ما كان الامتحان سهلاً فى أية محطة سابقة؛ لكنه اليومَ أصعبُ ما يكون. بقيت فلسطين على مذبح الاحتلال منذ النكبة الأولى؛ إنما كانت تتنفَّس بعُمقٍ، وتزدهر بالرغم من كلِّ محاولات الخنق والإلغاء. والهامشُ الذى لم يكن مُرضِيًا، يضيقُ الآن على ساكنيه بما يفوقُ احتمالَهم، ويتهدَّد وجودهم فى الصميم.
العدوّ يُجاهِرُ برغبته فى تبييض الخرائط من طبوغرافيَّتها البشرية، والعالم أعمى العين والقلب، وميزانه المُختلّ انكسر تمامًا، والبيئة المأزومة ما تزالُ منقسمةً على نفسِها، والحاضنةُ القريبة تتجنَّدُ فى مهمَّة إنقاذٍ صعبة، وتزدادُ مصاعبها بأثر التشغيب عليها من الداخل والخارج.
استشرفت مصرُ مخاطرَ الجولة الجديدة قبل شهور. كانت أُصوليَّةُ المُمانَعة مشغولةً باحتفالات «الطوفان» مع قواعدها ومُؤازريها، ونازيَّةُ الاحتلال تلعَقُ جراحَها، وتُحضِّر لحربها الإباديَّة تحت لافتة الثأر واستعادة الردع، والجمهورُ الكونىُّ العريض بين مُهلِّلٍ لهجمة الغُلاف أو ناقدٍ لفوضويَّة حماس ومُقامراتها.
وقفت القاهرةُ وقتَها تُحذِّر من تداعيات التصعيد المُستجَدّ، وتُثَبِّتُ موقفًا مُبكّرًا للغاية برفض التهجير وتصفية القضية، والجَزم بأنها لن تُحَلَّ من دون الوفاء بحقوق الفلسطينيين التاريخية العادلة، وفى كلِّ الأحوال لن تُحَلَّ على حساب الدولة المصرية، كما قال الرئيس.
أراد السنوار أن يخدشَ وجه الدولة العِبريَّة ويحطَّ من كرامتها، وقد أنجز غايتَه لعِدَّة ساعات، ثم كان دور نتنياهو فى توجيه الضربة الثانية، وقد جاءت قاتلةً منذ القذيفة الأُولى، وخَنق الغَزيِّين فى القطاع عبر إغلاق المعابر وقَطع البضائع والوقود، وإلى حشد عِدَّة ألوية وكَنس الأرض بالمُجنزرات من البشر والحجر، وتسليم الأبرياء المنكوبين فريسةً لجيشٍ من السفَّاحين ومصَّاصى الدماء.
كان الجوُّ صاخبًا، وأبعادُ الميدان غير مُكتملة. وبأثر الفوضى الافتتاحية، ظهرت الفصائلُ فى مَوضع السبق، وتيسَّر لنتنياهو أن يُغطِّى سردية المظلومية وتوحُّش الغريم، فانطلق العدوان مدعومًا بإسنادٍ غربىٍّ كاسح، مع حيادٍ من بعض القوى الإقليمية والدولية، وارتباكٍ تسلَّط على أغلب العواصم العربية؛ لا سيَّما الداخلة حديثًا فى مسار التطبيع، أو التى وقفَتْ على مرمى حجرٍ منه قبل مُقامرة الحماسيِّين.
ولا يُمكن الوقوف على الاختناق الراهن، بمعزلٍ عن المُسبِّبات التى قادت إليه. بمعنى، النظر فى الأفعال والردود وانعكاساتها النفسية. وإذ يُنظَر للطوفان من جانب على أنه عملٌ مقاوم مشروع؛ فإن المكوِّن الأيديولوجى فيه يظل كبيرًا وحاكمًا، أقلّه من جهة أطراف بعينها تضرّرت من عملية حماس، ولعله كان ضررًا مقصودًا ومُخطَّطًا له، وليس عشوائيًّا ولا عفو الخاطر.
والقصد؛ أنها ليست مُنازعة ثنائية كما يتبدَّى فى مُسطّحها ثنائى الأبعاد. إنها مواجهة بين المقاومة والاحتلال من جانب، ومع الاعتدال والمُمانَعة والشيعية المُسلّحة ومصالح العرب الحيوية من جوانب أخرى، ما يشبك الجبهات اضطرارا ببعضها، ويُلقى من نتائج كل واحدة على غيرها، ويومض بإشارة حمراء للمعنيين من كل الأطراف، بأنهم إزاء قنبلة واحدة بأكثر من مفتاح أمان.
دخل ترامب على الخط من أشد النقاط سخونة، وبتصاعدٍ غشوم أخذ يتحدث عن التهجير، ثم عن الاستيلاء على غزة. أزالت الولايات المتحدة ستار الوساطة وجاهرت بالانحياز، وصار واجبًا على المعنيِّين بالقضية أن يرصصوا الصفوف، ويعيدوا ترتيب الأوراق، ويستدركوا على أنفسهم ما كان من سذاجة واستخفاف وقصور نظر.
حُمِّلت فلسطين أعباء صراعات أكبر منها وأبعد. وإذ دخلت الجمهورية الإسلامية على الخط، وتاجرت بالقدس لتمرير مشروعها الشيعى الفارسى من قلوب العرب السنّة؛ فإنها لوّثت قضايا المنطقة فى محيطها وأمام العالم، وعكَّرت الماء بين شركاء الهمّ الواحد، وتركت البيئات التى تمدّدت فيها أضعف مِمَّا كانت، والعدو أقوى ميدانيًّا، وأصلب فى السردية ودعاياته الملوّنة.
والحال؛ أن هجاء الراديكالية المذهبية وما جنته على البلاد والعباد، قد يُريح العاطفة ويبرّد نار الغضب؛ لكنه لا يُغيِّر حقيقة الإجرام الصهيو-نازى طبعا، ولا يصرف الأنظار عن تحوّلات الموقف الأمريكى بشكل أكثر حِدّة وسفورًا عمَّا عهدناه، ويتعيّن ألا تكون الصراعات الهويّاتية داخل الدائرة الواحدة، مدخلاً لاستنزاف مزيد من الوقت والطاقات، أو إثارة الغبار فى ساعة الاحتياج إلى قرار.
يُلام على «حماس» فى كثير من الأمور، بدءا بانقلابها قبل قرابة العقدين، وإلى الاستبداد بحُكم القطاع بالحديد والنار، وذبحه بسكّين صدئة تحت أقدام الاحتلال. واللوم على المُحتلّ أكبر فى كل الأحوال، ويجب ألَّا تتحكَّم مصالح البعض مع الثانى أو حنقهم على الأول فى اتخاذ قرارات انفعاليّة، أو الصدِّ عن المواقف الإقليمية الجادة، وعن استشراف مخاطر الرخاوة اليوم على ما يتهدد المنطقة ودولها غدا، وفى أى مستقبل لا تتوافق فيه عواصمها الكُبرى على مُحدّدات استراتيجية وأمنية غير قابلة للكسر أو التفريط.
عَقَّد الحماسيِّون مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وأوقفوا القطار قبل الوصول إلى محطة الرياض. والمملكةُ من جانبها أعادت تثبيت المواقف المبدئيّة تجاه القضية الفلسطينية، وشدَّدت على أنه لا سبيلَ للتقارُب وإقامة علاقات طبيعية مُثمرة من دون اللقاء على تصوُّرٍ أوسع للسلام، يكون «حلّ الدولتين» ركنًا أصيلاً فيه.
ورغم استمرار مُحاولات واشنطن وضغوطها؛ فالأرجح أنَّ عجلة إسرائيل لن تعود للدوران من المحيط للخليج كما كانت فى السنوات القليلة الماضية.
وإذ يلتئمُ القادةُ العرب فى قمَّتِهم الطارئة بالقاهرة، اليومَ، فإنهم مَدعوّون لاستشعار حراجة اللحظة، وقراءة الظَّرف المُربِك والمُركَّب على الوجه السليم، بما يسمح بانتشال غزَّة من مُستنقع النار والدم أوّلاً، ثمّ إطفاء مجمرة الجنون، وتقويم مسار فلسطين بكاملها، والأهمّ توظيف عناصر القوَّة المُشتركة فى بناء جدارٍ عالٍ حول الثوابت المشتركة، والبُعد عن المُناكفة ومكايدات البحث عن أدوارٍ لا تتيسَّر لبعض الباحثين، ولا تُنتَزَع من الجغرافيا والتاريخ بالنِّيَّة أو الوَفرة فقط.
تصدَّت القاهرةُ وحدها للخطابات الشعبوية من جهة الصهاينة، وردَّت فى كلِّ مُناسبة وسياقٍ بأسرع السُّبل وأوضحها، وصعَّدَتْ فى لُغتها الدبلوماسية، وفيما يتجاور معها من رسائل مُعزَّزَة بالقوَّة، سقطت فى صناديق البريد المقصودة، واستوعبها المَعنيّون بها تمامًا. والحال أنها ثابتةٌ على خيارها، ومُتشدِّدةٌ فيه، وقادرةٌ على المُواصلة؛ لكنها تعرف فضل الجماعة على الفرد مهما بدا قويًّا وصامدًا، وتسعى لبناء حالة إجماعية يكون من جُملة معانيها، أنَّ الأفكار المطروحة من خارج للعقل تُخاصم مجالاً إقليميًّا كاملاً، وتُعرِّض مصالحهم قبل الآخرين لخطرٍ عظيم.
عُقِدَت رايةُ القيادة الإقليمية لمصر عقودًا طويلة، وما تزال الرقم الأصعب فى منظومة العمل العربى المشترك. صحيح أنَّ خرائط الجيوسياسة تحرَّكت نوعًا ما، وخلَّقَت أوضاعًا مُستجَدَّة أعادت ترسيم التوازُنات وحدود القوّة، وخصمت أو أضافت لطرفٍ على حساب آخر؛ لكن القاهرة ما تزال العنوان الأبرز والأهمّ لفلسطين، وفى أىِّ مشهدٍ يتَّصل بالقضية وصراعها المفتوح منذ ثمانية عقود. أوَّلاً لأنها الجار المُباشر والأخ الأكبر، ولأنها صاحبةُ الانتصار العسكرى الوحيد على الصهاينة، ولديها تجربةُ سلامٍ حَرِج بُنِيَت على تكافؤ واتّزانٍ واحتياجٍ مُتبادَلٍ، وليست تطوُّعًا أو رفاهية أو بضغوطٍ من الخارج.
وصفوةُ القول هُنا؛ أنه لا حَلَّ أو عَقْد فى فلسطين بعيدًا من مصر، أو خارج رؤيتها وإرادتها الخالصة. تجلّت الحقائقُ بوضوح على مدى السنوات الطويلة الماضية، وفى المُقاربات الفاعلة منذ بداية الحرب الأخيرة إلى الهُدنة الثانية، القائمة حتى اللحظة، وبرزت الإشارةُ بأقصى ما يكون من الوضوح خلال وجود العاهل الأردنىِّ فى البيت الأبيض، ودعوته إلى انتظار رؤية مصر، والخطَّة التى تعدّها وسيحملُها العربُ إلى واشنطن.
وعليه؛ فالقمّة العربية الطارئة مُنتدَبَة لمُهمّة واحدة: الردّ الحاسم على أُطروحة التهجير، مشمولاً بالبديل المصرىِّ المُكتمل فى مشروعٍ لإعادة الإعمار مع وجود الفلسطينيين على أرضهم. والالتحاقُ بالرَّكْب ليس مِنّةً ولا مَكرمة؛ بل التزام قومى وأخلاقى، وواجب تجاه قضية العرب المركزية؛ لا سيَّما لو درج البعض على النظر إليها باعتبارها «قميص عثمان»، ولطالما اتَّخذوها وسيلةً للابتزاز والمُزايدة.
سيفرز الحدثُ تلالَ العواطف والدعايات والمواقف السياسية على مدار الشهور الماضية، ويُقدِّمُ صورةً حديثة ومُنقَّحة من الانشغال الحقيقىِّ بنكبة غزّة، ومزاعم العمل الجاد والدؤوب لصالح القضية. لن يُفهَم الغيابُ على أىِّ معنىً سوى الخذلان، وربما التشغيب واختصام الكبار فى أدوارهم التاريخية، وتقديم الذاتىِّ على الموضوعى بمَوفورٍ من الأنانية والرغبة فى إضعاف الجبهة الواحدة.
شكلاً، قد تبدو القمَّةُ لقاءً تقليديًّا قليل الأثر كسوابقها، وكانت ثمّة تجربة طارئة أيضًا فى «جدّة» بعد عدَّة أسابيع من طوفان الأقصى. ربما لن تخرُجَ التوصياتُ عن أيَّة نسخةٍ مَضَت، وإن زاد القولُ فى التهجير وأخذت الصياغةُ طابعًا صارمًا؛ لكنَّ المُغاير هنا أنَّ الرفض يُشفَعُ بحَلٍّ مُتكامل لإعمار غزَّة، وترتيب اليوم التالى فى القطاع، ويَرُدُّ على الولايات المتحدة رأسًا ببرنامجٍ ناضج، فى مُقابل أطروحاتٍ شعبويَّة لا ظِلَّ لها ولا مضمون.
تداولَ الصهاينةُ كثيرًا فى فكرة إزاحة الغزِّيين نحو سيناء والأردن، ومنحها ترامب زخمًا بخَلطِها مع أطماعه العقارية، ثمَّ عادت بعض الوجوه فى إسرائيل لتتحدَّث عن بدائل أقلّ عدائيَّة وإن لم تَقِلّ فى الوقاحة، مثل اقتراح لابيد بأنْ تتولَّى مصر إدارة القطاع. وبينما ترفضُ القاهرة أىَّ مسارٍ غير فلسطينى؛ فإنَّ تتابُع الأوهام غير القابلة للتطبيق إنما يَنُمّ عن أزمةٍ صهيونية حقيقية، وافتقادٍ للرؤية والحلول المُقنعة، وعجزٍ كاملٍ عن فرض الأجندة الإلغائيّة، أو التمادى فى مُغامرة الصدام مع الجوار.
تقود مصر قافلة الإنقاذ؛ لأنها الطرف الأقرب والأكثر إخلاصا للقضية منذ بدايتها، وتُعدّ الخطة البديلة عن أجندة العدو وداعميه؛ لأنها خزّان الفِكر والإمكانات البشرية، وصاحبة التجارب الوطنية الناهضة فى البناء والعمران، وتتجلّى محور ارتكاز للحركة العربية الراهنة؛ لأنها قلب الإقليم ومجمع قوّته، ولأن الأدوار راسخة بالجغرافيا والتاريخ، والفاعلية تُبنى على مداميك عِدّة، قد ترى واحدًا منها هنا أو هناك؛ لكنها تجتمع بهيئتها الكاملة فى القاهرة.
القمّة ستُظهّر موقفًا موحّدًا للعواصم العربية الكُبرى، وعلى الأرجح ستنبثق عنها لجنة مُكلفّة بتسويق الخطة المصرية، ويتعين أن تتكامل مع جهود دبلوماسية موسّعة للتواصل مع الشركاء الإقليميين والدوليين، وتكثيف العمل على محورى الإنقاذ والإعمار، واليوم التالى بملكية فلسطينية خالصة، والدفع بحل الدولتين قُدمًا ليبقى فى واجهة المشهد.
يعرف الغزّيون العاديون الآن أنهم يستندون لجدارٍ لا يتزحزح، وأن مواقف مصر تمثل خطّ دفاعهم الأبرز والأكثر حصانة ضدّ أيّة مُخطّطات عدائية. والدائرة العربية بكاملها تعرف هذا، ولو لم يصرّح به البعض. تُعيد القاهرة ابتعاث الفاعلية الإقليمية من رقادٍ طويل، وتستند إلى الأشقاء أيضًا؛ لكنها تظل رُمّانة الميزان، والطرف الذى يُحسَب حسابه من العدوّ البعيد والقريب.. القمّة تسدّ أبوابًا وتفتح أُخرى، وتفرز القلوب والنوايا، وتُعيد ترتيب الصفوف، وتُرسى القاعدة التى كانت قديما وما غيّرتها الوقائع: الحل والعقد دومًا من القاهرة، وتحت قيادة مصر.