في صيف عام 2012، كانت الأميرة كيت ميدلتون، زوجة الأمير وليام وريث العرش البريطاني، تقضي عطلةً في أحد منتجعات جنوب فرنسا، حين التقط لها صحافيو «الباباراتزي» صوراً أظهرت صدرها عارياً.
وقد قامت مجلة فرنسية بنشر تلك الصور، وهو الأمر الذي دعا العائلة المالكة في بريطانيا لرفع قضية على المجلة، متهمة إياها بـ«خرق خصوصيتها». واستجاب القضاء للادعاء مباشرة، وحكم على المجلة بضرورة وقف نشر الصور، وألزمها بتعويض قدره 10 آلاف يورو عن كل يوم تأخير في تسليم الصور للعائلة المالكة البريطانية.
تعطينا تلك القصة فكرةً واضحةً عن الطريقة التي تتعاطى بها بعض المنظومات الإعلامية والأنظمة القانونية في البلدان المتقدمة مع قضية خصوصية المشاهير؛ إذ يبدو أن تلك القضية تطرح باستمرار اختلافات ونزاعات بشكل يستدعي وجهات نظر ومواقف متباينة.
لكن ما حدث في هذه الواقعة مع الأميرة كيت جاء معاكساً تماماً مع ما سبق أن حدث مع الأمير هاري شقيق زوجها. إذ يصعب جداً نسيان واقعة نشر صحيفة «ذي صن» صورته عارياً، خلال مشاركته في حفل صاخب، على غلاف أحد أعدادها في العام نفسه، رغم الشكوى التي تقدم بها القصر الملكي ضد الصحيفة وطلبه إزالة الصورة، ورغم تحفظ عدد كبير من وسائل الإعلام البريطانية عن نشرها.
لم تُعاقب «ذي صن»، ولم يُطلب إليها إزالة الصورة، لسبب واضح يتعلق بأن ما فعله الأمير هاري آنذاك كان يتقاطع مع المصلحة العامة بصورة أو بأخرى؛ بالنظر إلى كونه أحد رموز البلاد، ومرشحاً لتولي العرش، ما يوجب عليه انتهاج مسلك معين في حياته الشخصية، بما يحافظ على الثقة في المؤسسة المالكة، وينأى بصورة البلاد عن التلطيخ والإسفاف.
وربما كان ذلك الدافع هو نفسه الذي مكّن الصحيفة نفسها، بعد ذلك بتسعة أعوام، من نشر صور تفضح قيام وزير الصحة (آنذاك) مات هانكوك بتقبيل كبيرة مساعديه في مكتبه الحكومي.
لم تكتف «ذي صن» بنشر الصور المثيرة للجدل فقط، لكنها أرفقت القصة الخبرية المتعلقة بالموضوع على موقعها الإلكتروني بفيديو يظهر خلاله الوزير وهو يحتضن مساعدته ويقبلها خلال ساعات الدوام الرسمية وفي المكتب الحكومي.
لقد تعامل النظام الإعلامي والقانوني والسياسي القائم في البلاد مع نشر صور «تخترق» خصوصية الوزير هانكوك بوصفه عملاً مشروعاً من الناحية الصحافية، بالنظر إلى أن الوزير فرط في هذه الخصوصية حين استغل مكتبه وموقعه الحكومي في إقامة علاقة خاصة مع سيدة عينها في منصبها بنفسه، وفي وقت كانت البلاد تتبع فيه سياسة «التباعد الاجتماعي» درءاً لخطر «كوفيد – 19».
توضح تلك الوقائع الذرائع التي تستند إليها النظم القانونية والإعلامية السائدة في بلدان غربية عند تعاملها مع فكرة خصوصية المسؤولين والقادة ورموز البلاد، ويبدو في هذا التعامل أن الخصوصية مصونة، ولا يُسمح باختراقها إلا عندما يكون هذا الاختراق لازماً لتحقيق المصلحة العامة أو كشف تجاوز ما يُصعب صيانتها.
لكن الأميرة كيت عادت مجدداً لتشغل الصحافة والرأي العام في بريطانيا وخارجها، خلال الشهر الماضي، حينما فاجأت الجمهور بإعلان إصابتها بالسرطان وتلقيها علاجاً، في مواكبة الإعلان أيضاً عن إصابة الملك تشارلز بمرض مشابه.
وقد فتح هذا الإعلان عن مرض الملك والأميرة السجال مجدداً عن حق الصحافة في معرفة الحالة الصحية للقادة والمسؤولين والرموز الوطنية، وهو سجال امتد على مدى عقود طويلة في عديد البلدان.
وفي كثير من الدول المتقدمة مثل فرنسا، يسود تقليد سياسي يلتزم الرئيس من خلاله بإصدار تقارير دورية عن حالته الصحية؛ وهو الأمر الذي كان محل جدل كبير منذ امتنع الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو عن إخطار الجمهور بإصابته بالسرطان، ووفاته أثناء الخدمة، في واقعة شكلت صدمة للجمهور والمؤسسات وبعض أفراد عائلته.
والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية لا يجب انتهاكها بزعم حرية الرأي والتعبير أو حق الجمهور في المعرفة، لكن قيام المسؤول بسلوك شخصي يضر المصلحة العامة بشكل واضح، أو يؤثر في استقرار المؤسسات العامة، أو يزعزع الثقة فيها، يوجب على الإعلام تقصي تلك الأخبار، ونقلها للجمهور. كما أن تعرض المسؤول لمرض يُمكن أن يُحد من قدرته على الوفاء بمقتضيات دوره، يوجب عليه مصارحة العموم والمؤسسات بمرضه، وهو ما فعلته الأميرة كيت والملك تشارلز تماماً.
من الضروري أن تبقى الخصوصية قيمة حيوية عصية على الانتهاك بأي زعم، طالما أن السلوك الذي يأتيه الشخص العام، أو التغيرات التي تطرأ عليه، لا تتقاطع مع المصلحة العامة تقاطعاً واضحاً.