دعا دونالد ترمب الأردن ومصر إلى قبول مزيد من الفلسطينيين ارتباطاً بإعادة إعمار غزة، قبل أن يستطرد ويكشف عن أن ذلك قد يكون لفترات ممتدة لأن مساحة الأرض صغيرة.
وأثار التصريح ردود فعل بالغة السوء لدى الرأي العام الأردني ونظيره المصري، إضافة إلى بيانات حكومية رسمية تعكس عدم ارتياح شديد للمقترح، وأكثر قراءة للتصريح تفاؤلاً هي أن ترمب غير ملم بتفاصيل القضية وأن التصريح في سياق ممارساته غير النمطية الخشنة، وهو بالفعل متنمر يجهل أصول القضية وحساسيتها، ولكن التصريح لم يكن عفوياً ويحمل في طياته أخطاراً عدة، ويخطئ من يتصور أنه تصريح عابر ويُجرّم من يقلل من خطورته وتداعياته، لأن غرضه خبيث وتداعياته وجودية والطرح له خلفية سياسية واضحة ومتنامية في إسرائيل ولدى اليمين اليهودي والمسيحي في الولايات المتحدة، والمتمسك بأن إسرائيل الكبرى لليهود، وقد كرره مراراً في الماضي وزراء في الحكومة الإسرائيلية، وغالب المعنيين بالشرق الأوسط في الإدارة الجديدة ممن يتبنون هذه الأفكار.
إذاً الأمر يجب أن يؤخذ بمنتهى الجدية لأنه جزء من خطة خبيثة ومكتملة لتمييع الهوية الفلسطينية والقضاء على القضية بأساليب مختلفة وهي الطلقة الأولى من الإدارة الجديدة، وسيجري تبنيها والترويج لها في الخطاب السياسي للإدارة الأميركية وفي إسرائيل من مطلق “الواقعية” في أميركا و”الأيديولوجية” داخل إسرائيل وبين مؤيديها على يمين الساحة السياسية، كما أن التعامل المادي الرقمي مع القضية يتفق مع أسلوب تفكير رجل الأعمال ترمب الذي يعتقد أن كل قضية لها حلول عملية، بصرف النظر عن الحق والباطل، وأن لكل مسألة كلفة ولكل طرف سعر.
اقرأ أيضا.. دمار مخيم جنين: ذكريات جباليا تعود
لم تكن مفاجأة أن ترمب أكد تمسكه بالاقتراح حتى بعد عدم ترحيب الأطراف العربية به، ويُنتظر أن نشهد خلال الأسابيع المقبلة اتصالات أميركية مكثفة مع الأردن ومصر لطرح حوافز للقبول بهذا الطرح، أو في حال رفضه التهديد صراحة بردود فعل وخفض للمساعدات الأميركية المقدمة لهما، والتنبيه والتذكير بنفوذ الولايات المتحدة في المؤسسات المالية الدولية إذا لم تجر الاستجابة للمقترح، وهي ممارسات جديدة تعكس أننا في عهد الدبلوماسية الخشنة والعلنية.
تسعى دول كثيرة منذ فوز ترمب بالانتخابات إلى تأمين علاقات طيبة معه أو في الأقل عدم التصادم معه، بما فيها عدد من الدول الكبرى مثل روسيا والصين والحلفاء الأوروبيين، لكن ممارسات ترمب الصدامية والمتواصلة أثارت كثيراً من ردود الفعل المباشرة والسلبية حتى بين الأصدقاء أو الحلفاء، مثلما شهدنا من الدنمارك وبنما والمكسيك وكندا عندما شعروا أنه تجاوز الحدود الوطنية، وقد عكست ردود الفعل الأردنية والمصرية الموازنة بين القوة والوضوح على رغم أنها بطبيعة الحال تفضل عدم التصادم مع الرئيس الأميركي الجديد مباشرة لأنه ليس مقبولاً المشاركة أو إغفال قضية جد خطرة، وأكدت التصريحات الأردنية أن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين، بينما أكدت مصر رفضها أية اقتراحات في غير طريق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، وهي مواقف ثابتة ومستقرة لدولتين تعدان أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية، وممن يتأثرون مباشرة بالتوترات الإسرائيلية – الفلسطينية، والظلم الإسرائيلي البين في حق هذا الشعب البطل، ومواقف الدولتين لها جذور تاريخية عميقة نابعة من تقدير عميق لخطورة تداعيات التهجير على أمنهما القومي، والمقصود هنا ليس التخويف من ممارسات المهجرين الفلسطينيين، وإنما باعتبارها ممارسة ممتدة وتعكس سياسات توسعية إسرائيلية أخرى.
تجنب الصدام السريع مع ترمب قد يبدو منطقياً وقد يراه بعضهم سليماً من الناحية التكتيكية، لكنه لا يعالج الموقف جوهرياً ولا يفصل في احتمالات التصادم المقبل حتماً، لأنني أعتقد أن ما طرحه ترمب بداية هو اشتباك سياسي جديد ولن نصل إلى نهايته بمجرد تعبير بعض الدول العربية عن رفضها له، وأتوقع أن نشهد مزيداً من الضغط والتصعيد من الجانب الإسرائيلي والأميركي، وأن يتكرر الطلب أو المناورات الكثيرة لتحقيق الغرض نفسه، تطرح معظمها على لسان ترمب ذاته سعياً إلى استغلال اهتمام دول عدة بتجنب التصادم معه شخصياً، وكما ذكرت ستكون أول خطوة هي مزيد من الضغط الاقتصادي، يلي ذلك أو يصاحبه تطوير اقتراح قبول اللاجئين ليكون لمرحلة انتقالية أو موقتة إلى حين التنفيذ الكامل لاتفاق غزة أو ترحيلهم إلى دول أخرى، علماً أنه لا توجد سوابق سمحت فيها إسرائيل بعودة اللاجئين، ويستبعد أن يجري التراجع عن هذه الفكرة لمجرد أن مصر والأردن لم يرحبا بها، لأن التهجير خطوة جوهرية في تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها والحد من الخطر الأكبر على يهودية إسرائيل، ولا أستبعد أن يتطور الاقتراح ليشمل أيضاً استيعاب أعداد إضافية من الفلسطينيين في دول عربية عدة، إضافة إلى تحميل العرب نسبة كبيرة من كُلف إعادة بناء غزة وتهجير الفلسطينيين.
ولهذه الأسباب وغيرها فعلى أكبر عدد من الدول العربية إعطاء هذه القضية اهتماماً خاصاً والتفاعل معها بصورة جدية وشبه جماعية، لأن غرضها القضاء على الحلم الوطني الفلسطيني والعالم العربي، وليس الأردن ومصر هما الساحة والآلية المستهدفة لتحقيق ذلك، كما أن العمل العربي الجماعي حتى إذا لم يكن كاملاً يخفف من تأثير الضغوط الأميركية على كل منهما، خصوصاً أن مواقفهم الجماعية متقاربة وأصلب أمام هذا التطور الخطر الذي قد ينعكس على مصالح كثيرين منهم دون تجاوز الفلسطينيين والأردن ومصر، وأفضل وسيلة لتجنب التصعيد والصدام الحاد هو التنويه السريع والعلني والواضح برفضنا العربي للاقتراح، وبتره من جذوره عبر التوضيح الباكر والعلني برفضه والتمسك بحل الدولتين، وجعل التعاون في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة مرهوناً بتوافر مفهوم سياسي ووقف التهجير، كما على العرب تنشيط جهودهم ضد قضية التهجير في المحافل الدولية أيضاً، بخاصة أن التهجير الجبري جريمة من جرائم الإنسانية وأداة من أدوات الإبادة الجماعية المطروحة على المؤسسات الدولية القانونية.