ملفات فلسطينية

قراءة تحليلية لواقع البحث العلمي في فلسطين

يشكل نقص التمويل أحد أكبر العوائق أمام تطوير البحث العلمي في فلسطين، حيث تفتقر المؤسسات البحثية إلى الدعم المالي الكافي لتحقيق تقدم ملموس.

يتسم واقع البحث العلمي في فلسطين بتداخل التحديات والفرص التي تشكلت بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية. وعلى الرغم من ضعف الإسهامات الفلسطينية في الأدبيات العلمية مقارنة بالدول المحيطة مثل: الأردن ومصر وسوريا والعراق، فإن الباحثين الفلسطينيين أظهروا مرونة وإبداعًا في مواجهة تلك التحديات.

وفقًا لقاعدة بيانات Scimago للفترة من 1996 إلى 2023، حصلت فلسطين المرتبة 101 عالميًا من حيث الإنتاج البحثي، مسجلة أقل من 0.02% من المنشورات البحثية العالمية بحوالي 15,201 بحث. بينما جاءت الأردن في المرتبة 62 عالميًا بمساهمة تعادل 0.10%، بما يزيد عن 82 ألف بحث، في حين سجلت مصر المرتبة 37 عالميًا بمساهمة تبلغ حوالي 0.49% بحوالي 389 ألف بحث.

أما سوريا والعراق، فجاءتا في المرتبتين 106 و56 على التوالي، مما يعكس الفجوة الكبيرة في الإنتاج العلمي بين فلسطين والدول المجاورة التي يعاني جزء منها الظروف نفسها من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتحديات الجيوسياسية. ولا تكاد هذه الارقام تُذكر عند مقارنتها بالدول العالمية البحثية، حيث في الولايات المتحدة يتم إنتاج ما يزيد عن 16 مليون بحث سنوياً، والصين تنتج قرابة 10 مليون بحث سنوياً، وفي بريطانيا يتم انتاج 477 ألف بحث سنوياً [1].

وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها البحث العلمي في فلسطين، شهدت السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا في عدد المنشورات البحثية الفلسطينية، خاصة في مجالات الطب والهندسة والعلوم الاجتماعية. حيث أظهرت الإحصائيات زيادة متوسطة بنسبة 21% في عدد المنشورات المفهرسة في قاعدة بيانات Scopus بين عامي 2018 و2023، وزيادة في الاستشهادات، حيث حصلت الأبحاث الفلسطينية على معدل استشهادات يبلغ 1.71، وهو أعلى من المتوسط العالمي البالغ 1. ومع ذلك، شهدت براءات الاختراع الفلسطينية تقلبات كبيرة، حيث انخفضت من 65 براءة اختراع في عام 2018 إلى 3 فقط في عام 2023، مما يبرز التحديات المستمرة في مجال الابتكار وتطوير الملكية الفكرية.

وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في الإنتاج العلمي في فلسطين، ينصب التركيز على البحوث العلمية النظرية، أو العلوم الإنسانية، فيما يوجد ضعف ملحوظ في البحوث العلمية التطبيقة والتجريبية التي ينتج عنها منتجات وخدمات صناعية او ترتبط بشكل وثيق بحاجات مختلف الشركات والقطاعات الاقتصادية. وهذا الامر يمكن ملاحظته في ضعف التعاون بين الأكاديميين والشركات التجارية محدودًا، حيث يشكل حوالي 1.3% فقط من إجمالي التعاونات البحثية، هذا الواقع يعكس تحديات كبيرة تواجه دمج الصناعة مع البحث العلمي في فلسطين.

ومع ذلك، بدأت بعض المبادرات في تحسين هذا التعاون، مثل الشراكات بين الجامعات والصناعات المحلية، خاصة في مجالات الطاقة والزراعة والصحة. حيث تعد هذه الجهود خطوات واعدة نحو تعزيز دمج البحث العلمي مع احتياجات المجتمع والصناعة، ولكن لا تزال هناك حاجة ماسة إلى استراتيجيات أكثر شمولية لزيادة فعالية هذه الشراكات وتحقيق تأثير مستدام على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين.

اقرأ أيضا| كيف ساهم كثيرون في إضعاف السلطة الوطنية.. ولماذا؟

فيما يتعلق بالمجلات الأكاديمية الفلسطينية، يكمن التحدي الأكبر في تحقيق الاعتراف الدولي وتعزيز حضورها على الساحة العالمية. تعاني المجلات الفلسطينية من محدودية الموارد والبنية التحتية، مما يجعل من الصعب عليها أن تنافس المجلات الأكاديمية في الدول الأخرى، حيث لا يتجاوز عدد المجلات الفلسطينية المدرجة في قواعد بيانات Scopus أربع مجلات فقط، مقارنة بـ 18 مجلة أردنية و93 مجلة مصرية. ومع ذلك، تقدم منصة معامل التأثير والاستشهادات العربي (ARCIF) رؤية أكثر تفاؤلًا، حيث تم إدراج 18 مجلة فلسطينية في المنصة لعام 2023، وأكثر من 34 مجلة فلسطينية مصنفة في معامل التأثير العربي، وهو ما يمثل تحسنًا نسبيًا مقارنة بالمشاركة الدولية.

يشكل نقص التمويل أحد أكبر العوائق أمام تطوير البحث العلمي في فلسطين، حيث تفتقر المؤسسات البحثية إلى الدعم المالي الكافي لتحقيق تقدم ملموس. وفقًا للبيانات المتاحة من البنك الدولي لعام 2022، تقل نسبة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين عن 0.1% أي قرابة 19 مليون دولار فقط، وهو رقم متواضع مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 2.6%، وحتى بالنسبة للمتوسط الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط الذي يصل إلى 1.59%. فعند مقارنة الإنفاق على البحث والتطوير في فلسطين مع دول الجوار، نجد أن الأردن ينفق حوالي 340 مليون دولار من ناتجه المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، بينما تنفق مصر حوالي 4.8 مليار دولار.

هذه الفجوة الكبيرة تعكس التحديات التي تواجهها فلسطين في تحقيق قفزات نوعية في البحث العلمي. إذ أن هذه النسب المنخفضة تجعل من الصعب على المؤسسات الأكاديمية والبحثية الفلسطينية تنفيذ مشاريع بحثية ذات تأثير كبير، وتعيق الابتكار وتطوير التكنولوجيا المحلية.

من جانب آخر يُنظر الى الجامعات بكونها الرافد الأساسي للبحث العلمي في فلسطين، وعلى الرغم من دورها المحوري إلا أنها تتخصص في جزئية بسيطة للبحث العلمي وهي الأبحاث الأكاديمية، ولكنها ما زالت تتصف بعباءتها التقليدية بوصفها جامعات أكاديمية تعليمية وليست بحثية، ومن جانب آخر تتصف المخصصات المالية الموجهة نحو البحث العلمي في الجامعات الفلسطيينة بمحدوديتها وشحها، وتوجه على شكل مكآفأة أو تغطية تكاليف النشر بدلاً من التوجيه نحو توفير مخصصات بحثية وبنى تحتية لخدمة البحث العلمي.

وعلى النقيض يوجد في الجامعات الفلسطينة قرابة 80 مركزاً بحثياً إلا أنها ليست مراكز بحثية مستقلة ولا تخضع لإشراف مجلس البحث العلمي بل تدرج ضمن تسجيل الجامعة نفسها وترخيصها. وبعيداً عن الجامعات يوجد في فلسطين قرابة 97 مؤسسة بحثية غالبيتها متوقف عن العمل. والذي يعمل منها يعاني من مشاكل مؤسسية سواء في عدم توفر الكوادر البحثية، وضعف المهارات البحثية وغياب المنهجية العلمية في تقديم نتائجهم مما يشكك في كثير من الحالات في دقة النتائج التي تقدم من قبلهم.

على الرغم من التحديات والمعوقات التي تواجه البحث العلمي في فلسطين، تشير البيانات إلى زيادة ملحوظة في عدد الباحثين الفلسطينيين سنويًا. وفقًا لقاعدة بيانات Scopus، كان لدى فلسطين ما يزيد عن 8,659 باحثًا وباحثة خلال عشر السنوات الماضية، مع معدل نمو متوسط يقارب 20%. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يمثل تقدمًا إيجابيًا، إلا أنه يظل متواضعًا مقارنة بعدد الباحثين في دول المنطقة مثل الأردن ومصر. كما أن عدد الباحثين الفلسطينيين مقارنة بعدد السكان لا يزال أقل بكثير من المتوسط العالمي الذي يبلغ حوالي 7,800 باحث لكل مليون نسمة.

بالإضافة الى ذلك، هناك العديد من الفرص الواعدة لتطوير هذا القطاع الحيوي. تتمثل أبرز هذه الفرص في زيادة الاستثمار في البنية التحتية البحثية، وتعزيز التعاون الدولي مع المؤسسات الأكاديمية العالمية، ووضع سياسات تركّز على جودة البحث بدلاً من كميته. بالإضافة إلى تمتع فلسطين بميزة تنافسية في مجالات بحثية مرتبطة أكثر في حالات التنمية في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومجالات التنمية المستدامة في ظل شح الموارد والسيطرة عليها، وتعزيز مجالات مثل: إدارة المخاطر والقضايا المالية المعقدة وهي مجالات يمكن أن تُحقق فيها فلسطين مساهمات علمية ملحوظة من خلال الأبحاث المبتكرة.

علاوة على ذلك، يمكن للشتات الفلسطيني أن يلعب دوراً مهماً في دعم البحث العلمي من خلال المساهمة في المبادرات البحثية والشراكات الدولية خصوصاً توجيه الدعم الأوروبي لتطوير نتاج علمي حقيقي يركز على مجالات تطبيقية تعزز من صمود القطاعات الاقتصادية الفلسطينية، فقد أثبتت مبادرات التعاون مع المؤسسات الأوروبية جدواها في تحسين نتائج البحث، خصوصاً في مجالات مثل: العلوم البيئية والطاقة المتجددة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى