أفريقيا

قراءة في موجة الاحتجاجات الشعبيّة في كينيا وأوغندا ونيجيريا

جيل ما بعد الألفية الجديدة على الرغم من كونه غير مؤدلج، إلا إنه متطلّع لرؤية بلاده في وضع أفضل، وبالتالي لن يُجدي نفعاً معه أن تكون استجابة الأنظمة الحاكمة أقرب إلى مُسكّنات أو محاولة للتسويف

تتّسم السّاحة الإفريقيّة بديناميكيّة كبيرة على مختلف الأصعدة، بحيث لا تكاد تمر فترة زمنية يسيرة إلا ويقع فيها حدث واحد كبير على الأقل. وممّا يفرض نفسه حالياً على السّاحة الإفريقيّة؛ موجة الاحتجاجات الشعبيّة الآخذة في التمدُّد في كل من كينيا وأوغندا ونيجيريا توالياً، والتي يقودها شباب جيل زد (Generation Z) أو جيل ما بعد الألفيّة الجديدة. وهُم جيل جديد أكثر انفتاحاً وغير مؤدلج في مجموعِه، يطمح في رؤية بلدانه في أوضاع مغايرة ويسعى إلى ذلك.

وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة ومآلات هذه الاحتجاجات الشعبيّة: إلى أيّ مدى يمكن اعتبارها إرهاصات عمليّة تغيير؟ وما هي أوجه التشابه والاختلاف عن موجة “التغييرات غير الدستوريّة للحكومات Unconstitutional Changes of Government” التي ضربت إقليم غرب إفريقيا ومنطقة السّاحل في الأعوام القليلة الماضية؟

موجة احتجاجات شعبيّة آخذة في التمدُّد.. بدأت في كينيا:

قبل نحو شهر من الآن، بدأت موجة احتجاجات شعبيّة اتسعت تدريجياً في كينيا وكانت شرارتها الأولى دعوات شبابيّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم بعد نزولها على الأرض عمّت حوالي 19 من أصل 47 مقاطعة كينية، على خلفيّة مشروع قانون الماليّة للعام الجاري 2024. مشروع القانون كان يستهدف جمع ضرائب إضافيّة بقيمة 2.7 مليار دولار لخفض عبء عجز الموازنة، إذ تستهلك مدفوعات الفائدة 37% وحدها من الإيرادات السنويّة، وتبلغ الديون الكينيّة نحو 82 مليار دولار وسط أزمة اقتصاديّة متزايدة أدت إلى انخفاض قيمة الشلن الكيني بنسبة 22% مقابل الدولار الأميركي منذ عام 2022، وهو ما تسبّب في ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة والنقل والطّاقة في حين أنّ الدّخل ظلّ على حاله دونما تغيير.

وعلى الرغم من تدخل الرئيس الكيني ويليام روتو واستجابته نسبياً لمطالب المتظاهرين الكينيين، بإلغاء بعض الرسوم الجديدة المُقترحة في مشروع القانون ومنها الضرائب الجديدة على تملُّك السيارات، والخبز، وزيت الطعام وتحويل الأموال؛ إلا إنّ الاحتجاجات ظلّت قائمة واتخذت طابعاً مُغايراً هذه المرّة، برفع سقف المطالب إلى درجة المُطالبة بإسقاط النظام جرّاء قتل حوالي 23 متظاهراً بأعيرة نارية أثناء الاحتجاجات في ذلك الوقت، فضلاً عن اتهام روتو ونظامه بالتبعية للغرب والخضوع لمؤسسات التمويل الدوليّة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي

. وبطبيعة الحال، لا يدّخر الصندوق جهداً في وضع مشروطيّات اقتصاديّة وأحياناً سياسيّة قبل منحه قروض جديدة أو قبل تسليمه كامل دفعات قروض تم الاتفاق عليها سلفاً، وذلك من خلال مُراجعات دوريّة اعتاد إجرائها متذرّعاً بالاطمئنان على جاهزيّة الدول وقدرتها المستقبليّة على سداد الدين.

عدوى الاحتجاجات الشعبيّة تنتقل إلى أوغندا:

استمرار الاحتجاجات الشعبيّة الشبابيّة في كينيا كان له تداعيات مُباشرة على الجوار الأوغندي، حيث قام مجموعة من الشباب الأوغندي بالدعوة إلى احتجاجات شعبيّة مماثلة رغم حظر التظاهر في أوغندا إلا بتصريح مُسبق، وذلك بداعي التنديد بالفساد وبما رأوا أنه فشل للرئيس الأوغندي يوري موسيفني في مُحاكمة كبار المسؤولين الفاسدين الموالين له سياسياً أو المرتبطين به بدرجة معينة. الأمر الذي استتبع إغلاق قوات الأمن الأوغنديّة لمقر حزب “منصّة الوحدة الوطنيّة” أكبر حزب مُعارض في أوغندا، بداعي “التعبئة من أجل الاحتجاج”، واستغلال الشّباب الأوغندي في تحقيق مكاسب سياسيّة.

كانت القوات الأوغنديّة قد حظرت التظاهر منذ اللّحظات الأولى لانتشار دعوات التظاهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحذّرت منه بداعي تعريضه السّلم والأمن الداخليَّين للخطر. وقامت لاحقاً بحملة اعتقالات لعشرات ممن قاموا بالتظاهر من دون أخذ تصريح مسبق كما يقضي القانون، وأحيل على إثر ذلك ما يزيد عن 50 متهماً لمحاكمة عاجلة مع استمرار حبسهم احتياطياً، ومن بينهم الإذاعيّة والإعلاميّة فايزة سليمة، وهو ما عقّب عليه الرئيس الأوغندي يوري موسيفني في خطاب متلفز واصفاً المتظاهرين بأنهم “يلعبون بالنّار”. الشّعار الأبرز في الاحتجاجات الأوغنديّة هو مُكافحة الفساد الحكومي على وجه التحديد، حيث تعتبر قضية الفساد في أوغندا واحدة من القضايا الكُبرى المتورّط فيها مسؤولون عموميّون.  كانت بريطانيا والولايات المتحدة في وقت سابق من العام الجاري 2024 قد فرضت عقوبات على عدد من المسؤولين الأوغنديين في قضايا فساد، من بينهم المتحدثة باسم البرلمان الأوغندي أنيتا أمانج (Anita Among) وثلاثة وزراء سابقين وحاليين.

من شرق القارة إلى غربها.. دعوات الاحتجاجات الشعبيّة تصل نيجيريا:

امتدت عدوى الاحتجاجات الشعبيّة والدعوة إليها من كينيا وأوغندا في شرق القارة إلى نيجيريا في غربها، وذلك من خلال دعوات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي دعت للاحتشاد في الشّوارع النيجيريّة مع بداية شهر أغسطس، احتجاجاً على ما وصفته بسوء الأحوال المعيشيّة وغلاء الأسعار الناتج عن حالة تضخّم شديدة بلغت نحو 34.2%. يأتي ذلك في الوقت الذي تمت زيادة الحد الأدنى للأجور بصورة استباقيّة لنحو الضّعف ولكن لم يتم التصديق على القرار بعد من قِبل الرئيس النيجيري بولا تينوبو، بحيث سيصل الحد الأدنى الجديد حال التصديق عليه إلى حوالي 43 دولاراً.

وممّا يمكن ملاحظته في دعوات الاحتجاج النيجيريّة على وسائل التواصل الاجتماعي، كونها مشفوعة بوسوم (#Hashtags) لها دلالة معينة مثل: إنهاء الحوكمة السيئة أو سوء الإدارة (#EndBadGovernanceInNigeria) فضلاً عن وسوم أخرى منددة بفترة حُكم تينوبو ومطالبته بالرحيل (#TinubuMUSTGo) في ظل وجود عديد من المطالب الأخرى التي يأتي من بينها: ضرورة عدم استجابة النظام النيجيري لمشروطيات مؤسسات التمويل الدولية ومن بينها خفض العملة المحليّة (النيرة النيجيريّة) ورفع الدعم التدريجي عن الطاقة والكهرباء، فضلاً عن وجود مطالب أخرى متعلقة بأهمية كشف أجور أعضاء الجمعيّة الوطنيّة (البرلمان) النيجيريّة، باعتبار أنّ أحد أوجه الفساد الحكومي هو المتعلق بسوء الإدارة وعدم وجود قدر من الشفافية في مسألة إعلان أجور موظّفي الدولة وأدائهم الضرائب وكيفية جمع ثرواتهم فضلاً عن إمكانية مُساءلتهم وملاحقتهم جنائياً إن استدعى الأمر ذلك أثناء أو بسبب تأديتهم لوظائفهم الحكوميّة.

الفساد الحكومي.. قاسم مُشترك في موجات الاحتجاج:

على الرغم من وجود طبيعة خاصّة في كل موجة احتجاج على حدة في كل من كينيا وأوغندا ونيجيريا، إلا إنه يوجد قاسم مُشترك كبير أمكن الوقوف عليه في الحالات الثلاثة مُجتمعة، ألا وهو حجم الفساد الحكومي. ففي حين رأى المحتجّون في أوغندا أنّ أحد أسباب بقاء الرئيس الأوغندي يوري موسيفني على رأس السُّلطة لحوالي أربعة عقود متصلة هو عدم مُحاسبته لكبار مسؤولين حكوميين متهمين في قضايا فساد، بداعي أنهم موالين له سياسياً أو مرتبطين به بدرجة معينة، ومن ثمّ طالبوا برحيله جنباً إلى جنب مع التنديد بأوجه الفساد المختلفة وبضرورة محاكمة هؤلاء المسؤولين. الأمر نفسه ولكن بصورة مُغايرة كان أيضاً في الحالة النيجيريّة، والتي برز فيها مطلب الكشف عن أجور أعضاء السُّلطة التشريعيّة (الجمعيّة الوطنيّة النيجيريّة) باعتبار أنّ عدم الكشف عن أجورهم ضرباً من ضروب الفساد وغياب الشفافية.

وممّا يُدلّل على اعتبار الفساد الحكومي في البلدان الثلاثة يمثّل حجر عثرة أمام استقرار تلك البلدان، هو الرجوع قليلاً للوراء مع بداية العام الجاري، والنظر في موقع البلدان الثلاثة في آخر إصدار من مؤشّر مُدركات الفساد. وهو مؤشّر سنوي تُصدره منظمة الشفافية العالميّة لحوالي 180 بلداً وإقليماً حول العالم، يقيس أنواع عديدة من أوجه الفساد الحكومي مثل: الرشوة، إهدار المال العام، استغلال النفوذ، استعمال المحسوبية في التعيينات، البيروقراطيّة المُفرطة في القطاع العام وقدرة بعض المسؤولين على الوصول واستغلال معلومات متصلة بالشأن العام والأنشطة الحكوميّة.

ينبني مؤشّر مُدرَكات الفساد على درجة (Score) ومرتبة (Rank) ممنوحة للدولة، تمثّل الدرجة المستوى المتصوَّر لفساد قطاعها العام على مقياس من صفر وحتى مائة، حيث تعني صفر “الأكثر فساداً” في حين تعني مائة “الأكثر نزاهة”. أما المرتبة فتشير إلى ترتيبها قياساً بالدول الأخرى المُدرَجة على ذات المؤشر. وتتكوّن درجة كل دولة من مجموعة مركّبة من ثلاثة مصادر على الأقل من بين ثلاثة عشر مسحاً وتقييماً مختلفاً لقياس مستوى الفساد، ويتم جمع مصادر البيانات من قِبل مجموعة متنوعة من المؤسسات الدولية المرموقة من بينها البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي.

وبالنظر في آخر إصدار من مؤشّر مُدركات الفساد لعام 2023 الصّادر في بداية العام الجاري، يتبيّن أن البلدان الثلاثة يحتلون مرتبةً متقدمة للغاية في مستويات الفساد الحكومي، حيث تحتلّ نيجيريا المرتبة الـ145 من أصل 180 دولة تم مسح أوجه الفساد الحكومي فيها، مُسجّلةً بذلك 25 درجة فقط من أصل 100 درجة، وهو ما يعني أن مستوى الفساد فيها كبير للغاية. الأمر لم يختلف كثيراً بالنسبة لأوغندا وكينيا، أوغندا احتلّت المرتبة الـ141 وبفارق أربعة مراكز فقط عن نيجيريا، مُسجّلةً 26 درجة فقط من أصل 100 درجة وبفارق درجة وحيدة عن نيجيريا. أمّا كينيا فاحتلّت المرتبة الـ126 من أصل 180 دولة، مُسجّلةً 31 درجة من أصل 100 درجة. وهو ما يعني أنّ كل من نيجيريا وأوغندا وكينيا توالياً، يستشري فيهم درجة كبيرة للغاية من أوجه الفساد الحكومي. فضلاً عن وجود دلائل أخرى تتمثّل في توقيع عقوبات من بريطانيا والولايات المتحدة على مسؤولين حكوميين أثناء أو بسبب أدائهم مهام وظيفيّة حكوميّة، كما في حالة بعض المسؤولين الأوغنديين مطلع العام الجاري.

الحلول الأمنيّة أم السياسيّة؟

على الرغم من وضوح مطالب المحتجّين الشباب في كينيا وأوغندا ونيجيريا، واستناد العديد من المطالب لأسباب جوهريّة متعلّقة بحجم ومستوى الفساد والتبعيّة للخارج، وحالة الخضوع لمشروطيّات مؤسسات التمويل الدوليّة مع ما تفرضه على تلك البلدان من أوضاع ضاغطة تغلّ يدها عن ممارسة حقّها الطبيعي في تكييف برامج الإصلاح الاقتصادي بها بحسب ما يُناسبها وليس بحسب ما يُناسب الصُّندوق، ويوافق عليه. إلا إنّه وفي المقابل، لم ترقى بعد استجابة الأنظمة الحاكمة في كل من كينيا وأوغندا ونيجيريا للمستوى الطبيعي والمأمول.

في كينيا، تم تغليب الحلول الأمنيّة على الحلول السياسيّة، وهو ما رتّب حالات جرحى وقتلى تسبّب في ذاته في خلق حالة من التصعيد ورفع سقف المطالب لمستوى القصاص من القتلة ومواصلة الاحتجاجات حتى بعد استجابة النظام نسبياً للمطلب الرئيسي المتمثّل في الإشكاليات الخاصّة بمشروع قانون الماليّة. زِيد على ذلك سماح النظام الكيني بتنظيم أنصاره لتظاهرات مؤيدة له، خالقاً بذلك طرفاً جديداً في المعادلة وهم المؤيدين أنفسهم مقابل المعارضين، وبالتالي قام برفع حدّة الاستقطاب بين أبناء البلد الواحد ظنّاً منه بأنّ مثل هذه التظاهرات ستساهم في موازنة الكفّة في الشّارع، وهو ما لم يحدث بل ساهم في نتيجة عكسيّة مفادها “تصدير النموذج الكيني” أكثر وأكثر لدول الجوار والمنطقة بشكلٍ عام.

وفي أوغندا، وجد النظام ضالّته في غلق مقر حزب “الوحدة الوطنيّة” أكبر الأحزاب الأوغنديّة المعارضة، بداعي وقوفه وراء الاحتجاجات واستغلال غضبة الشّباب في الشّارع، وهو ما زاد من حدّة دعوات التظاهر وإصرار الشباب غير المؤدلج على المضيّ قدماً فيها، خاصّةً بعد حملة اعتقالات واسعة لما يزيد عن مائة شخص أُحيل على إثرها عشرات لمحاكمة عاجلة. فضلاً عن تصريحات المسؤولين الرسميين، وأبرزهم الرئيس الأوغندي يوري موسيفني بأنّ المحتجّين “يلعبون بالنّار” وهو ما يمكن فهمه من زاوية أنّ النظام الأوغندي لا يُفرّق بين المتظاهرين ولا يرى أن بعض المطالب عادلة، باعتبار أنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن، وهو ما يمكن أن يُزيد الشارع الأوغندي غلياناً بالنظر لافتقار النظام في هذه الحالة لأبسط أدوات إدارة الأزمات بامتصاص غضب الشّارع أولاً وقبل أيّ شيء.

أمّا في نيجيريا، وعلى الرغم من كونها صاحبة أكبر الاقتصادات الإفريقيّة بناتج محلّي إجمالي (GDP) مقدّر بـ507 مليار دولار وفق ترتيب حجم اقتصادات العالم لعام 2023 كما أنها أكبر مُنتج للنفط إضافة لامتلاكها أكبر كُتلة سُكانية في القارة الإفريقيّة، إلا إنها ورغم ذلك تعاني من تحديات هيكليّة كبيرة تتمثل في تحقيق مستوىً غير مسبوق من التضخم في تاريخ البلاد، وصل لنسبة 29.9% في فبراير الماضي، فضلاً عن معدلات الفساد الكبيرة والذي يكاد يكون هو الثابت الوحيد رغم تعاقب الحكومات، وذلك في قطاع النفط على وجه التحديد والتوزيع غير العادل للثروة، فضلاً عن امتلاك السياسيين أسهماً في شركات النفط، وزيادة نفوذ مجموعات المصالح المرتبطة بشركات النفط. وهو ما يمكن رؤيته باعتباره قضايا كُبرى ترتكز عليها الدعوات الاحتجاجيّة، تتطلّب في المقابل أن تكون استجابة النظام بذات القدر من الوضوح والتحديد، غير أنّ استجابة النظام النيجيري لاتزال حتى الآن محدودة للغاية؛ فبعد طلب النظام مُهلة من الوقت للتمعُّن في مطالب الشارع ومحاولة تحسين الأوضاع، ما لبث أن تغيّرت النبرة إلى التهديد والوعيد بأنّ الجيش النيجيري سيتدخّل لوقف العنف في الاحتجاجات الوشيكة أوّل أغسطس، باعتبار أنّها محاولة لمحاكاة ما جرى في كينيا في الأسابيع الماضية

تشابه وتباين.. في موجة الاحتجاجات الشعبيّة وموجة التغييرات غير الدستوريّة للحكومات:

على الرغم من حالة الاقتران أو التزامن بين ما جرى في موجة التغييرات غير الدستوريّة للحكومات في غرب إفريقيا ومنطقة السّاحل في السنوات القليلة الماضية، وفي الشّهر الجاري من العام الماضي على وجه التحديد، إلا إنه لا يمكن النظر لكلتا الموجتين باعتبار أن رافدهما واحد أو أنهما سيُفضيان بالأنظمة إلى ذات المصير. الرغبة والسّعي للتغيير نعم يعتبر قاسمين مشتركين بين كلتا الموجتين، غير أنّ هناك العديد من أوجه التباين، يأتي على رأسها أن التغيير في موجة الاحتجاجات يكون من أسفل لأعلى الهرم، أي من الشّارع وإلى الأنظمة الحاكمة، لا كما في موجة التغييرات غير الدستوريّة كان من أعلى الهرم من حيث السُّلطة الفعليّة، باستخدام السّلاح أو التلويح به ومن ثم القدرة على فرض الأمر الواقع بالقوة.

أمر آخر، هو أنّ موجة الاحتجاجات الشعبيّة بلا قيادة بخلاف موجة التغييرات غير الدستوريّة للحكومات فهي دائماً ما تقترن بقيادة، فضلاً عن بروز جيل ما بعد الألفيّة الجديدة (Generation Z) ليكون هو في مقدمة الأحداث في الاحتجاجات الشعبيّة، وهو جيل جديد غير مؤدلج في مجموعِه بخلاف قادة موجة التغييرات غير الدستوريّة للحكومات، والمنتسبين إلى المركّب العسكري حتى ولو كان على رأس الحكومة أو السُّلطة التي تم الإطاحة بها أشخاص من ذات المركّب العسكري كما في حالة مالي على سبيل المثال. وبالتالي، لا يمكن النظر لكلتا الموجتين باعتبار أنهما من ذات الرافد، غير أنه من الناحية النظريّة يمكن النظر إلى أنّ استمرار الاحتجاجات الشعبيّة وتمدُّدها وزيادة معدّل الاستقطاب والعنف في أيّ منها، من المحتمل أن يدفع بعض القادة العسكريين للتفكير مليّاً في خيارات أخرى، أخفّها وطأةً هو الضّغط على النظام من أجل تهدئة الشّارع والاستجابة ولو نسبياً للمطالب.

إقرأ أيضا : كيف يهدد انهيار الصومال التجارة العالمية؟

ختاماً، الاحتجاجات الشعبيّة في كل من كينيا وأوغندا ونيجيريا لها ما يُبررها، بل لها ما يُشرعنها ويُضفي عليها بُعداً موضوعياً، على الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان أن تُدركه وتبني استجابتها على أساسه. جيل ما بعد الألفية الجديدة على الرغم من كونه غير مؤدلج، إلا إنه متطلّع لرؤية بلاده في وضع أفضل، وبالتالي لن يُجدي نفعاً معه أن تكون استجابة الأنظمة الحاكمة أقرب إلى مُسكّنات أو محاولة للتسويف، بل إنّ أمراً كهذا سيُزيده إصراراً على موقفه مهما كلّفه الأمر ولو بأن يُضحّي بحياته في سبيل نجاح محاولات التغيير. أيام فقط ويبدأ فصل جديد من الاحتجاجات الشعبيّة في نيجيريا وأوغندا وسط حالة من الترقّب الداخلي والإقليمي على حد سواء حول ما ستُسفر عنه تلك الاحتجاجات، الأمر غير القابل للتشكيك هو أننا أمام حِراك تبدو عليه أمارات التغيير من شرق القارة وإلى غربها، مع إمكانية أن تنتقل عدوى الاحتجاجات لبلدان إفريقيّة أخرى مجاورة لأيّ من البلدان الثلاثة.

تبقَى قضايا الفساد الحكومي والديون والاعتماد على القروض الخارجيّة مع ما ترتّبه من مشروطيات اقتصاديّة وشبه سياسيّة، هي المحرك الأساسي لموجة الاحتجاجات الشعبية الحالية وأي موجات تغيير أخرى مُحتملة؛ كونها متعلقة بجوهر حاضر ومستقبل الشعوب الإفريقيّة. المفارقة في هذه الحالة تكمن في أنّ المجتمع الدولي الذي يعتني بإصدار مؤشّر مُدركات الفساد على سبيل المثال، ويضع عديد من الدول الإفريقيّة في ذيل القائمة، بحق، هو ذاته المسؤول عن إفقار إفريقيا وتكبيلها بالديون والقروض والتدخّل في شؤونها الداخليّة وربط كل ذلك بالموافقة على منح القروض أو الإفراج عن دفعات منها، وبذلك يكون المجتمع الدولي في هذه الحالة مُساهم أصيل في عديد من المشكلات الداخليّة الإفريقيّة التي تستعصي أحياناً على الحل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى