قمة أسمرا الثلاثية: تعاون إقليمي أم محور البحر الأحمر الإفريقي؟
التقت مخاوف واهتمامات الدول الثلاث في ملف أمن البحر الأحمر بشكل مباشر؛ فقد أدت اضطرابات هذا الأمن منذ أحداث أكتوبر 2023 في فلسطين المحتلة إلى خسائر هائلة في مدخولات مصر من تجارة البحر الأحمر
عادت العاصمة الإريترية أسمرا إلى واجهة التغطية الإعلامية القارية والدولية إثر استضافتها (10 أكتوبر الجاري) الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (أول زيارة لرئيس مصري لإريتريا منذ استقلال الأخيرة عن إثيوبيا في العام 1993) في قمة ثلاثية ضمت السيسي والرئيس الإريتري أسياس أفورقي ونظيرهما الصومالي حسن شيخ محمود الذي وصل لأسمرا قبل نحو 24 ساعة من انعقاد الاجتماع مما يشير إلى وجود تنسيق صومالي- إريتري مستدام يكمله زخم مصري متصاعد مما حدا ببعض الدوائر وصف القمة بأنها إطلاق لمحور مصري- إريتري- صومالي أو أنها ضمن مساعي مصر “لتطويق” إثيوبيا على خلفية الخلافات العميقة بين البلدين في ملف إدارة سد النهضة وتشغيله.
لكن القمة كانت في واقع الأمر تعبيرًا حقيقيًا عن مستوى رغبة الدول الثلاث في تعزيز التعاون فيما بينها في ملفات ومخاوف مشتركة تستند في جوهرها إلى مبادئ العمل الجماعي الإفريقي وقواعد الاتحاد الإفريقي التي تجنح لاحترام سيادة الدول الأعضاء وصيانة السلم والأمن الإقليميين؛ كما في حالة أهم الملفات: الأمن في البحر الأحمر، وفي الصومال، وفي السودان حيث تلتقي سياسات مقديشو وأسمرا والقاهرة بشكل شبه متطابق في هذه الأسس.
الأمن في البحر الأحمر: مواجهة التهديدات المشتركة
التقت مخاوف واهتمامات الدول الثلاث في ملف أمن البحر الأحمر بشكل مباشر؛ فقد أدت اضطرابات هذا الأمن منذ أحداث أكتوبر 2023 في فلسطين المحتلة إلى خسائر هائلة في مدخولات مصر من تجارة البحر الأحمر، وأثرت -بدرجة أقل- على عائدات إريتريا والصومال من هذه التجارة. فقد قدرت مصادر مصرية خسارة الاقتصاد المصري بعد شهرين فقط من اندلاع الأزمة بنحو 150 مليون دولار (يناير 2024)، كما أكد الرئيس المصري في سبتمبر 2024 خسارة قناة السويس أكثر من 60% من عائداتها السنوية في الشهور من فبراير- أغسطس 2024([1])، كما ترى القاهرة أن تدخل الدول غير المشاطئة للبحر الأحمر في شئونه وترتيبات الأمن به يعد انتهاكًا خطيرًا وغير مقبول في هذا الإقليم.
اقرأ أيضا.. إفريقيا وأزماتها رهينة النظام العالمي..فكيف يمكن الخروج من الهامش؟
واتضح ذلك في لقاء وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينج T. Lenderking في واشنطن، حيث أكد عبد العاطي رؤية مصر بالربط بين أمن البحر الأحمر والاستقرار في القرن الأفريقي، ودعم القاهرة لجهود التوصل إلى “حل سياسي شامل” للأزمة في اليمن على نحو يتسق مع مبادرة مجلس التعاون الخليجي وآليات تنفيذها ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني (اليمني)، وقرار مجلس الأمن رقم 2216([2])؛ الأمر الذي يعني تمسك مصر بمقررات المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة في جنوبي البحر الأحمر واستبعاد أية اضطرابات خطيرة تلحق بهذا المسار وتعمق من أزمات الإقليم مثلما تمثل في مذكرة التفاهم التي وقعتها إثيوبيا مع إقليم ارض الصومال مطلع العام الجاري وتعتبرها القاهرة (مع مقديشو وأسمرا) انتهاكًا غير مسبوقًا لبنية الأمن والاستقرار في البحر الأحمر.
أما إريتريا فإنها باتت تنظر بتوجس إلى تطلعات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى الافتئات على سيادتها بعد تصريحات ملفتة بأن بلاده ستسعي بكل السبل للحصول على منفذ على البحر الأحمر، ما اعتبرته أسمرا تهديدًا مباشرًا لها، رغم الدور الكبير الذي لعبته إريتريا في حماية نظام آبي أحمد من السقوط خلال حرب التيجراي (نوفمبر 2020- نوفمبر 2022).
وأن تطلعات آبي أحمد تتنافى نظريًا مع استمرار الافتئات على حالة الدولة المتماسكة stateness في إثيوبيا بعد هزيمة جبهة تحرير التيجراي في صورة استمرار وجود قوات إريترية لضبط الأمور داخل مناطق إثيوبية بعد قيام تلك القوات بجهد كبير في شمالي إثيوبيا لدعم حكومة إثيوبيا الفيدرالية. كما لا تزال قوات الدفاع الإريترية واحدة من أطراف الصراع داخل الأراضي الإثيوبية بعد نهاية حرب التيجراي إذ كشفت تقارير في العام الماضي (2023) بدء انسحاب قوات الدفاع الإريترية من إقليم التيجراي (يناير 2023) بعد نحو شهرين من هزيمة قوات جبهة تحرير التيجراي ([3]).
كما كشف قائد جبهة تحرير التيجراي الشعبية دبرصيون جبرمايكل في مؤتمر صحفي مهم في مكلي عاصمة التيجراي (10 سبتمبر الفائت) عن قيام الجبهة بمفاوضات مباشرة مع إريتريا “قبل ستة أشهر” (مارس 2024) في مدينة دبي باعتبارها جولة محادثات أولى التي مثل الإقليم فيها جيتاتشو رضا رئيس الإدارة الإقليمية الانتقالية في الإقليم، وأكد أن اجتماع دبي تلاها اجتماعات أخرى “مع مسئولين إريتريين”، وأن هذه المحادثات قامت بناء على قرار “اللجنة التنفيذية لجبهة تحرير التيجراي” (والتي تم رفعها من قوائم المنظمات الإرهابية التي تحددها الحكومة الإثيوبية)”، ولفت الزعيم التيجراوي إلى قناعة الجبهة بضرورة تحقيق السلام مع جميع جيران الإقليم “بمن فيهم قوات فانو والحكومة الإريترية”([4])، وتشي تلك التصريحات بحقيقة تراجع تماسك الدولة في إثيوبيا على نحو قد يتجاوز قدرات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الحقيقية ويخصم من تلك المدعاة باستمرار. ومن ثم فإن إريتريا تتخوف بجدية من سياسات آبي أحمد واحتمالات مواصلته مساعي الحصول على منفذ على البحر الأحمر باستخدام القوة، وعلى نحو يتسق مع سياساته بالقفز فوق معضلات حكمه الداخلية عبر الدخول في صراعات وصدامات مع دول في الإقليم.
جاءت مشاركة مقديشو في القمة من منطلق مساعيها الحثيثة لتحشيد إقليمي ودولي ضد الأطماع الإثيوبية المكشوفة في أراضيها وانتهاك سيادتها على نحو غير مسبوق بالاستحواذ على شريط ساحلي في إقليم ارض الصومال حسب مقتضيات مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال المشار لها.
وإلى جانب توفير مقديشو كامل الدعم والتنسيق مع القاهرة وأسمرا للوقوف في وجه الأطماع الإثيوبية فإن اصطفاف العاصمتين الأخيرتين وراء الصومال وجهوده يمثل حجر زاوية في إسناد الصومال لمواصلة سياساته الرافضة للتدخل الإثيوبي الذي يتمتع في واقع الأمر بشبكات دعم داخلية في الصومال بحكم نفوذ أديس أبابا المستفحل في الصومال منذ العام 2006 على أقل تقدير.
دعم قدرات الصومال: ما الجديد؟
يبدو غريبًا أن يعد هدف القمة تحقيق أكبر دعم ممكن لقدرات الصومال وجهوده في بناء الدولة بشكل منهجي ومستدام محل تعليقات وتحليلات بأن القمة تستهدف محاصرة إثيوبيا؛ فالصومال لا يزال بحاجة على أكبر دعم ممكن إقليميًا ودوليًا لتعزيز قدرته على مواجهة تحدياته مثل مواجهة الإرهاب وبناء جيش وطني قادر على حماية سيادة الدولة وتوفير مظلة مهمة لتحقيق الانتقال الديمقراطي المرتقب إلى إقرار نظام الانتخابات الشامل (صوت واحد لكل فرد).
ويبدو التناقض واضحًا في تلك التعليقات إذ باتت القوات الإثيوبية الموجودة في الصومال خنجرًا في ظهر دولة الصومال وتعلن مرارًا وتكرارًا عزمها الالتفاف حول قرارات مقديشو والتعامل المباشر مع حكومات أقاليم مختلفة خلافًا للمواثيق والضوابط المقررة لعمل القوات الإثيوبية في الصومال والتي أقرها الاتحاد الإفريقي (رغم مخالفتها عرفًا جرى تطبيقه في حالات عمليات حفظ سلام في مناطق مختلفة في إفريقيا بعدم مشاركة دول جوار تلك الدول في عمليات حفظ السلام ضمانًا للحيادة وعدم التدخل في شئونها الداخلية).
كما أثار قرار مصر والصومال ترتيب مشاركة مصرية فاعلة في عملية حفظ السلام المرتقب بدء أنشطتها مطلع 2025 الكثير من التعليقات التي تعتبر الخطوة إذكاء للصراع في القرن الإفريقي، رغم أن مهام القوة ومواقع انتشارها ستظل محكومة عن كثب بقيادة القوة وخططها، كما تتجاهل تلك التعليقات حجم الخبرة الكبيرة التي ستنقلها القوات المصرية المقرر انتشارها مطلع العام 2025 للقوات الصومالية وبقية القوات الإفريقية المشاركة مما سيعزز على المدى البعيد خبرات قوات الأمن والجيش الصومالية في مواجهة الإرهاب وعمليات حماية الحدود البرية والبحرية، وسيمثل في النهاية قيمة مضافة في دولة طالما عانت من أزمات مزمنة وقصور في تقديم دعم تدريبي لائق، عوضًا عن حقيقة كشفت عنها التصريحات الإثيوبية الأخيرة بخصوص إمدادات الأسلحة لحكومات إقليمية في الصومال والاستيلاء على عدد من مطاراتها وهي استغلال دولًا لوجود قواتها في الصومال.
وإلى جانب العلاقات الوثيقة بين إريتريا والصومال والتي تعززت في مجال التعاون العسكري منذ سنوات (حيث كانت إريتريا محطة رئيسة في تدريب الآلاف من الجنود الصوماليين لتعزيز قدرات الجيش الصومالي في العقد الفائت) فإن دعم القمة الأخيرة لمسار التعاون الدفاعي بين مصر والصومال سيضيف بعدًا هامًا لمقدرات الأخير.
إذ من المقرر أن ترسل مصر خمسة آلاف جندي لإسناد قوة حفظ السلام الإفريقية، وقوة أخرى لم يحدد حجمها في إطار التعاون الثنائي بين البلدين ووفق اتفاقية التعاون العسكري الموقعة بينهما منتصف العام الجاري.
وستمثل هذه القوة بكل تأكيد إضافة نوعية للقدرات القتالية والدفاعية للجيش الصومالي لاسيما أنها مصحوبة بحزمة مساعدات عسكرية بحرية وبرية مهمة خلافًا لنوعية القوات الإفريقية التي تساهم تقليديًا في عمليات حفظ السلام.
كما أن المساهمة المصرية التي تحظى بدعم إريتري واضح ستمثل إضافة كبيرة لجهود حفظ الجيش الصومالي على سيادة البلاد على المدى البعيد خلافًا للرواية الإثيوبية التي تعتبر التعاون المصري- الصومالي تدخلًا في “شئون القرن الأفريقي”.
قمة أسمرا وتحولات القرن الإفريقي:
أكد البيان المشترك لقمة أسمرا على اتفاق القادة الثلاثة على تعزيز التعاون من أجل تقوية مؤسسات الدولة الصومالية من أجل تمكينها من مواجهة “التحديات الداخلية والخارجية المتنوعة”. كما أكد البيان على أهمية “احترام سيادة واستقلال وسلامة أراضي دول الإقليم”.
ومن الواضح أن البيان انحاز إلى لغة معتدلة وهادئة ومتسقة مع مبادئ العمل الجماعي الإفريقي وحتى مع أسس الشراكة بين الصومال وعدد من القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي والتي تستهدف إعادة بناء مؤسسات الدولة وقدراتها على مواجهة الإرهاب (وهو الأمر الذي أعاد الرئيس السيسي التأكيد عليه عقب عودته من العاصمة الإريترية أسمرا مباشرة) وعلى نحو لا يخرج عن جهود شركاء الصومال في السنوات الأخيرة.
لكن رغم هذه البديهيات فإن إثيوبيا، التي تشهد راهنًا اضطرابات عسكرية وأمنية بالغة الخطورة تعيد إلى الأجواء تهديدات اندلاع حرب داخلية جديدة على غرار حرب التيجراي التي انتهت في نوفمبر 202، تنظر بقلق بالغ، وبتوجه تصادمي مفهوم، نحو مخرجات قمة أسمرا من جهة أن هذه القمة تمثل تحولًا مستمرًا في مسار عزلة أديس ابابا من قبل اثنين من أهم “حلفائها التقليديين” في القرن الإفريقي وهما إريتريا والصومال، واختراقًا مصريًا -من وجهة نظر أديس أبابا- لبناء النظام الإقليمي في القرن الإفريقي، وقدرة أكبر للدول الثلاثة على مواجهة أطماع أديس أبابا في منفذ بحري “بشروط سيادية” على البحر الأحمر.
كما لا يغيب عن نظر إثيوبيا أن القمة عقدت فيما تواصل مقديشو ضغطها لخروج القوات الإثيوبية من الصومال، وبالتزامن مع وصول ثاني شحنات الدعم العسكري المصري للصومال في شكل قطع عسكرية متطورة نوعيًا تنفيذًا لاتفاق الدفاع المشترك (أغسطس 2024).
كما تناولت القمة المسألة السودانية في الوقت الذي يحقق فيه الجيش السوداني تقدمًا مهمًا على حساب “ميليشيات الدعم السريع” التي تحظى بدعم من بعض دول جوار السودان إضافة إلى الإمارات، حسب تأكيدات الخارجية السودانية المتكررة، والتي باتت طرفًا فاعلًا في تحولات القرن الإفريقي منذ وصول آبي أحمد للحكم في العام 2018.
ويؤشر تناول أزمة السودان بين قادة الدول الثلاثة، والتي تتفق إجمالًا في دعم مؤسسات الدولة الوطنية السودانية في مواجهة أية ميليشيات خارجة عليها، إلى عمق التحولات التي يشهدها بالفعل إقليم القرن الأفريقي وجهود قمة أسمرا في مسار تعزيز الاستقرار وسيادة الدولة الوطنية وحماية ترتيبات الأمن في البحر الأحمر أملًا في تحقيق استقرار أكبر يعزز فرص التعاون الإقليمي على أسس حقيقية وندية ومنافع متبادلة وفق قواعد العمل الجماعي الإفريقي.
خلاصة:
رغم أن قمة أسمرا كانت في جوهرها قمة للتعاون الإقليمي وتلبية مخاوف الدول الثلاثة المشاركة دون افتئات على سيادة أو مصالح دول أخرى، فإن التناول الإعلامي والسياسي الإثيوبي (وحتى خارج إثيوبيا في بعض الدوائر المقربة في دول عربية وإفريقية) جنح إلى اعتبار القمة قمة حصار لإثيوبيا وسياساتها الإقليمية وتجاهل هذا التناول السياق الدولتي القانوني الذي جرت فيه القمة ومخرجاتها، وشعبوية المواقف الإثيوبية التي تميل إلى الوصاية على دول جوارها وعلاقاتها الخارجية بالمخالفة لجميع القواعد الإفريقية ذات الصلة.