن حاسوبي، حين وصلت إلى المنزل بسلام، بدأت أفكر بترك سوريا.
بين مناهل وكارمن
المادة الأولى بعدها الثانية ثم الثالثة، بدأ يتكرس اسم كارمن، يسأل البعض عن هويتها الحقيقية، حصد عدد من موادها قراءات عالية، ومادة خلف أخرى، راح سقف الخوف يتصدع وصرت أرفع السقف ذلك الذي هُددت فيه مرة.
مع كارمن، عشت تجربة حرية لم أختبرها من قبل، ظهرت داخلي امرأة جديدة لم أكن أعرفها، امرأة ذات رأي سياسي وقدرة على التحليل والعمل والنقد اللاذع. تساءلت: أين كانت هذه المرأة عن السياسة طيلة حياتي؟
لكن مع الوقت، أخذت كارمن راحتها أكثر من اللزوم حتى باتت تطغي على مناهل. أصبحت مواد مناهل أقل حدة، تفتقر إلى الجرأة في توجيه أصابع الاتهام إلى من يستحق. كانت مناهل تحول حول الفكرة دون أن تصرح بكلمة “النظام”، بينما عاشت كارمن مجدها، عاشت حريتها، وسخرت من الأسد وكشفت إجرامه وفساده.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أخطأ زملائي في العمل أو من عملت معهم أكثر من مرة، بكارمن بدل اسمي الحقيقي، شعرت حينها أن “كارمن” لم تعد مجرد اسم مستعار، بل بدأت تسلبني هويتي الحقيقية. مع ذلك، لم أكرهها، كنت أراها شخصية مستقلة، فتاة أخرى لا تمت لي بصلة، لكنها صحافية مجتهدة صنعت لنفسها مكانة وسمعة، بل واعترفت أنها متقدمة علي، فقط لأنها تشعر بالحرية، الشيء الذي لم امتلكه.
بين كارمن والأسد
لاحقاً وصلتني معلومات عن إيقاف النظام لصحافية وسؤالها إن كانت تعمل مع موقع “درج” حيث أعمل، وهكذا عرفت أن علي أن أصعب المهمة على عناصر النظام وأعمل على تعجيزهم عن معرفتي، كتبت مادة بعنوان: “أنا الصبي الطائش الذي شتم نظام الأسد”، لم أحدد جنسي أو عمري أو من أي مدينة.
كتبت حينها: ” أنا هنا مجرد اسم مُستعار، لا يمكن التأكد من هويتي، هل أنا فتاة أم رجل أم شيخ، هل أنا حقاً موجودة؟ ولماذا أدّعي بأنني فتاة بينما يمكنني امتلاك أي لقب أريد، كالصبي الطائش!”.
مرة حاولت مخاطبة رجال الأمن السوري حتى لو أنهم لا يقرأون ما أكتب، شعرت أني أخوض سجالاً معهم “في كل مرة أكتب فيها مقالاً أتخيل سيناريو جديداً لبحثكم عني، بينما تقرأون مقالي بكثير من الغيض والغضب والرغبة في لكم وجه صاحبة هذه الكتابات التي تمسّ هيبة نظامكم، متخيلين طرائق متنوعة لتعذيبي في حال ألقيتم القبض علي، هل تتشاورون حول معلومة ما لتحديد مدينتي على الأقل؟”.
أضحك اليوم وكأن تلك اللحظات والأيام تبدو بعيدة كحلم يخيّل لي أني عشته وربما لا…
ولعدم كشفي في المدونات التي تحمل تفاصيل من حياتي كنت مضطرة إلى تغيير بعض التفاصيل مثل الأماكن والوقت والحي أو الجنس، فمثلاً لم أكتب أني انتقلت إلى بيروت إنما إلى أوروبا، ولم أكتب أن خالي من كان معتقلاً بل عمي، كانت هذه التفاصيل إيماني المطلق بأنهم لن يتعرفوا علي.
مع الوقت باتت مقالاتي وتقاريري أكثر جرأة لا بل اكتشفت نَفَسَاً سياسياً لم أكن أعرف بوجوده، لقد أتقن النظام قمعنا بالفعل حتى قلنا: “شو بدنا بالسياسة؟”.
من التخفّي إلى الحرية
لم أتوقع يوماً أن أستطيع إعلان اسمي وأن أقول هذه كارمن… هذه أنا، ومنذ وقت ليس ببعيد، فكرت أنه قد لا يقدر لي إعلان اسمي الحقيقي، وكان ذلك مؤلماً ولكنني وضعت خطة ليكشف أحد من المقربين مني بعد موتي عن الأمر، لكن نظام الأسد سقط قبل موتي وكشفت اسمي.
يحق لي اليوم الكشف عن عملي الصحافي الذي نشرته تحت اسم مستعار خوفاً على نفسي وعائلتي. سنوات كتبت فيها أكثر من 150 مقالاً صحافياً، بالإضافة إلى عملي اليومي في موقع “درج” من فيديوهات وأخبار يومية، اعتقدت أن هذا الاسم سيبقى مخفياً للأبد، عشرات التحقيقات والتقارير الحقوقية والمدونات والآراء كتبتها داخل سوريا وخارجها، مؤمنة أن الحقيقة يجب أن تُقال حتى لو بقينا في الظل.
واحد من أهم ما عملت عليه هو مشاركتي الأولى في تحقيق استقصائي أُنتج بالشراكة بين “درج” و”bbc”و “occrp” بعنوان: (جمهورية الكبتاغون: كيف ترتبط شبكة تهريب المخدرات الواسعة بالقصر الرئاسي في سوريا) الذي يثبت تورط عائلة الأسد بصناعة وتجارة الكبتاغون، وحتى قبل أيام قليلة كنت محرومة من الفرح بهذا الإنجاز أو العمل على تحقيقات أخرى.
من التقارير التي أفتخر أني كتبتها، هي مقابلة مع ابن أقدم معتقل سياسي في سوريا، رغيد الططري، الذي خرج حياً قبل يومين وسيلتقي ابنه أخيراً، كما كنت حريصة على متابعة كل ما يخصّ سجن صيدنايا ابتداء من غرف الملح وصولاً إلى الهيكلية المعمارية والإدارية للسجن الأبشع على الإطلاق.
أنا اليوم حرة وكارمن حرة، لا شيء أخافه لأقول أنا مناهل السهوي وليس كارمن كريم، وكل ما أتمناه ألا أضطر يوماً ما إلى العودة للكتابة تحت اسم مستعار، وألا يضطر أي إنسان أو صحافي حول العالم إلى إخفاء آرائه فقط خوفاً على حياته وحياة من يحب.